العدد 2706 - الإثنين 01 فبراير 2010م الموافق 17 صفر 1431هـ

الكراهية بوصفها دعوة

نادر كاظم comments [at] alwasatnews.com

.

هل كان أصحاب الكراهية، حين جاهروا بكراهيتهم المستفزة، أقوياء أم مجانين؟ وهل يمكن أن يُنتج خطاب الكراهية خارج نظام الحاجة إلى الآخرين لتعزيز كراهيتهم أو لاستفزازهم؟ هل رأيتم، على سبيل المثال، أحدا ألّف كتابا في الكراهية وأبقاه حبيس الأدراج كيلا يطلع عليه أحد من الأتباع أو المختلفين؟

ينبغي، هنا، أن نميّز بين مشاعر الكراهية المكتومة في القلب، وبين التعبير عن هذه الكراهية علنا. وسأعود، في مقالات مقبلة، لتناول الكراهية كشعور، ولكن الثابت أن الكراهية، كما الحب، شعور يتجه إلى الآخر باستمرار، وإلا أصبحت الكراهية – والحب كذلك - شعورا بلا موضوع. كما أن هذا الآخر، موضوع الكراهية والحب، ينبغي أن يطلع على كراهيتنا أو حبنا له من أجل استدراجه لينخرط معنا في علاقة الكراهية أو الحب. ونحن كثيرا ما نتعامل بلامبالاة (أو بلا اهتمام خاص على أقل تقدير) تجاه شخص ما، ولكن معظمنا، حين يبوح لهم هذا الشخص بكراهيته أو بحبه، يستجيبون لهذا البوح بكراهية مضادة أو بحب متبادل، هكذا كما لو كان هذا البوح دعوة ونداء وطلبا لا يُردّ. مما يعني أن التعبير عن الكراهية يتطلب آخر يستقبل هذا التعبير ويتعامل معه كدعوة للانخراط في علاقة الكراهية المتبادلة. وهذا يعني أن التعبير عن الكراهية خطاب يندرج ضمن نظام الحاجة، الحاجة إلى آخرين يستقبلون هذا الخطاب، فتتعزّز قناعاتهم وكراهياتهم (وهؤلاء هم الأتباع وأبناء الجماعة)، أو يستفزّون ويشعرون بالإهانة والدونية (وهؤلاء هم المختلفون وأبناء الجماعات الأخرى).

ومن المؤكد، بناء على هذا، أن أصحاب الكراهية والمجاهرين بها لا يُعدّون من الصنفين الاستثنائيين من البشر (الأقوياء والمجانين)؛ والسبب أن هذين الاثنين خارجان، بطبعهما، على نظام الحاجة إلى الآخرين، الأول بحكم قوته الهائلة، والثاني بحكم جنونه اللامبالي بأحد. في حين يتطلب التعبير عن الكراهية مبالاة بالآخر، واهتماما خاصا بهذا الآخر المقصود بالكراهية، وإن كان اهتماما سلبيا وبغيضا. هل الكراهية امتياز؟ الثابت أنها ليست امتيازا إيجابيا، ولكنها دليل على أهمية الآخر المكروه الذي استحق الكراهية. والكراهية، مهما كانت، هي اهتمام بالآخر والتفات إليه وانشغال به على نحو مستحكم، وربما مَرَضي. ويتطلب هذا أن يكون الآخر المكروه هدفا يستحق هذا الاهتمام والالتفات السلبيين، وإلا هل رأيتم أحدا يستهدف نملة أو حشرة بكراهيته المستحكمة؟!

إذا استبعدنا، مؤقتا، الحاجة الذاتية للتعبير عن الكراهية من أجل التنفيس، فإن التعبير عن هذه الكراهية يتطلب آخر بالضرورة، ولو أن إنسانا عاش وحيدا في جزيرة نائية لا يرى فيها بشرا لما وجد حاجة إلى التعبير عن كراهيته، وسيكون عليه أن يعامل الحيوانات والأشجار كبشر لتتولد في نفسه مشاعر الكراهية تجاهها، والحاجة إلى التعبير عن هذه المشاعر. إلا أن أصحاب الكراهية ليسوا مضطرين لأن يعيشوا تجربة حي بن يقظان أو روبنسون كروز لتتولّد في نفوسهم هذه المشاعر والحاجات البغيضة، فهم يعيشون في المجتمع ووسط الناس، والبحث عن أهداف لكراهيتهم لن تكون مهمة صعبة. إلا أن التعبير عن هذه الكراهية لن تكون مهمة سهلة. وهي، أساسا، لم تكن مهمة سهلة في التاريخ، إلا أن صعوبتها، اليوم، مضاعفة؛ والسبب أن ثمة الكثير من الضوابط والقواعد التي تحكم إنتاج الخطاب وتداوله في المجال العام، وهي ضوابط وقواعد لم تكن معروفة بهذه الصرامة وبهذه العمومية طوال التاريخ.

لقد كانت سيرة هذه الضوابط والقواعد متقلبة ومتفاوتة في صرامتها ومرونتها من عصر إلى عصر، ومن مجتمع إلى آخر. إلا أن الثابت أننا كلما تقدمنا في الزمن صعودا ازدادت صرامة هذه القيود والضوابط، وتعزّزت قوتها، وترسّخت إجراءات مراقبتها ومعاقبتها، وتنوّعت مصادرها. لم يكن الإنسان في الأزمنة البعيدة أو القريبة حرا بالمطلق، ومتحررا من كل ضوابط إنتاج الخطاب وقواعده، إلا أنه، كذلك، لم يكن خاضعا لتحكم صارم يخنق الأنفاس ويشجّع على الكبت، بل كان يتمتع بمساحة مقبولة من الحرية باتت تضيق يوما بعد آخر على الإنسان الحديث في الوقت الراهن. ربما يكون في هذا الاستنتاج شيء من المفارقة، ولكن لنلقِ نظرة سريعة على حجم المؤلفات القديمة والوسيطة وما انطوت عليها من الصراحة والوقاحة والبذاءة والفضائحية والاستفزازية البغيضة والإلحادية الصادمة. ألسنا نجد أنفسنا اليوم عاجزين عن كتابة حتى جملة وقحة وبذيئة وبغيضة في حين كان الأسلاف الأقدمون، في الشرق والغرب والشمال والجنوب، يمتلكون من جرأة القول ومساحة الحرية ما جعلهم يؤلفون مجلدات ضخمة صرنا نراها اليوم، بحكم ضعفنا وهشاشتنا وجبننا ونعومتنا، في غاية الوقاحة والبذاءة والكراهية البغيضة والمستفزة؟ لماذا كانت الثقافة العربية، على سبيل المثال، قادرة على ترجمة «ألف ليلة وليلة» ونسخها وتداولها بنسخ متباينة، في حين يتعرّض هذا الكتاب، في العصر الحديث، للمحاكمة والمصادرة في بعض المجتمعات؟ لماذا ظهرت في ثقافتنا مكتبة ضخمة لمؤلفات تتحدث، بجرأة ودون تحفّظ مبالغ فيه، عن النكاح والجماع والجنس واللواط وحكايات الزناة والسحاقيات، في حين أن كل أجهزة الرقابة التطهرية في العالم العربي، اليوم، تتربّص بهذا النوع من الكتب وتصادرها وتحاكم من يطبعها ويوزعها؟ بل صار الواحد منا يتحرّج حتى من اقتنائها علنا، كأن في اقتنائها تقليلا من هيبة المرء وثلما لوقاره واحترامه أمام نفسه وأمام الناس! لماذا يأتينا هذا الإحساس، اليوم، في حين لم يكن مؤلفو هذه الكتب يتحرّجون من تأليفها ونسبتها إليهم وفيهم قضاة وفقهاء ومفسّرون كبار من أمثال جلال الدين السيوطي والشيخ النفزاوي والراغب الأصفهاني وغيرهم؟ ما الذي جرى ليتحوّل هذا النوع من الخطاب إلى خطاب محظور ومتخفّ ومكبوت وفي غاية السرّية؟

لِنلتمس الجواب لدى ميشيل فوكو.

فنحن نعرف من هذا الأخير أن شبكة «الانضباطات» صارت أوضح، وأشدّ صرامة، ومنتشرة في كل مكان في العصر الحديث، فقد عرفت البشرية «الكثير من الأساليب الانضباطية منذ زمن بعيد – في الأديرة، وفي الجيوش، وفي المشاغل أيضا. ولكن الانضباطات أصبحت خلال القرن السابع عشر والثامن عشر صيغا عامة للسيطرة» (المراقبة والمعاقبة: ولادة السجن، ص159) والتحكم والإخضاع للجسد البشري. وما بدأ بالجسد تعداه إلى كل ما يمتّ إليه بصلة إلى وظائفه وقواه وعملياته وتصرفاته وخطاباته. لم يعد الجسد حرا، بل خضع لتحكم دقيق ومراقبة صارمة، وكذلك لم يعد الخطاب حرا، بل جرى إخضاعه لشبكة «الانضباطات» الموسّعة، وصار، كما الجسد، طيّعا وأنيقا ومتوازنا وليّنا ولطيفا وناعما. ولم تكن الدولة وأجهزتها هي المصدر الوحيد لهذه الانضباطات، بل ثمة طارئ جديد هو المجال العام الذي تحصّل على سلطة لا تضاهي سلطة الدولة، إلا أنها سلطة لا يستهان بها، وبفضل هذه السلطة المكتسبة حديثا صار المجال العام قادرا على تعميم أعرافه وضوابطه وقواعده الخاصة بإنتاج الخطاب وتوزيعه واستهلاكه. ولا ينبغي أن نتصور أن هذه الشبكة الموسّعة من الانضباطات التي فرضتها الدولة والمجال العام سوف تكتفي بالاشتغال على جسد الإنسان فتجعله «طيعا» وناعما وضعيفا وخائر القوى فحسب، بل إن عملها سوف يتعدى الجسد إلى روح الإنسان وخطابه وتعبيراته بحيث يصبح كل شيء طيعا وناعما وخائر القوى بما في ذلك نفسياتنا وخطاباتنا.

وللحديث صلة في الأسبوع المقبل.

إقرأ أيضا لـ "نادر كاظم"

العدد 2706 - الإثنين 01 فبراير 2010م الموافق 17 صفر 1431هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان
    • زائر 6 | 9:13 ص

      رد زائر 4

      ما تفهم انت؟ لو ما رحت المدرسه؟ الحين عقب قرائتك للمقال تسأل هالسؤال الغبي؟ والسطحي؟ واللي اعتقد حتى جاهل امي لا يقرأ ولا يكتب ما بيسأل هالسؤال؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟ روح اتعلم وبعدين تعال..... عكرت مزاجي........

    • زائر 5 | 4:27 ص

      ما عرت هذا احسن أو أسوأ

      تقول ان الناس ما عادت تجرأ تكتب جملة بذيئة هل هذا أمر أحسن أو أسوأ؟

    • زائر 3 | 12:12 ص

      لكل اساءة اساءة مثلها

      نحن يا دكتورنا العزيز بشر ولسنا ملائكة. الذي يسيء الينا لن نرد عليه بالورود بل بالاساءة. وهذا رد طبيعي . والذي يحبنا نحبه. والحديث يقول اذا احببت احدا فأظهر له حبك.

    • زائر 2 | 11:23 م

      هذا هو بيت القصيد

      " ولا ينبغي أن نتصور أن هذه الشبكة الموسّعة من الانضباطات التي فرضتها الدولة والمجال العام سوف تكتفي بالاشتغال على جسد الإنسان فتجعله «طيعا» وناعما وضعيفا وخائر القوى فحسب، بل إن عملها سوف يتعدى الجسد إلى روح الإنسان وخطابه وتعبيراته بحيث يصبح كل شيء طيعا وناعما وخائر القوى بما في ذلك نفسياتنا وخطاباتنا."
      ستجني الدولة عفن الكراهية لاحقاً

    • زائر 1 | 8:32 م

      الى متى

      ان مواطنوا هذا البلد المسالموت منذ مئا ت السنين سيعشوا سنين الكراهية غصباً عنهم بعد ان خطفت الفرحة من قلوبهم وبعد ان افاقوا ذات صباح ليكتشفوا انهم فاقوا المليون بين عشية وضحاها وقد عمت الفوضى كل شيء ابتداء من الشارغ الى كل مناحي الحياة

اقرأ ايضاً