العدد 2351 - الأربعاء 11 فبراير 2009م الموافق 15 صفر 1430هـ

فاز «كاديما» وانتصر أقصى التطرف

وليد نويهض walid.noueihed [at] alwasatnews.com

كاتب ومفكر عربي لبناني

فاز حزب «كاديما» بالمرتبة الأولى وانتصر أقصى التطرف في الانتخابات النيابية (الكنيست) الإسرائيلية. وتعكس هذه المعادلة صورة مجتمع منقسم على تكتلات سياسية تتجه بقوة نحو التعصب «القومي» و«الديني» والانطواء الثقافي «العنصري» إلى حلقات ضيقة تشبه أحياء الغيتو اليهودية في المدن الأوروبية قبل الإعلان عن «وعد بلفور» في مطلع القرن الماضي.

انزواء «إسرائيل» التاريخي والانكفاء إلى الذات والتكور في بيئات جغرافية استيطانية كلها علامات سلبية تشير إلى نمو تلك المخاوف من فكرة التصالح مع المحيط أو الاندماج في إطارات تحتمل وجود تنوع ديني وقومي مجاور.

العداء للآخر هي سمة المستوطن الذي ينزح من مكان بعيد وثقافة مغايرة وبيئة مقتلعة إلى منطقة مختلفة في تكوينها التاريخي والحضاري والديني. وبسبب الخوف من الآخر تتولد عند المستوطن ثقافة العزلة بصفتها تشكل ذاك الحصن الذي يضمن عدم الاندماج ويحمي الذات من الجماعات التي تعيش خارج أسوار القلعة. وسياسة الانطواء إلى داخل القلعة تمثل ثقافيا روح العزلة التي تعكس تعاظم الخوف والذهاب بعيدا إلى مجتمع منغلق يأبى الانفتاح والتواصل والتفاهم والعيش بسلام في بيئة منفتحة على الاستقرار والاعتراف بالآخر.

نتائج التصويت في الانتخابات الإسرائيلية الأخيرة أعطت فكرة تختزل نفسية المستوطن الذي يشعر بعقدة ذنب ولا يريد الإقرار بها وبوجود مشكلة قابلة للحل والعلاج. ومثل هذه العقلية المنطوية على الذات تفسر لماذا يتجه الناخب الإسرائيلي إلى أقصى التطرف. فالتصويت يعكس صورة المجتمع. وبما أن الكيان العبري مجموعة مؤسسات استياطنية استولت قسرا على أراضي الآخر وطردته من دياره وشيّدت تلك «الجزر» لإسكان المستوطنين المهجرين من بيئات مختلفة وزمن متفاوت في درجات نموه فلابد أن تكون الهيئات التمثيلية على صورة الجماعات الأهلية.

هذا الانغلاق داخل قلعة «إسرائيل» ليس جديدا. فالدولة أصلا تأسست على فكرة «شعب الله المختار» الذي يرفض التعامل مع الآخر على سوية إنسانية واحدة ويأبى الاعتراف بوجود ثقافة دينية خالصة عند الشعوب المختلفة. فالآخر دوني وأقل مرتبة في درجات التقدم والعلو. وفكرة تأسيس جدار الفصل العنصري في الأراضي المحتلة في العام 1967 وعزل المناطق والقرى والمدن الفلسطينية عن بعضها جاءت لتلبي حاجة نفسية - ثقافية ولتغطي تعاظم نمو القلق الأمني والمخاوف من المحيط.

الجدار العنصري الإسرائيلي الذي انتهت الحكومات من بنائه يختصر الكثير من الإشارات الرمزية التي ترسم صورة عن المجتمع الاستيطاني الذي يفضل العزلة ويختار الانزواء لأنه يرى في الانفتاح بداية النهاية ويعتقد أن التعايش والاستقرار والسلام كلها عناصر تقتل حياة شعب مختار بإدخال «فيروس» خارجي تعطل نمو مكوناته الخاصة.

فوز أقصى التطرف بغالبية عددية في «الكنيست» لا يعكس بالضرورة توجهات سياسية مضادة للسلام والحوار والتفاوض بقدر ما يشير إلى قلق داخلي يعبّر عادة عن ثقافة الخوف من الانفتاح والاندماج. فالتصويت ثقافة قبل أن يكون سياسة. فالسياسة الإسرائيلية متشابهة في برامجها الحزبية ولا خلاف كبيرا بين الليكود والعمل وكاديما على الأهداف. فالقوى الثلاث متوافقة على رفض الانسحاب الكامل والشامل وتمانع فكرة العودة أو تفكيك المستوطنات أو تأسيس دولة فلسطينية «قابلة للحياة» وعاصمتها القدس. وحزب «إسرائيل بيتنا» المتهم زعيمه بالكذب والتزوير والرشوة ويطالب صراحة باقتلاع الأقليات الفسطينية وتدمير «السد العالي» في مصر وضرب غزة بالقنبلة النووية يعبّر عن هواجس بلغة فجة تشبه تلك التي تتكلمها زعيمة «كاديما» تسيبي ليفني حين تتحدث عن يهودية «الدولة الإسرائيلية». فالكلام عن اليهودية الصافية لا يمكن أن يستقر أو يستقيم من دون ترحيل (ترانسفير) الفلسطينيين من أراضي 1948.

مسألة التصويت ثقافية قبل أن تكون سياسية. والثقافة هي مزيج مركب من ايديولوجيا ومعتقدات ومخاوف وقلق يجلبها عادة معه المستوطن حين ينتقل (يرتحل) من مكان إلى آخر. فالارتحال لا يلغي البيئة السابقة وإنما ينقلها معه إلى بيئة مخالفة يحاول اقتلاعها أو تطويعها لتكون متناغمة مع صورة النص المرسوم في ذهنيته المسكونة بالخوف. وهذا النوع من الثقافة يصعب كسرها أو صهرها لأنها أساسا تتغذى من الانغلاق والانكفاء والانطواء.

ثقافة العزلة والانطواء

تاريخ الكيان العبري منذ تأسيسه رسميا في العام 1947 - 1948 نهض على فكرة المجتمع المغلق (الخاص) وتطور على أساس ثقافة العزلة المضادة للآخر والرافضة للانفتاح والحوار والتفاوض. إلا أن تاريخ الدولة تعرض خلال مراحل إلى تطورات زعزعت أجزاء صغيرة من ذاك الموروث. وساهم حزب العمل، الذي يعتبر جيله الأول القوة المؤسسة، في توليد قناعات شعبوية تبالغ في اعتماد الهياكل العسكرية والنقابية (الهستدروت) والتعاونية (الكيبوتز) بصفتها تشكل إطارات سياسية تضمن أسوار القلعة من الانهيار. واستمرت قناعات حزب العمل تمثل النموذج الأمثل للناخب الإسرائيلي إلى أن وقعت حرب أكتوبر/ تشرين الأول 1973 تلقت خلالها حكومة غولدا مائير ضربة موجعة أحدثت فجوة تاريخية في الحصن الجغرافي. ومنذ تلك الحرب النظامية التي جرت تحت سقف القرار الدولي 242 بدأت هيبة حزب العمل تتعرض للتصدع وخصوصا بعد محاكمة قادته بتهمة التقصير.

«التقصير» كانت بداية نهاية الحزب المؤسس إذ أخذ يتراجع منذ العام 1977 مقابل نمو كتلة «الليكود» المتطرفة إلى أن نجح زعيمها مناحيم بيغن في تشكيل حكومة برئاسته. وفي عهد بيغن وقبله شهدت «إسرائيل» نمو قوى «يسارية» محدودة التأثير تطالب بالتفاوض والسلام مقابل ضغوط متطرفة تدفع باتجاه توسيع رقعة الاحتلال. وتجاوب «الليكود» مع النزعتين حين وقّع اتفاقات سلام مع مصر وباشر بالانسحاب من سيناء في وقت أعطى أوامره بالهجوم على لبنان واحتلال معظم أراضيه في العام 1982.

في تلك الفترة المتناقضة في توجهات الحكومة الإسرائيلية ظهرت أكبر قوة سلمية في تاريخ الكيان العبري أطلق عليها تسمية حركة «السلام الآن». فهذه الحركة تشكلت ميدانيا من مجموعات شبه يسارية وشبه علمانية أسست قوة ثالثة مزجت بين منظمات «الفهود السود» و«ماتزبن» وغيرها من تيارات قومية عربية وشيوعية يهودية واشتراكية معتدلة.

نجحت حركة «السلام الآن» في تنظيم أكبر تظاهرة في تاريخ الكيان العبري حين حشدت أكثر من 200 ألف متظاهر في تل أبيب يرفضون العدوان على لبنان ويطالبون بيغن بالانسحاب. واستمرت الحركة تضغط وطالبت بإحالة ارييل شارون (وزير الدفاع آنذاك) إلى المحاكمة بتهمة تنظيم وتسهيل مجزرة صبرا وشاتيلا في المخيمين الفلسطينيين في بيروت.

بعد هذه المظاهرة الهائلة الحجم بمقاييس تلك الأيام بدأت حركة «السلام الآن» تتراجع إلى أن تبخرت مع أخواتها من منظمة «ماتزين» وتيار «الفهود السود» وأخذ التطرف يتطور ويتصاعد وينمو جارفا معه كل تحولات الموادعة والسلام والانفتاح.

هناك الكثير من العوامل ساهمت في تفكك وتبخر تلك الهيئات المسالمة منها انهيار المعسكر الاشتراكي ونمو تيار «المحافظين الجدد» في بريطانيا والولايات المتحدة. وترافق هذا التحول الدولي مع قيام حركة تهجير كبرى لليهود من الاتحاد السوفياتي ودول أوروبا الشرقية فاقت كل التوقعات. وساهمت هذه الهجرة الكبيرة على موجات متتالية (مليون إنسان) في تغيير مناخات «إسرائيل» وتبديل مزاجها إذ رفعت من درجات حرارة ثقافة العزلة والاستيطان والاستيلاء.

المهاجرون في ثمانينات وتسعينات القرن الماضي أعادوا تأسيس الدولة العبرية على قواعد الانغلاق والانطواء والانزواء تقارب كثيرا تلك الثقافة المقفلة على ذاتها التي نقلها المهاجرون معهم من المعسكر الاشتراكي المحاط بأسوار وأسلاك شائكة.

افيغدور ليبرمان زعيم «إسرائيل بيتنا» هو نموذج عن ثقافة تلك الجماعات التي هاجرت حديثا للاستيطان في «أرض الميعاد». ومعاداة الآخر وطرد المختلف وعدم القبول بالانفتاح ومبدأ التسوية كلها عناصر ايديولوجية تكونت في إطار مفهوم القلعة والخوف من المحيط. وحصول ليبرمان على المرتبة الثالثة وتراجع الحزب المؤسس (العمل) إلى الموقع الرابع يؤشران في النهاية على ثقافة دولة لا تستطيع الخروج من الغيتو (الحي المقفل) بذريعة أنها تجلب إلى الداخل دورة حياة تسرّع من اندفاعة الموت.

«فاز كاديما وانتصر التطرف» نتيجة انتخابية تشير إلى معادلة ثقافية تتجاوز إطار السياسة الحزبية. كاديما (الوسطي الآن) انشق أساسا عن الليكود (احتل المرتبة الثانية) وأسسه شارون (المتطرف) لتمييز ألوانه السياسية عن بنيامين نتنياهو. وبغض النظر عن الزعيم الذي سيكلف بتشكيل الحكومة الإسرائيلية المقبلة فإن الحاصل العام لهوية «الكنيست» يؤكد ذاك النزوع الثقافي الدائم نحو العزلة والانغلاق... حتى لو أدى الأمر إلى الجمود (لا حرب ولا سلام) أو الانجرار في مغامرات عسكرية جديدة.

إقرأ أيضا لـ "وليد نويهض"

العدد 2351 - الأربعاء 11 فبراير 2009م الموافق 15 صفر 1430هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً