العدد 510 - الأربعاء 28 يناير 2004م الموافق 05 ذي الحجة 1424هـ

مسلسل الحجاج ... طمس ثقافة المعارضة

الدمام - منصور القطري 

تحديث: 12 مايو 2017

هنا الكلام ليس في التاريخ بل في النتائج التي يترتب عليها من تشكيل قناعات الناس وفي تشكيل الثقافة التحتية للمشاهد العربي.

الجانب الآخر يتصل بالكوفة التي تعتبر الأكثر ولاء للإمام علي بعد أن نقل الإمام عاصمته من المدينة، وبعد استشهاده وقيام الدولة الأموية تمركزت حركة المعارضة للأمويين في العراق. ولا نقصد أن المعارضة شيعية فقط بل كانت هناك حركات أخرى في حجمها وقوتها وهي حركة الخوارج ثم ظهرت القدرية والجهمية والجعدية... الخ. لكن السؤال لماذا العراق يكون من مراكز المعارضة وكذلك مصر التي جاءت منها الفئات الناقمة على الخليفة عثمان بينما الشام تظل منطقة صامتة مطيعة من دون معارضة؟

يقول الجاحظ في كتابه «البيان والتبيين»: العلة في عصيان أهل العراق على الأمراء وطاعة أهل الشام أن أهل العراق أهل نظر وذوو نظرة ثاقبة. ومع الفطنة والنظر يكون التنقيب والبحث ومع التنقيب والبحث يكون الطعن والقدح والترجيح بين الرجال والتمييز بين الرؤساء وإظهار عيوب الأمراء وأهل الشام ذوو بلادة وتقليد عن تغيب الأحوال ومازال العراق موصوفا أهله بقلة الطاعة وبالشقاق على أولي الرئاسة.

ويرى عبدالفتاح عبدالمقصود في كتابه الإمام علي بن أبي طالب»: أنه بالأسلوب نفسه الذي بنى به محمد دولته الناشئة بالمدينة مضى ابن عمه يبني في الكوفة. فمن اليوم الذي انتهى إليه أمر أمته كان الإمام في قرارته يشعر بأن عليه عبء تقويم الجماعة الإسلامية على النسق الذي أرادها عليه الرسول (ص).

بينما يتعمق عزيز السيدجاسم في جهود الإمام علي وطريقة تعامله مع الرعية حين يعلق في كتابه علي بن أبي طالب سلطة الحق - اصدار مؤسسة الانتشار العربي 1997م» قائلا: «كانت فكرة علي بن أبي طالب الاساسية أن تكون الكوفة أنموذجا إسلاميا للحكم يعتمد على العلاقة المباشرة بين الخليفة والناس تلك العلاقة التي يضبطها المسجد الجامع والصلة الحرة المباشرة في الأسواق وفي ميادين العمل وفي ساحات القتال حيث لا حدود ولا مسافات ولا أسيجة تفصل المواطن عن الخليفة».

أما طه حسين في كتابه «الفتنة الكبرى» وعلي الوردي في كتابه «وعاظ السلاطين» فيذهبان إلى أن مجتمع العراق مؤلف من القراء وأهل السابقة مثل عمار بن ياسر وغيره. فكان اتباع الإمام علي من أهل العراق يسألونه في كل شيء ويجادلونه في كل عمل يقوم به. ولذلك كانوا يختلفون معه في كل صغيرة وكبيرة. أما اتباع معاوية فكانوا يسيرون معه كما كانوا يسيرون مع مشايخهم في الغزوات أيام الجاهلية؟ يذكر طه حسين أن (خزيمة بن ثابت الأنصاري) وهو من المسلمين الأولين كان يتبع عليا في صفين ولكنه لا يقاتل وإنما كان يتحرى أمر (عمار بن ياسر) فلما عرف أنه قتل قال (الآن استبانت الضلالة) ثم قاتل حتى قتل.

وأضيف إلى ما سبق عامل آخر يتعلق بشخصية الإمام علي وطبيعة القيم التي كان يغرسها في تلاميذه وفي من حوله من الأتباع، فالإمام يعتبر (شخصية حوارية) فقد حاور (الخوارج) كما حاور (أهل صفين)، والحوار بمعناه الحضاري مشروع لا يفهمه الإنسان البدوي القادم من بيئة اجتماعية قبلية، فهي تحتاج إلى تدريب جيل جديد من البشر يحلون مشكلاتهم فيما بينهم بروح ديمقراطية وليس بالعنف والسيف. وتعثر مشروع الإمام علي (بعد ظهور المشروع الأموي) الذي كان يهدف إلى بناء قواعد شعبية مسلحة بالوعي وبثقافة الحوار وعلى مدى تراكم من الزمن أدى ذلك إلى إلغاء الآخر وظهور الفكر العنفي (الإرهابي) والفكر التكفيري الذي نلمس نتائجه حتى الوقت الراهن.

المقاومة السلمية... الكل يمكنه الفعل non-violent resistance

إذا غياب (ثقافة الحوار) وتطور استتبداد الدولة قاد في تشخيصي إلى بروز معادلة طردية بحيث ان كل زيادة في معدل استبداد وبطش الدولة ينتج عنه زيادة في تعدد وسائل مقاومة الناس لذلك العنف. وقد يتبدل موقف جمهور المسلمين الذين اعتادوا حكم الخلفاء المقيد بالشرع والذي تجاوزه معاوية بعد أن أقام سلطته الفردية المطلقة؟ إذ بدأ (زياد بن أبيه) بإظهار مواهبة الإرهابية فقام بابتكار عدة وسائل قمعية: منها منع التجول والقتل الكيفي وكان يعرف عندهم بالقتل على التهمة أو على الظن وقتل البريء لإخافة المذنب وقتل النساء وهو غير مألوف عند العرب ويخبرنا (الطبري) في كتابه (تاريخ الأمم والملوك) أن وكيل زياد على البصرة وهو (سمرة بن جندب) أعدم ثمانية آلاف من أهلها تطبيقا لمبدأ زياد في القتل على التهمة؟ ويذكر (ابن الأثير) في كتابه (تهذيب الأنساب) أن زياد أمر بقطع لسان (رشيد الهجري) وصلبه لأنه تكلم بالرجعة؟ والحكم بقطع اللسان يعتبر تطويرا ابتكاريا لإرهاب الناس كما أنه يدل على السرعة التي تقدمت بها الدولة الأموية في طريق تكاملها كدولة قمعية.

وقد تصاعد القمع الفكري في عهد هشام بن عبدالملك وقد طبق طريقة القتل بقطع الأيدي والأرجل ومنها إعدام (غيلان بن مسلم الدمشقي) بتهمة القول بالقدر؟ كما أعدم الوالي الأموي (خالد القسري) (الجعد بن درهم) بتهمة القول بالقدر أيضا؟ كما أن (الإحراق) استخدم في خلافة هشام فقد قام بإعدام الداعية الشيعي (المغيرة بن سعيد العجلي) حرقا؟

وهناك روايات متعددة في كتاب (مقاتل الطالبيين) (لأبي فرج الأصفهاني) تفيد أن بعض العلويين قتلوا بدفنهم أحياء؟ أما حمل الرؤوس المقطوعة - وتدخل في باب المثلة بالميت - فقد أحياها الأمويون في عهد معاوية، ويقال ان أول رأس حمل في الإسلام هو رأس (عمرو بن الحمق) وهو أحد تلامذة الإمام علي بن أبي طالب وقد قتله زياد بن أبيه. ولعل حادثة حمل رؤوس الإمام الحسين وأصحابه في معركة كربلاء مسكونة في ذاكرة جميع المسلمين إذ ثبتت الرؤوس على الرماح!؟

والحقيقة أن فتح ملف القمع والتعذيب والعقوبات ضد الثائرين على الدولة الأموية قد يحتاج إلى بحث مستقل ولكننا بصدد التهيئة إلى تلك المعادلة الطردية التي تتصل بزيادة معدل الاستبداد والقمع وعلاقته بزيادة وتعدد وسائل مقاومة الناس.

يلجأ الناس في العادة إلى معالجات فردية في مقاومة جبروت الدولة وكذلك عند شعورهم باليأس أمام قوتها العاتية. فقد روي عن (طاووس بن كيسان) وهو من فقهاء القرن الأول عدم شربه إلا من المياه القديمة ولا يجيز شرب الماء من مرافق الدولة الأموية وخزانات مياهها. وروي أيضا أن أحد أصحاب (سفيان الثوري) وهو من متكلمي القرن الثاني قوله: كنت أمشي مع سفيان فنظرت إلى باب قصر مشيد (شاهق البناء) فقال: لم تنظر إليه؟ فقلت: وتكره من النظر؟ قال إذا نظرت إليه كنت عونا له على بنائه لأنه إنما بناه لكي ينظر إليه ولو كان كل من مر به لم ينظر إليه ما عمله. ومعلوم أن قصور السلاطين رمز لغياب العدالة الاجتماعية والعدوان على حقوق الفقراء رأي «المقاومة بالنظر»!.

وامتدت المعارضة الصامتة ومتعلقاتها إلى رفض الاستضاءة بمشاعل المواكب الرسمية التي كانت تمر ليلا ؟ كما عهد المتكلمون من المعتزلة والأشاعرة والظاهرية إلى منع النظر إلى المواكب الرسمية كما منعوا النظر إلى القصور. ليس دخولها فقط بل حتى النظر إليها؟! فإذا كنت في طريقك ومررت بقصر من قصور الدولة وأربابها فلا تلتفت إليه.

وقد جاء (خياط) إلى (عبدالله بن المبارك) وهو أحد قادة التصوف المعارضين يسأله فقال له: أنا أخيط الملابس للسلطان فهل تراني من أعوان الظلمة؟ فرد عليه: إنما أعوان الظلمة من يبيع لك الخيط والإبرة أما أنت فمن جملة الظلمة أنفسهم. ويذكر الشيعة الإمامية قصة صفوان بن مهران الأسدي مع الإمام الكاظم حين قال له الإمام: يا صفوان كل شيء منك حسن جميل ما خلا شيئا واحدا؟ قال: جعلت فداك أي شيء هو؟ قال الإمام: كراؤك جمالك من هذا الرجل يعني هارون الرشيد؟ قال: والله ما أكريته أشرا ولا بطرا ولا للهو ولكن لهذا الطريق يعني طريق مكة ولا أتولاه بنفسي ولكن ابعث معه بغلماني. قال الإمام: أيقع كراك عليهم قال: نعم قال الإمام: أتحب بقاءهم حتى يخرج كراك؟ قال: نعم قال الإمام: من أحب بقاء الظالمين فهو منهم ومن كان منهم فهو وارد النار.

في تقديري إن اسقاطات المعارضة في شكلها المعاصر أي ما تقوم به الشعوب العربية من مقاطعة البضائع الأميركية على رغم المصالحة الحالية بين الدولة العربية والدولة الصهيونية هو نوع من (الجهاد المدني) الذي نطمح أن يتجذر في ثقافتنا العربية والإسلامية.

ولعل أحد أهم الأهداف لهذه الورقة هو تأهيل الفرد العادي الذي ليس مطلوبا منه أن يحمل بندقية أو قنبلة أو بالأحرى تمكينه ذهنيا ونفسيا من أن يكون (شريكا) أساسيا هو وأسرته ومن في دائرته في رفض الظلم والباطل وتعلم كيفية تنظيم مفردات عيشهم وحركتهم ضمن تلك المسيرة. فالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ليس مطاردة الشباب على قصات الشعر أو إحراق محل لبيع الأغاني... الخ، أو أنها وظيفة يحتكرها أولو الأمر، بل يتعداه إلى إقامة بنيان الخير ومقاطعة روافد الشر. وكذلك العمل الاجتماعي لا يقصد منه العمل الخيري التقليدي المرتبط بمؤسسات أو تجمعات دينية أي ما يقترب من المفهوم الإغاثي بل يجب التركيز هنا على الانتقال من إغاثة الناس وتقديم خدمات إعانتهم إلى بناء قدراتهم وتنظيم جهودهم أي الانتقال من مستوى الإغاثة إلى التنمية من خلال فكرة (الشراكة) المباشرة وتسيير العمل الوطني مع أجهزة الدولة؟

وخيار المقاومة السلمي في رفض الظلم (الاجتماعي - السياسي) الأصل فيه أن يبدأ في شحن الطاقات المحلية منسقا فيما بينها ومستهدفا إحداث تغير اجتماعي واقتصادي وثقافي لممارسات سياسية أكثر رشدا وتأثيرا. وإذا كانت هناك اشكال تقليدية للمقاومة كما هو الحال في أدب المقاومة كالشعر والقصيدة والمسرحية فإن الأدوات والوسائل تتطور والنكتة اليوم تعد من أسلحة أدب المقاومة. فنكتة المقاومة تمثل اليوم ظاهرة تعويضية بمعنى أنها تعوض الشعب بالانتقام من ظالمه من خلال الكلمة، ومعلوم أن النكتة عند العوام أشيع وأمتع.

وعند تفحص أدوات ووسائل المقاومة السلمية يجب أن نرصد إلى جانب النكتة والمظاهرة والاعتصام والمقاطعة والانتفاضة والكتابة على الجدران وما يتم حاليا على الإنترنت وغرف الدردشة التي تمثل ساحات للنضال الفردي! كما يجب إلا نستغرب من انتشار أدوات المقاومة حتى عبر الأغنية. واعتقد أن سر نجاح وانتشار ظاهرة المغني (شعبان عبدالرحيم) ليس لأنه مغن من الطراز الرفيع، فهو مجرد رجل عادي (يعمل في كي الملابس) وإن سر نجاحه هو استجابته لرغبة الشعب العربي وعلى الخصوص عامة الناس الذين يرغبون في التعبير عن ما يتعرضون له من تهميش فأصبح الجميع يردد (أنا بكره إسرائيل)





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً