هناك في بيئة البحرين (كما في بقية الدول الخليجية) صنفان من الأشجار، الصنف الأول تمثله الأشجار الأصيلة، وهي بنت البيئة المحلية، وتتسم بقدرتها على تحمل ظروف الحرارة والرطوبة وملوحة التربة، كالنخيل والسدر واللوز والصبار والحناء والبمبر والدفلة والالبيزيا... وغيرها.
هذه الأشجار الأصيلة بدأت تواجه ظروفا لم تكن سائدة قبل بضعة عقود، إذ بدأت معدلات الأملاح في المياه الجوفية تطرح تحديا جوهريا أمام قطاع الزراعة مع غياب برنامج واضح لتنمية هذا القطاع. فقد رفع العجز المائي من تملح المياه الجوفية، إذ إن ري التربة بمياه عالية الملوحة أفضى الى تمليح التربة، وتقليص الأراضي الصالحة للزراعة، لذلك فمشكلة التغير في اتجاهي ملوحة المياه والتربة من جهة، وتراجع المساحات الخضراء من جهة أخرى، تأخذ شكلا متصاعدا، فكلما تعمقت مشكلة نوعية المياه الجوفية، تعمقت تباعا مشكلة الأراضي الصالحة للزراعة.. وهلم صعودا.
وباضافة انخفاض خصوبة التربة، وارتفاع درجة الحرارة، وارتفاع كلف تحلية مياه البحر الى تلك المحددات، تشكلت ظروف غير مناسبة للأشجار الأصيلة في البيئة المحلية، آل إلى موت مئات الآلاف من الأشجار، وتراجع ثراء المناطق الخضراء في المملكة.
الدخيلة على البيئة المحلية
الأشجار الدخيلة على البيئية عدة أصناف، صنف أدخل قبل وقت طويل للبلاد، وله قابلية مقاومة ظروف البيئة على رغم ان بعضه شره للمياه، ومثاله الـ «كاسيا» والـ أكاسيا» والـ «فايكس التسيما» المعروفة محليا بالرول، والـ «جهنمي»، والـ «تيكوما»، وقد ادخل بعضها للبلاد على يد المستشار بلجريف في عشرينات القرن الماضي. وهذه الأشجار لم تعد تقوى على تحمل معدلات الملوحة الحالية في المياه الجوفية. بيد أن هناك صنفا له قابلية كبرى على تحمل ظروف البيئة المحلية استقدم قبل بضع سنوات فقط، أهمه الـ «نيم» والـ «كونوكاربس».
النيم
أدخلت النيم الى البلاد قبل بضع سنوات فقط، وتعد أفضل الأشجار المستقدمة على الاطلاق، نظرا إلى قدرتها على مقاومة ظروف البيئة المحلية. تقول لمنظمة الأغذية والزراعة التابعة للأمم المتحدة ان هذه الشجرة تمثل بديلا للمبيدات في مواجهة الآفات، إذ إنها لا تؤدي إلى تلويث المياه والتربة وقتل العضويات المفيدة، كالنحل، وديدان الأرض، وطفيليات الآفات. وتعتبر شجرة النيم خيارا اقتصاديا جذابا بالنسبة إلى المزارعين في المناطق الجافة. وتستخدم عصائرها وأوراقها وأي أجزاء منها كمبيدات بديلة غير سامة.
كونوكاربس
هي إحدى الاشجار الدخيلة على البيئة البحرينية، إذ استقدمت قبل بضع سنوات فقط، وانتشرت فعلا انتشارا مذهلا بالنظر إلى نموها السريع واخضرار أوراقها وقابليتها لان تكون ساترا وكاسرا للريح، اضافة إلى قابليتها لمقاومة الحرارة والجفاف وملوحة المياه والتربة. على خلاف النيم التي تخلو من أي أضرار، هناك صفات ضارة ومؤذية لزراعة الكونوكارس في المنازل، وسبب ذلك جهل الفرد بخصائصها، وعدم نشر المعلومات المعرفية الأساسية عن طبيعتها وفوائدها ومضارها والبيئات الملائمة لها في المملكة.
تتسم هذه الشجرة بقوة جذورها الخارقة، ففي سبيل حصولها على المياه، تتجه جذورها عميقا في الأرض مدمرة كل ما يحيط بها، وهذا ما يفسر تشقق الجدران المحاذية لها، وتكسر أنابيب المياه البلاستيكية، وتقطع الأسلاك في محيطها. ثم ان قوة جذورها الجبارة لا تكتفي بالامتداد العمودي لمئات الأمتار عميقا في داخل الأرض، بل إنها تمتد على سطح الأرض لتحول محيطها الى مساحات لا يمكن استغلالها لأي زراعة أخرى، وذلك على خلاف النيم التي يمكن احاطته بزراعة الخضار والشجيرات.
الكونوكاربس وبرامج مواجهة التصحر
وفي هذا الصدد، عرف اتفاق الأمم المتحدة «التصحر» بأنه، «تردي الأراضي في المناطق القاحلة وشبه الجافة، والجافة شبه الرطبة، نتيجة عوامل مختلفة، من بينها الاختلافات المناخية والأنشطة البشرية». أما مصطلح «مكافحة التصحر»، فيعني الأنشطة التي تشكل جزءا من التنمية المتكاملة للأراضي في المناطق القاحلة وشبه القاحلة، والقاحلة شبه الرطبة، من أجل التنمية المستدامة (الأمانة المؤقتة لاتفاق مكافحة التصحر، 1995).
في الوقت الذي تعتبر فيه شجرة الكونوكاربس خطرا على شبكات المياه والصرف الصحي (المجاري) وكابلات الكهرباء وأساسات المباني، تعتبر زراعتها مفيدة في المناطق البعيدة عن المنازل، ومثالية في المناطق الصحراوية، والمناطق المعرضة للتصحر.
وبالاستناد إلى أن أراضي دول مجلس التعاون عموما تمتاز بجفافها وتصحرها فإن الحقائق تبرز أهمية برامج مكافحة التصحر، إذ يمتاز التوازن البيئي بحساسيته المفرطة الناتجة عن الخصائص المناخية والهيدرولوجية، التي تنتج نماذج ايكولوجية حرجة، تكون دوما معرضة لشتى أنواع التراجع والتهور الذي يصيب المناطق الجافة.
والهدف النهائي لخطة مقاومة التصحر يكمن في وقف امتداد التصحر، واستصلاح الأراضي المتصحرة، واستعادة انتاجيتها حيثما أمكن ذلك، وصولا إلى إحياء خصوبة الأراضي والمحافظة عليها في حدود الامكانات البيئية المتوافرة في بيئة الخليج الجافة.
من جهة أخرى، بذل جهد بحثي كبير لإيجاد الكثير من المؤشرات للدلالة على الجفاف وشدته، ومن بين تلك المؤشرات، مؤشر اليونسكو الذي يمثل حاصل قسمة معدل الأمطار على معدل البخر والنتح. وقد وصف هذا المؤشر المعدل 0,03 بأنه يدل على أن المنطقة محل الدراسة تعتبر جافة جدا. وإذ ان معدل البخر في البحرين يتراوح بين 1650 و2050 ملليمترا في السنة، مقابل 72 ملليمترا في المتوسط لمعدل الأمطار، فإننا نصبح بذلك ازاء معدل يبلغ 0,035 - 0,044 في مملكة البحرين. وهذ الأمر يؤكد ضرورة وضع قيود أمام أنشطة الانسان غير الواعية المسببة في تدمير الغطاء النباتي، الذي يعتبر ضمانة تحول دون تدهور المزيد من الأراضي، ومن ثم تصحرها. هنا على وجه الضبط يبرز الدور الفريد لشجرة الـ «كونوكاربس» في المناطق الصحراوية، واستبدالها في المناطق المأهولة بشجرة الـ النيم»
وأكدت المادة الرابعة من مرسوم انشاء لجنة حماية البيئة رقم 7 لسنة 1980 ضرورة «إدخال التثقيف البيئي في برامج التعليم الدراسية وفي برامج أجهزة الإعلام»، إلا أنه يلاحظ محدودية البرامج المعنية بالبيئة في أنشطة الاعلام. وأشار المكتب الاقليمي لبرنامج الأمم المتحدة للبيئة في البحرين الى أهمية التركيز على الاعلام وانشاء وحدة في مؤسسات الاعلام خاصة بالبيئة، بحيث تعنى بانتاج الدراسات الخاصة بالبيئة واعداد البرامج المعنية بها.
تقييم واقع واشكالات القطاع الزراعي في المملكة
لا بد من نبذ العشوائية في قرارات اختيار الأصناف الشجرية في المملكة، ولا بد من قيام الجهات المعنية بالزراعة بتوعية المواطن بخصائص الأصناف الشجرية الأصيلة والمستقدمة على حد سواء، مع اخضاعها جميعا لدراسات ميدانية عملية تحدد قابلية كل منها لتحمل معدلات ملوحة المياه والتربة من جهة، وشراهتها للمياه وقابليتها المحددات الزراعية في البيئة المحلية.
إن أخذ نتائج مثل تلك البحوث في الاعتبار أمر أساسي عند اتخاذ القرارات الحكومية الخاصة بالتشجير، سواء أكانت اشجارا محلية أم مستوردة، أشجارا مثمرة للبساتين، أم اشجار زينة للشوارع، وهذا يتطلب دراسة النتائج المحتملة لمختلف الخيارات الممكنة، وإلا غدت تلك القرارات ارتجالا لا بد أن ينجم عنها هدر في الموارد المائية والمالية العامة والخاصة على حد سواء.
إن قرارات التشجير غير الصائبة، والمكلفة بالنتيجة، والتي تعبر عن الحاجة إلى ترشيد القرار قبل ترشيد الانفاق، يمكن أن يكون مصدرها القطاع العام (تشجير مزارع الحكومة بالأشجار المثمرة، وتشجير الشوارع والمتنزهات العامة) أو القطاع الخاص (تشجير المزارع الخاصة بالاشجار المثمرة أو غير المثمرة)، وفي جميع الحالات نحن معنيون بالخسائر التي تتناسب بطبيعة الحال وحجم تلك الاستثمارات الوطنية.
إن واقع الحال في السنوات القليلة الماضية يكشف عن أن تجربة زراعة الكثير من الاصناف الشجرية في البيئة المحلية فشلت فشلا ذريعا، ومثالها أنواع من فصيلة Ixora وArucaria وCupressus وTuilp، وعلى رغم ذلك لاتزال جهات تعقد امالا على نجاحها في البيئة المحلية. والى جانب عدم التوفيق في اختيار الاصناف الملائمة للتشجير، ثلعب عدم المعرفة الكافية بالاحتياجات المائية للأشجار المزروعة، دوره في الهدر المائي.
إن عشوائية القرار بالتشجير تطرح موضوع حماية المواطن عبر أجهزة الاعلام المختلفة باعتباره مستهلكا ومستثمرا، وذلك من خلال توجيهه للكثير من الحقائق اللازمة له عن هذا الموضوع. وعليه فعلى القطاع العام بعد دراسة الموضوع دراسة وافية باستخدام الأدوات والخبرات الفنية اللازمة، الاجتهاد بشأن الاستثمار الآمن (إن جاز التعبير) في القطاع الزراعي، من خلال تحديد تلك الأصناف من الأشجار التي لا يمكن لها أن تعود بعائد داخلي مجز على مشتريها، أو أنها تستهلك قدرا كبيرا من المياه المدعومة، أولا تقوى على الصمود في البيئة المحلية، أو التي ينجم عنها تدمير للبنى التحتية العامة والخاصة... الخ، مع تمييزها عن تلك الاشجار المطلوب الترويج لها.
وفي الختام، أوصى عبدالغفار الجهات المعنية بالزراعة في المملكة باخضاع شجرتي الـ «نيم» والـ «كونوكارس» لدراسات عملية في اطار محددات بيئتنا المحلية، ونشر نتائج تلك الدراسات والمعلومات المعرفية على أوسع نطاق بالاستفادة من وسائل الاعلام المرئية والمسموعة قبل ان تتهاوى جدران المنازل وتتقطع مواسير المياه وتصيب الشروخ بنى تحتية.
عضو المجلس الاستشاري بجمعية أصدقاء البيئة، والمقال نص مداخلة المحاضر في ندوة «ثنائية المياه والزراعة» التي نظمتها الجمعية
العدد 530 - الثلثاء 17 فبراير 2004م الموافق 25 ذي الحجة 1424هـ
شكرا
معلومات ممتازة واستفدت منها كثيرا جزاكم الله خيرا