العدد 538 - الأربعاء 25 فبراير 2004م الموافق 04 محرم 1425هـ

تأملات في ثورة الإمام الحسين (ع)

الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على محمد وآله وصحبه الاخيار، وبعد... فإن المتتبع في بطون الأسفار والمصادر يجد الكثير من الابطال وعظماء الرجال الذين دفعهم دينهم وايمانهم الى الجهر بكلمة الحق والدعوة الى العدالة باقتحام ميادين الجهاد والثورة على الظلم هنا وهناك لينالوا شرف الدفاع عن عقيدتهم ولو أدى ذلك الى استشهادهم والتضحية بكل ما يملكون. ولقد سجل التاريخ عشرات الثورات والانتفاضات لأولئك الابطال المجاهدين وتحدث عن انتصاراتهم ومنجزاتهم.

ومن تلكم الثورات الخالدة ثورة الإمام الحسين رضي الله عنه التي عبأت الانسان المسلم وغيره ودفعت به في طريق النضال والتحرير من الاستغلال والاستعباد والتسلط وأسهمت ولاتزال تسهم بدور مهم في تكوين الشخصية الثقافية والاجتماعية والسياسية ولم يكن ذلك إلا لأنها لم تكن لعصر دون عصر ولا لفئة من الناس دون فئة كما لم تكن وليدة ظروف طارئة أو تحركات سياسية محدودة الآثار والدوافع وبعيدة عن احاسيس الأمة وانفعالاتها، بل كانت نورا ساطعا للمسلمين في حركتهم الى الهدف الاسمى والغاية القصوى التي ارسل محمد بن عبدالله (صلى الله عليه وآله وسلم) رسول الرحمة والكرامة من أجلها، وكانت المرآة الصافية للحاضر الذي كانت تعيشه الأمة ولواقعها الذي كانت ترسف في اغلاله. واننا في هذه التأملات الكثيرة والمواقف المشرفة نود ان نبين عدة أمور في سيرة الإمام الحسين رضي الله عنه:

1- إن ثورة الإمام الحسين ثورة إسلامية، فكرها فكر إسلامي، وهي من إسلام العهد الأول الطاهر البهي، الذي كانت فيه أمة الإسلام واحدة، الإسلام الانساني الذي يخص الناس جميعا حتى غير المسلمين ويقر العدالة والكرامة والحرية للناس جميعا حتى لغير المسلمين. وهي تمثل قيم ومفاهيم اخلاقية وانسانية عامة، ولذلك لا ينبغي ان تعطى الذكرى الحسينية مضمونا طائفيا شيعيا على حساب جوانبها الإسلامية والانسانية العامة، بل ينبغي ان يعمم فكرها وقيمها ومفاهيمها وينبغي اخراجها من الدائرة الطائفية الى الدائرة الإسلامية والانسانية العامة.

2- ان خصائص المضمون الفكري والثقافي للثورة الحسينية هي نفسها خصائص المضمون الفكري للإسلام والتي من اهمها الربانية والوحدانية والشمول والايجابية والتوازن والثبات والواقعية، وحسنا تفعل المجالس الحسينية التي تقام في عاشوراء ان تستثمر هذه المناسبة لبلورة وبث مفاهيم الإسلام ومبادئه وقيمه واحكامه وتشريعاته الروحية والاجتماعية والسياسية والاقتصادية والجهادية وغيرها... والإمام الحسين لم ينهض الا من أجل هذا الإسلام العظيم وحمايته وحماية الأمة من كل انحراف ومن اليد التي حاولت ان تبعدها عن منابعها الاصيلة، ومن هنا فان ثورة الإمام الحسين ليست خطابا أو فكرا متقوقعا منكفئا على الذات، وانما هي نفس الفكر الذي تحدى به الإسلام الدنيا وصارع افكار الحضارات الأخرى فصرعها وحاورها فغلب منطقه منطقها.

3- ان نعم الله تعالى على أمة الإسلام أكثر من نعمه على جميع الأمم، فقد حظيت هذه الأمة بمقومات تجعلها أفضل أمة، فدينها هو دين الله الخاتم، وقرآنها معجز لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، ورسولها أكرم خلق الله عنده تبارك وتعالى، ولأنها هي خاتمة الأمم كانت ولابد أن تكون حاملة الرسالة بعد انقضاء الرسل وان يصيبها ما اصاب الرعيل الأول من عذاب وأذى وتشريد وظلم وقتل وسبي واضطهاد بدءا برسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وآل بيته الميامين وصحابته الكرام، فقد انتقلت اليهم دعوة العالمين وصراع الباطل فكان لزاما ان تبتلى على مر العصور والدهر، ومن ذلك ما اهتزت له الأمة الإسلامية من اقصاها الى اقصاها لقتل الإمام الحسين رضي الله عنه، في عصره وفي كل العصور، على اختلاف مذاهبها ومشاربها. ان هذه التضحيات الكبرى لهي فصل من فصول التدافع بين الحق والباطل، بين النور والضلالة، بين الاستقامة والغواية في حياة الأمة. وان استشهاد الإمام الحسين قد رفع مستوى الفكر البشري، وخليق بهذه الذكرى وغيرها من بطولات وتضحيات الرعيل الأول ان تبقى، ويظل الإمام الحسين رمزا للبطولة والفداء، وخلاصة الشجاعة والبأس.

4- ينبغي التركيز على بعض المفاهيم الإسلامية العامة التي كانت في منطلقات ثورة الإمام الحسين وبيان نقيضها كالحرية والعبودية، والعدالة والظلم، والاثرة والايثار، والشجاعة والجبن، والصدق والكذب، والرحمة والقسوة، والوفاء والخيانة وغير ذلك. هذه المفاهيم كانت ثمرة الدعوة المحمدية التي قاتل من أجلها حماة الإسلام حين انطلقت دعوة التوحيد في الجزيرة العربية وانتصروا بفتح مكة بعد معارك وغزوات كان فيها الرسول الكريم محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) القائد، والاب، والمعلم. وجاء ركب الحسين الذي شكل الدعوة لاحياء ركب الرسول الكريم، فلقد ثبت الإمام الحسين ووقف بكل كيانه أمام الفساد المتصاعد، وضحى من أجل القيم الربانية بنفسه وباحبائه، وبابنيه علي الأصغر وعلي الأكبر، وبأخيه العباس. وينبغي التركيز أيضا على حكم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر باعتباره كان في اصل اهداف الإمام في ثورته «اريد ان آمر بالمعروف وانهى عن المنكر واسير بسيرة جدي». أو كما قال في خطبة أخرى: «أيها الناس ان رسول الله (ص) قال: من رأى سلطانا جائرا مستحلا لحرم الله ناكثا بعهد الله... فلم يغير عليه بقول ولا فعل كان حقا على الله ان يدخله مدخله» وخطابه المشهور «الا واني لم اخرج اشرا ولا بطرا... ولكن خرجت لطلب الصلاح في أمة جدي محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) آمر بالمعروف وانهى عن المنكر»... واننا لنؤكد أن حياة المجتمع وقوامه منوط بوجود الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. وحين نقول ان هذا المبدأ يرفع من قيمة المسلمين واهميتهم فاننا لا نأتي بحديث من عندنا، بل ان ذلك جاء في صريح القرآن الكريم إذ يقول: «كنتم خير أمة اخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر» (آل عمران/110). كما لا يجوز حصر هذا الواجب العظيم في دوائر ضيقة وفئات معينة، هذا العمل وظيفة الجميع، ولا يختص بفئة، انه عمل الجميع، وعلى علماء الدين ان يوجهوا الناس، ويشرحوا لهم أهمية وكيفية الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.

5- هناك عاملان هما اساس للضلالة والانحراف العام، احدهما الابتعاد عن ذكر الله الذي يعني الغفلة عن الله وفصل الحياة عن المعايير الربانية، والعامل الآخر هو اتباع الشهوات والملذات والسعي وراء الدنيا والاشتغال بجمع الثروة والمال والوقوع فريسة للشهوات الدنيوية واعتبارها اساسا ومبدأ ونسيان الاهداف الحقيقية. وعندما يكون المعيار هو الله والتقوى والاعراض عن الدنيا والجهاد في سبيل الله، واقامة العدل واشاعة التراحم فان الذي يوجد في الساحة حينئذ هم الافراد الواجدون لهذه المعايير. هؤلاء هم المؤهلون لريادة المجتمع حتى يصير مجتمعا إسلاميا.

6- ينبغي التركيز في الخطاب العاشورائي على الجانب التشريعي في الإسلام ودوره في تنظيم حياة الفرد والمجتمع ليتحول ذلك الى جعل الناس يتحركون بملكة تعمم ثقافة الحكم الشرعي لدى الأمة، والتركيز أيضا على شخصيات اصحاب الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) ودلالات تنوعهم واختلافهم في البيئة والعنصر والجنس والسن والطبقة الاجتماعية، لما في ذلك من دروس تشحذ الأمة كل الأمة على ضرورة وحدتها بكل فئاتها وطبقاتها في مواجهة الفساد والطغيان والهوى.

7- نرى أهمية اشراك العنصر النسوي في النهضة وضرورة اعطاء المرأة اهتماما أكبر وأكثر على المنابر وفي المجالس وابراز أهميتها في الإسلام وبيان احكامها الحقوقية والشرعية كزوجة وأم وبنت، كصانعة للاجيال وداعمة لعظماء الرجال، والتركيز على جوانب العظمة والجهاد والتضحية في النساء اللواتي عشن محنة صدر الإسلام ومدى ارتباطهن بالله وانقطاعهن إليه سبحانه وتعالى.

8- وأخيرا، ان من الظلم العظيم والتصور الواهي، ان نسبغ على القضية الحسينية ثوبا طائفيا أو اقليميا، أو حتى مجرد حدث تاريخي جرى في حقبة من الزمن ثم تلاشى. فالمنصف والمتمعن بموضوعية لا يرى في سيرة الإمام الحسين الا قضية إسلامية اصيلة تمثل فريضة من فرائض الإسلام ضمن نظام الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، إذ جسد فيها الإمام الاخلاص والحب والتفاني للرسالة الالهية، ورسم بدمه الزكي صورة مشرفة ونموذجا رائعا لأمتنا اليوم في صراعها مع الباطل.

ومن الغبن أيضا ان لا نرى في القضية الحسينية الا جانبا واحدا فقط، الجانب المأسوي الحزين، من دون ان ندع جوانب الفكر والموقف والقدوة تنطلق لتشكل تفاعلا منسجما بين الفكر والعاطفة. فهدف الإمام الحسين الذي نراه كان اصلاح هذه الأمة والعمل على تغيير الواقع السيئ الى الواقع الذي يريده الإسلام المبارك.

رئيس جمعية المنبر الوطني الإسلامي

العدد 538 - الأربعاء 25 فبراير 2004م الموافق 04 محرم 1425هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً