العدد 511 - الخميس 29 يناير 2004م الموافق 06 ذي الحجة 1424هـ

سورية من الداخل

فايز سارة comments [at] alwasatnews.com

.

تبدو صورة سورية اليوم في ظاهرها مختلفة عما كانت عليه في سنوات سابقة. ففي الصورة السورية الراهنة، ثمة حراك سياسي واجتماعي له هامش ملموس، يمثله نشاط لجماعات سياسية معارضة وأخرى في اطار الجبهة الوطنية التقدمية، تحاول فيه الاولى كسر الخطوط الحمراء، فيما تحاول الثانية تجاوز الطابع التقليدي لعلاقاتها بالسلطة والحزب الحاكم، واضافة الى الاثنتين، تسعى جماعات أهلية بينها لجان إلى إحياء المجتمع المدني وجماعات حقوق الانسان وغيرها تفعيل دورها في الحياة العامة واحياء حس المواطنية في تأكيد حقوقها وواجباتها في اطار دولة الحق والقانون.

كما يظهر في الصورة السورية الراهنة، شكل مختلف لما درجت عليه صورة الاعلام السوري، فهناك صحافة حزبية أخرى غير صحافة الحزب الحاكم، وهناك صحافة اهلية اضافة الى الصحافة الرسمية، التي احتكرت صورة الاعلام السوري لعدة عقود. وتحاول الصحافتان الحزبية والاهلية من منطلقات مختلفة، توسيع هامش تناولها للموضوعات المتصلة بالشأن الداخلي والذي فيه آراء وتحليلات مختلفة، دون ان يصل الاختلاف حد التصادم الحاد. ووسط هذا الوضع، ينشط صحافيون وكتاب في تغطية، كانت مقيدة، وقد صارت افضل للموضوعات الداخلية في سورية لصالح منابر وشبكات اعلامية عربية واجنبية، من دون تعرضهم لمشاكل كبرى، كما كان يحصل في السابق.

وتترافق المعطيات الايجابية في هوامش الحراك السياسي والاجتماعي مقترنة بهوامش الحركة الاعلامية، مع اجواء افضل تتصل بحق القول الذي توسعت هوامشه في الاعوام الاخيرة، فصار بالامكان انتقاد سياسات الحكومة وربما توجيه اللوم الى بعض شخصياتها، وينطبق الامر على الحزب الحاكم ومسئولين فيه، وأصبح الامر أكثر من توجيه النقد الى طرح مطالب محددة هدفها إحداث تبدلات نوعية في طبيعة العلاقات القائمة بين الدولة والمجتمع. ولا يقتصر تحسن اجواء حق القول على الجماعات السياسية والاهلية، بل تحسن داخل المؤسسة البرلمانية التي ذهب اثنان من اعضائها قبل عامين الى السجن بسبب ممارستهما هذا الحق (القول)، وقد كان واجبا عليهما. وقد تحسن مستوى حق القول، ليصير اوسع في الصحافة السورية والمجتمع طالما ليس هناك إضرار بشخصيات محدودة او بمصالحها الحيوية.

وهذه الصورة العامة الشائعة عما هو قائم في سورية، ترضي كثيرا من المتفائلين بمستقبل افضل لسورية والسوريين، واجزم ان هؤلاء كثر، وحاضرون في صفوف السلطة والمعارضة، كما في صفوف المجتمع وهيئاته المختلفة، وكذلك في صفوف السوريين في الخارج الذين تسعى أكثريتهم الى انهاء منافيها، وتصفية تبعات اغتراباتها الاجبارية واستعادة مواطنيتها المجمدة بقرارات رسمية، لا تطرق بوابة تصفية إرث ثقيل لمراحل سابقة، غدت بعضا من التاريخ السوري.

وبخلاف محتويات الصورة العامة الشائعة، التي تحمل قدرا من التفاؤل بشأن المستقبل، فان ملاحظات ذات اتجاه آخر، تبدو على هوامش الصورة، بينها القول بان هامش الحراك السياسي والاجتماعي، يتعلق بصورة سورية في الخارج أكثر مما يتصل باحداث تبدلات في العلاقة بين الدولة والمجتمع بقواه السياسية والاجتماعية. ويستند اصحاب هذه الملاحظة الى عدم تفاعل السلطات مع مضامين الحراك السياسي والاجتماعي وتجاهل محتوياتها وخصوصا المطالبة بالغاء قانون الطوارئ واطلاق معتقلي الرأي. ويضيفون الى ذلك القول، ان بعض السياسات والتصريحات ازاء بعض تجسيدات هذا الحراك، لا تنسجم مع سياسة الانفتاح على الآخر السياسي والاجتماعي التي بشرت بها اصوات رسمية على مدار السنوات الماضية، والامثلة على هذا كثيرة، منها استمرار اعتقال بقية العشرة من سجناء 'ربيع دمشق'، ومحاكمة نشطاء حلب الاربعة عشر، واصدار احكام غير قانونية على معتقلي داريا، وعدم تحريك ملف السوريين المقيمين في الخارج.

وثمة ملاحظة اخرى، تقال على هامش الصورة العامة الشائعة، يمثلها القول، انه وبخلاف ما يبدو من تراجع لحضور اجهزة الأمن في التدخل والمتابعة للانشطة العامة السياسية والاجتماعية، فان دور الاجهزة يتضاعف ويتكثف ليصل الى أدق التفاصيل، ومنه تدخلهم لمنع عقد محاضرات في موضوعات عامة، وقيامهم باستدعاءات واسعة على هامش كل نشاط مهما كانت اهميته، وانشغالهم في تجديد ملفات النشطاء بطرق مازالت تلقي الرعب في اوساط أسرهم وأهاليهم الذين اعتقدوا ان سلوكيات كهذه صارت في الماضي.

وقد تكون الملاحظة التالية هي الاهم بين الملاحظات المحيطة بالصورة العامة والشائعة عن سورية اليوم، وهي ملاحظة من طبيعة قانونية، خلاصتها ان كثيرا من حملات الاعتقال والمحاكمات التي حدثت في سورية في العقود الماضية، كانت تستند الى قوانين استثنائية، منها قانون الطوارئ وقانون أمن الدولة، ولم يكن احد يختلف على استثنائيتها، وانها يمكن ان تزول لاحقا وتحمل آثارها ومترتباتها معها، وكان ذلك يعني فيما يعنيه إبقاء القوانين العامة خارج الظروف الاستثنائية، لكن الجديد في ممارسات السنوات القليلة الماضية، تمثل في الدخول على القوانين العامة ومنها قانون العقوبات العام، وتطويعه بما يخدم توجهات السلطات في ايقاع عقوبات قانونية ببعض النشطاء، ومن ذلك محاكمة بعض نشطاء «ربيع دمشق»، التي استندت الى القول، ان شخصا او مجموعة اشخاص يهددون «أمن البلاد» أو «يوهنون عزيمة الأمة» أو «يهدّدون الوحدة الوطنية» وفي هذه الاتهامات بعض الطرافة، التي ليس من حاجة إلى إعلانها عند استخدام القوانين الاستثنائية سواء لتوقيف واعتقال النشطاء أو محاكمتهم.

إن كسر القانون العام لخدمة اهداف من طبيعة سياسية، يلحق شديد الضرر بالقانون وبالدولة وبالمجتمع على السواء، ويتناقض مع دعوات الاصلاح، التي لا شك انه من غير الممكن الدخول فيها في ظل اجتياح القانون وتطويعه لمتطلبات سياسية أو أمنية.

ثمة ملاحظات هنا وهناك، وثمة مخاوف، لكن هناك إيمانا شائعا، بأنه ليس امام سورية والسوريين من خيار آخر في السير إلى المستقبل إلا من خلال الاصلاح الكفيل بمحتوياته المتوجهة نحو دولة الحق والقانون والعلاقات المتوازنة بين المجتمع والدولة، ومما يخفف من تأثير الملاحظات، ويبدد المخاوف رسم مسارات عملية، واتخاذ خطوات إجرائية في اتجاه الإصلاح

العدد 511 - الخميس 29 يناير 2004م الموافق 06 ذي الحجة 1424هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً