العدد 495 - الثلثاء 13 يناير 2004م الموافق 20 ذي القعدة 1424هـ

نحو إصلاح سياسي ديمقراطي حقيقي

صلاح الدين حافظ comments [at] alwasatnews.com

لم تكن المرة الأولى، لكنها كانت المرة الأكثر تحديدا ووضوحا التي ينفي فيها الرئيس محمد حسني مبارك، حكاية توريث السلطة في مصر، ذات النظام الجمهوري القائم على الانتخاب وليس على التوريث.

ويبدو ان هذا النفي الذي جاء مع مطلع العام الجديد 2004 وهو عام التحديات والتحولات، أغلق ملفا صعبا، تاجر به البعض وزايد به وعليه البعض الآخر، لكن في الحقيقة يفتح في الوقت ذاته ملفات كثيرة، هي بالنسبة الى مصر وشقيقاتها العربيات، الملفات الأصعب والأهم... ونعني بها ملفات الاصلاح السياسي الدستوري الديمقراطي التي يلح عليها الجميع في الداخل ويضغط بها الجميع من الخارج.

ونبدأ بقضية توريث الحكم، وهي معروفة ومقبولة في النظم الملكية، اذ يرث الابن أو الأخ العرش عن ابيه أو أخيه، لكن النظم الجمهورية على مدى القرون والأزمان لا تعرف أو تعترف بتوريث منصب الرئيس من الأب الى الابن، لأنها تقوم على نظام الانتخابات والتصويت العام من جانب الشعب، وليس من جانب العائلة، أو القبيلة، ولم يكسر هذا الأسلوب الا استثناءات ضئيلة، فقد بدأت في عصرنا الحديث ربما في كوريا الشمالية حين ورث الزعيم الحديدي «كيم ايل سونغ» عندما مات الحكم لابنه الرئيس الحالي، ثم حدث الأمر نفسه في سورية، حين ورث الرئيس بشار الاسد الحكم عن ابيه الاسد، وأخيرا في اذربيجان، اذ ورث الرئيس الهام علييف الحكم الجمهوري عن ابيه حيدر علييف!

وبينما شاعت ثقافة الوراثة، وراثة المهنة والحرفة، ابنا عن أب عن جد، في المجتمعات الزراعية والبدوية، قديما، عادت وأطلت حديثا على استحياء كما قلنا في مهن ومناصب مدنية ودينية حرفية وسياسية، على رغم ادعاء الحداثة والتطور، ذلك انه اذا كانت الحرفة او المهنة اليدوية مثلا، تنتقل وتبقى بالتوارث فان المناصب والمهمات السياسية والفكرية خصوصا تبقى وتزدهر بالكفاءة والعدالة والمساواة، في المجتمعات الحديثة، وليس بالتوريث وهو أمر نثق بأنه واضح تماما في مجتمع قديم مثل المجتمع المصري، بين مؤسساته الراكزة على مدى السنوات بل القرون وخبر لعبة الحكم وأتقن صناعة الحكام.

ولذلك كان غريبا على الفكر والمزاج المصري ان يزايد البعض وينافق بحكاية توريث الحكم خلطا للأوراق ودفاعا عن مصالح حالية او مستقبلية، بينما الكل يعرف ان ثورة يوليو/ تموز 1952 أسقطت الملكية ومعها وراثة الحكم وأقامت نظاما جمهوريا تبادل رئاسته اربعة رؤساء حتى الآن، هم محمد نجيب فجمال عبدالناصر فأنور السادات فحسني مبارك، وكلهم استمدوا شرعيتهم من شرعية الثورة وشرعية النظام الجمهوري بالتالي.

ولذلك لاقى النفي الحاسم على لسان الرئيس مبارك، ارتياحا عاما لاسباب موضوعية فقد استقى النفي أهمية من توقيت اعلانه ومغزاه، اذ أتى أولا مع مطلع العام 2004 مقتربا بقوة من عام انتخابات رئاسة الجمهورية في العام 2005، الأمر الذي يستدعي اجراء تغييرات واستعدادات رئيسية من الآن فصاعدا وأتى ثانيا في وقت تلح فيه الاحزاب والقوى السياسية والاجتماعية على ضرورة اجراء اصلاحات سياسية واسعة، تتعايش مصر بها على القرن الحادي والعشرين وأتى ثالثا في وقت تزداد فيه الضغوط الاميركية على كل نظم الحكم العربية لاجراء اصلاحات ديمقراطية تراها ضرورية لاسباب تتعلق بمصالحها وسياساتها ولا نظن ان عاقلا واحدا يمكن ان يتجاهل كل هذه الاسباب ويقف ساكنا امام التطورات الداهمة، التي ان عرفنا بعضها الآن، فنحن لا نعرف بالضبط اكثرها القادم غدا.

وبعد أكثر من نصف قرن على قيام النظام الجمهوري وتوالي اربعة رؤساء وصدور اكثر من دستور، من دستور الثورة الاول في العام 1957 الى الدستور الحالي الصادر في 1971 والمعدل في 1980 وبعد التنقل في العمل السياسي من نظام الحزب الواحد الممثل في هيئة التحرير ثم الاتحاد والقومي والاتحاد الاشتراكي الى نظام الاحزاب المتعددة منذ العام 1976 حتى الآن، وبعد اجراء تحولات جذرية في المفاهيم الايديولوجية والنظم السياسية والاقتصادية، من مركزية الدولة الى الانفتاح الاقتصادي الى اقتصاد السوق والقطاع الخاص، أصبح الأمر يحتاج الى مراجعات كبرى تضع هذه التحولات الكبرى في اطارها الدستوري السياسي والفكري الصحيح، وعلى سبيل المثال فما يجري اليوم من سياسات اقتصادية واجتماعية ومن ممارسات سياسية وحزبية، يتناقض مع بعض مواد الدستور القائم الذي لايزال ينص على الاشتراكية والقطاع العام والتنظيم السياسي الموحد وغير ذلك من مبادئ تم صوغها في مرحلة معينة.

والأمر كذلك فيما يتعلق بكثير من القوانين القائمة القديمة والمستحدثة، فبعضها يتعارض مع الدستور، وبعضها الآخر يناقض تطورات العصر وروحه وممارساته، من حيث الهويات العامة وحقوق الانسان، وحرية تكوين الاحزاب واصدار الصحف، والممارسات السياسية المفتوحة للجميع من دون تمييز.

اما اذا ذهبنا الى الانتخابات وقوانينها من انتخابات المجالس المحلية الى انتخابات البرلمان فحدث ولا حرج، وليس ادل على ذلك من حل البرلمان أكثر من مرة على مدى العقدين الأخيرين لعيوب ونقائص قانونية، فضلا عن ان البرلمان الحالي - برلمان نواب القروض والجنسية المزدوجة والتهرب من التجنيد - مطعون في شرعيته بعد صدور أكثر من حكم قضائي بابطال عضوية عشرات فيه، ابتداء بأحكام المحاكم الادارية وانتهاء بأحكام النقض الدرجة الأعلى من التقاضي.

ولذلك جاء قرار الرئيس مبارك بأن تلجأ الحكومة الى المحكمة الدستورية العليا، طالبة معرفة الوضع القانوني للانتخابات «التكميلية» التي جرت الشهر الماضي، ليضع القطار من جديد على الطريق القانوني السليم، فما قيمة الحديث عن الديمقراطية ان خالفت الحكومة الدستور، وان عاندت القضاء ولم تنفذ احكامه، وان اصرت على اهدار القانون علانية وبالتالي ما موقفها وموقف الحزب الوطني الحاكم ان جاءت احكام المحكمة الدستورية العليا مناقضة لسياساتهما واهدافهما من احتكار الغالبية في برلمان مطعون في شرعيته.

ساعتها سيكون الحل هو الحل، انقاذا للشرعية من الاهدار وللقانون من التلاعب به وللانتخابات من اساءة هدفها وللديمقراطية من تلوينها وتزويرها، بل انقاذا للوطن من ترزية القوانين الذين ازدهرت بضاعتهم مرة أخرى.

وفي ضوء كل الممارسات التي ذكرنا بعضها، ويعرف الكافة بعضها الآخر، وبعد اغلاق ملف الجدل بشأن وراثة الحكم يصبح ضروريا فتح ملف الاصلاح الدستوري الشامل، من دون حذر وبعيدا من التخوفات التي يثيرها المنتفعون، بحجة ان تعديل مادة أو أكثر في الدستور يفتح ابوابا لتعديلات أخرى غير مطلوبة أو بحجة ان الوقت غير مناسب أو ملائم او بحجة ان الاصلاح الدستوري، ان وقع الآن، سيبدو كما لو كان استجابة للضغوط الاميركية أو بحجة ان الارهاب لايزال كامنا ينتظر الفرصة للقفز مرة اخرى الى الساحة، فلماذا الغاء القوانين الاستثنائية!

أما حين نطالب بإصلاح دستوري شامل، في اطار رؤية وطنية ديمقراطية متكاملة، فاننا نعني تمهيد الطريق لاعادة بناء مجتمع التقدم وثقافة الحرية، القادر على الانتقال من الوضع الراهن بأزماته الكثيرة الى وضع اكثر تقدما وتنمية وحرية وفق برنامج سياسي، وعقد اجتماعي يلقى قبول الغالبية ويرمي مصالحها بعد ان ضاقت بها السبل وتحكم الاحتقان والاحباط في حياتها.

ونحسب ان العام الجاري هو الانسب لبدء الاصلاح السياسي والدستوري بحيث يأتي موعد انتخابات رئاسة الجمهورية 2005 ليجد المسرح السياسي متطورا بروح العصر، مرتكزا على شرعية دستورية أكيدة نابعة من ارادة سياسية وشعبية، تنزع الى نظام ديمقراطي أكثر شفافية وحرية ونزاهة وأكثر عداء لرواج الفساد وبقايا الاستبداد وعصابات الاستغلال والحكم الفردي.

ومن ثم فالأمر - وفق اجتهادنا - يتطلب الدعوة الى مؤتمر قومي يجمع كل الاتجاهات والأحزاب والآراء السياسية والاقتصادية والاجتماعية والفكرية لصوغ «عقد اجتماعي» جديد يخلف العقد او العقود التي اقامتها ثورة يوليو على مدى خمسين عاما، عقد يضع مبادئ وأسس دستور جديد ديمقراطي التوجه، يطلق الحريات امام الجميع، ويلغي القوانين الاستثنائية من قانون الطوارىء 1981 الى قانوني الحراسة والعيب، مرورا بالضرورة بالغاء او تعديل قوانين الاحزاب، ومباشرة الحقوق السياسية، والنقابات المهنية، والصحافة، فضلا عن تطهير القوانين القديمة المتوراثة من القرن التاسع عشر مما فيها من مواد تحجر على الحريات وتنتهك حقوق الانسان وفق المعايير الحديثة.

والهدف ليس ممارسة ترف الالغاء والشطب كما سيقول الآن دعاة التحجر اعداء الديمقراطية اصحاب المنافع ولكن الهدف اعطاء نموذج وتقديم قدوة إلى الأشقاء قبل الاعداء تثبت حيوية هذا المجتمع القديم المتجدد القادر والراغب في التحديث والتطوير الديمقراطي وفق ارادته وليس انصياعا لضغط اميركي، او اغواء أوروبي.

الهدف تخليص الثوب من عيوبه المزمنة ومعالجة الجسد من امراضه الفتاكة وتطهير الوطن من عناصر افساده ومفسديه الذين اوصلونا الى مجاهل الفقر والاحباط، بحيث صرنا خلف من كنا نسبقهم بأزمان في ظل الازمة الاقتصادية الاجتماعية والاحتقان السياسي المتحكم ولا أمل في تحقيق ذلك الا باصلاح دستوري سياسي اجتماعي شامل يعيد تركيب الاوضاع وفق ارادتنا ورؤيتنا الوطنية ويكفل الحرية والعدالة الاجتماعية لكل مواطن، مثلما يكفل له حرية التصويت والترشيح لأي منصب من عمدة القرية الى رئيس الجمهورية، كما يكفل له حرية الرأي والتعبير والانتقاد في وطن يؤمن بالديمقراطية ويمارسها حقا، فتنعكس ايجابيا على الاشقاء والاصدقاء وتقوي على مواجهة الاعداء.

أما البديل...

فهو استمرار الهبوط وتعقد الأزمات الداخلية وزيادة الابتزاز الأجنبي باسم الاصلاح وبحجة الدفاع عن الديمقراطية وانفراد «إسرائيل» بسطوة التقدم بعد انفرادها بالقوة النووية والعسكرية.

وساعتها سنكون قد ارتكبنا جريمة العصر وكل عصر، في حق الوطن، مفسحين الطريق اما لهيمنة استعمارية أجنبية مصحوبة بسطوة صهيونية، وإما لسيطرة عتاة التطرف والارهاب.

فلا تلومنَّ الا أنفسكم ان التزمتم السكوت والسكون!

خير الكلام: يقول أحمد شوقي:

تحركْ أبا الهول، هذا الزمان

تحركَ ما فيه، حتى الحجر

إقرأ أيضا لـ "صلاح الدين حافظ"

العدد 495 - الثلثاء 13 يناير 2004م الموافق 20 ذي القعدة 1424هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً