العدد 2713 - الإثنين 08 فبراير 2010م الموافق 24 صفر 1431هـ

صعود المجال العام

نادر كاظم comments [at] alwasatnews.com

.

بدأت الانضباطات العمومية، التي تحدثّنا عنها في مقالة الأسبوع الماضي، تتحوّل خلال القرنين السابع عشر والثامن عشر إلى صيغ عامة للسيطرة والإخضاع. وقد شهد هذان القرنان «تحوّلا بنيويا» تشكّل، على إثره، فضاء مؤسساتي وخطابي جديد في المجتمع البرجوازي الأوروبي، وقد أطلق يورغن هابرماس على هذا الفضاء الجديد اسم «المجال العام» public sphere. فلم يكن من باب المصادفة، كما يقول هابرماس، إن «مفاهيم المجال العام والرأي العام قد ظهرت لأول مرة في القرن الثامن عشر، وقد اكتسبت معناها الخاص من هذه الوضعية التاريخية المحددة».

ولم يكن هذا «التحوّل البنيوي» ليخفى على أهم ناقدين للمجتمع البرجوازي في القرن التاسع عشر، وهما كارل ماركس وفردريك إنجلز، وذلك حين قاما بصياغة «البيان الشيوعي» في العام 1848م. فقد لاحظ الاثنان أن البرجوازية «لعبت، في التاريخ، دورا ثوريا بارزا كل البروز»، وهي لم تقلب شروط الإنتاج التقليدية رأسا على عقب فحسب، بل إنها «حين ظفرت بالسلطة» قامت بتدمير «كل العلاقات الإقطاعية، والبطريركية، والرومانسية الرعوية، ومزّقت بلا رحمة الروابط الإقطاعية من كل لون»، وانتزعت سلطة الدولة الحديثة وحوّلتها إلى «هيئة تدير المصالح المشتركة للطبقة البرجوازية بأسرها». إلا أن ما غفل عنه ماركس وإنجلز هو أن هذه «المصالح» لم تكن «مشتركة» وموحدة في العصر البرجوازي ولا حتى في العصر البروليتاري؛ لأنها، في الأساس، مصالح متنوعة ومتعارضة ومتضاربة، وبحاجة إلى مساحة عمومية تتجلى فيها وتُدير تنوعها داخلها بحكمة وبصورة سلمية. وهذه المساحة، على خلاف تحليل ماركس وإنجلز، ليست هي الدولة؛ لأن هذه الأخيرة ستبقى، ولزمن طويل، كما فهمها هذان الأخيران، مجالا لممارسة «العنف المنظم لطبقة في سبيل قمع طبقة أخرى»، أو لجماعة في سبيل قمع جماعة أخرى. ينبغي، إذن، أن نبحث عن هذه المساحة في مكان آخر. هذا المكان هو «المجال العام».

إن التحوّل البنيوي والثوري الذي ربطه «البيان الشيوعي» بالتحويل البرجوازي لنمط الإنتاج وللسلطة السياسية، يربطه يورغن هابرماس بالمجال العام الذي يتسع للجميع، وبـ «الجدل أو النقاش النقدي العقلاني» الذي تزامن صعوده مع صعود هذا المجال العام ومأسسته «لا بوصفه مجموعة من المصالح، ولا بوصفه تعارضا بين الدولة والمجتمع، بل بوصفه ممارسة للخطاب النقدي – العقلاني في الشئون السياسية» والعامة التي تهم جميع المواطنين على اختلاف انتماءاتهم وطبقاتهم من برجوازيين وبروليتاريين وما فوقهم وما تحتهم وما بينهم وما على جوانبهم.

وما يسميه هابرماس «النقاش العقلاني» كان إيمانويل كانط، في القرن الثامن عشر، يسميه «الاستخدام العمومي للعقل». ولقد سبق لكانط أن عرّف التنوير بأنه «الاستخدام العمومي والحرّ] للعقل في جميع الميادين». ويستخدم كانط تعبير «الاستخدام العمومي للعقل» للتعبير عمّا «نقوم به كعارفين أمام الجمهور الذي يقرأ»، في حين يتمثّل الاستخدام الخاص للعقل في ما نقوم به ونحن نؤدي وظيفة (عمل) معينة أو ضمن تجمع عائلي محدود. ويتطلب الاستخدام العمومي للعقل، بحسب كانط، الحرية ووجود الكتب والجمهور الذي يقرأ. وهذا يتطلب وجود مجال عام يسمح بكل ذلك. وهو ما لم يكن موجودا في مجتمع العصور الوسطى والمجتمع الإقطاعي. ففي ظل الحكم المطلق الذي كانت تتمتع به الملكيات والكنيسة ما كان أحد يستطيع أن يجري نقاشا حرا ونقديا وعقلانيا في الشئون العامة. فقد كان النقاش الحر والنقدي جزءا من «اللامفكّر فيه» آنذاك، لا لأنه غير مسموح به فحسب، بل لأنه لم يكن ثمة «مجال عام» واضح ومحسوس يمكن أن يجتمع فيه الناس بصفتهم العمومية ويتناقشوا فيما بينهم في شئونهم العامة. ففي هذه الفترة «لم يكن لمزارعي الإقطاعيات أي تحكم مطلق على أي جزء من حياتهم حتى حين يذهبون إلى غرفهم ويغلقون عليهم أبوابهم». ولهذا كان علينا أن ننتظر القرن الثامن عشر لتتضح الحدود بين المجال الخاص والمجال العام، و»هذا لم يوجد إلا بعد القرن السابع عشر، وقبل هذا كانت كل المقاطعات في البلد تعود ملكيتها المطلقة للملك». وخلال القرن الثامن عشر كانت السلطات الإقطاعية الكبرى (الملوك، الكنيسة، الأمراء، النبلاء) آخذة في التزعزع والتدهور، ولم ينقضِ القرن الثامن عشر حتى «تحطمت وتجزّأت إلى عناصر خاصة من جهة، وعناصر عامة من جهة أخرى. فموقع الكنيسة قد تغيّر مع حركة الإصلاح الديني، ورابط السلطة الإلهية التي تمثّلها الكنيسة وهو الدين، أصبح شأنا خاصا. وما سمي «الحرية الدينية» جاء ليؤكد ما كان، تاريخيا، المساحة الأولى التي تتمتع بالاستقلال الذاتي. الكنيسة ذاتها استمر وجودها بوصفها كيانا قانونيا وعاما بين الآخرين»، وهذا يعني أنها أصبحت جزءا من المجال العام. التحوّلات ذاتها طالت سلطة الأمراء فقوّضتها نهائيا أو اكتفت بمنحها وجودا رمزيا، أما النبلاء فقد أصبحوا جزءا من السلطة العامة والبرلمانات والمؤسسات القانونية. وفي أعقاب هذه التحولات البنيوية تشكّلت مساحة عمومية في حياتنا الاجتماعية، وهي مساحة مفتوحة للجميع (أو هكذا ينبغي أن تكون)، ومفتوحة على النقاشات الحرة والنقدية والعقلانية في الشئون العامة، وداخل هذه المساحة العمومية المفتوحة بدأ يتخلّق «الرأي العام» و»الشئون العامة». هذه المساحة هي المجال العام.

ويتحدد المجال العام هنا من خلال التحديد الواضح لمجال الدولة أولا، ثم تحييده ثانيا، وهو ما يسمح ببروز مساحة مفتوحة ينخرط فيها المواطنون من أجل النقاش الحر والتداول المفتوح حول قضاياهم وشئونهم العامة. وهو ما كان كانط يسميه «الاستخدام العمومي للعقل»، وبدل أن نحدّد هذا الاستخدام في الكتب وجمهورها كما فعل كانط، صار المجال مفتوحا لاستخدام العقل عموميا من خلال النشر الورقي في الصحف والمجلات، والنشر الإلكتروني على الإنترنت، وأجهزة الإعلام المتنوعة من إذاعات وفضائيات، أو من خلال الملتقيات والمؤتمرات والندوات والمحاضرات وغيرها من أشكال التجمع التي تجري في «أماكن عامة»، وبقصد التداول الحر والمفتوح في قضايا الشأن العام.

يتميّز هذا المجال العام عن الدولة بما هي مجال للسلطة العامة ولممارسة «العنف المنظم»، كما أنه يتميّز عن الفضاء الشخصي المتعلق بحياة الأفراد الخاصة والعائلية، كما أنه يختلف عن المجال الخاص بكل جماعة، فهذا الأخير يقع ضمن الملكية الرمزية لجماعة بعينها. ولهذا فإن تداول النقاش في هذا المجال الأخير إنما يجري ضمن دائرة تواصل مغلقة على أبناء الجماعة نفسها. وهو مؤسس على قناعات يجري تعزيزها باستمرار لا على نقاش نقدي وعقلاني مفتوح للأخذ والردّ في المجال العام. وتكمن خطورة هذا المجال الخصوصي في كونه يعبّئ الأفراد بقناعات مغلقة، وبلغة قد تكون فاعلة ومؤثرة في التواصل الخصوصي داخل الجماعة، ولكنها عاجزة عن إنجاز التواصل العمومي مع الآخرين، ويمكن اكتشاف هذا العجز من خلال تلك المفارقات والالتباسات وسوء الفهم والخلافات التي تحدث حين ينتقل النقاش من دائرة المجال الخصوصي المغلق إلى دائرة المجال العمومي المفتوح الذي يتسع للجميع. ثم لا ينبغي أن يغيب عن بالنا أن كل أشكال التواصل، اليوم، صارت قابلة للتعميم، وأن التواصل الذي ينعقد في فضاء خصوصي مغلق داخل «الجماعة» لن يبقى خصوصيا لزمن طويل؛ لأنه سرعان ما ينتقل إلى المجال العام لتبدأ، عندئذٍ، انعكاساته وتفاعلاتها العمومية في التطور.

يتأسس المجال العام على فكرة مزعجة، إلا أنها ضرورية، وهي أن هناك مصالح متعارضة، وآراء متضاربة، وهناك، كذلك، أكثر من طريقة للتعبير عن هذه المصالح والآراء. وما يحتاجه المجتمع لإقامة فعل التواصل العمومي لا يتمثل في تصفية هذه المصالح والآراء من أجل انتخاب مصلحة واحدة ورأي واحد يسود على الجميع، بل إنه يتمثل في وجود مجال عام يقوم على حرية المناقشة وتبادل الحجج والآراء بطريقة سلمية. وهو ما يسميه كارل بوبر بـ «الجدل الحر» الذي يعتبره «قيمة ليبرالية جوهرية». ولا يتطلب هذا النوع من الجدل والمناقشة والحجاج سوى وجود الاستعداد «لأن يتعلم المرء من زميله في المناقشة، استعداد يتضمن رغبة حقيقية في فهم ما يرمي إليه زميله. فإذا ما توفّر هذا الاستعداد، فإن ثمار الجدل تكون كأفضل ما تكون إذا اختلفت خلفية المتجادلين أقصى الاختلاف. وعلى هذا فإن قيمة أي جدل تعتمد كثيرا على نوع الرؤى المتنافسة. لو لم يكن هناك برج بابل لكان علينا أن نبتكره». وما يشخّصه بوبر هنا يتناوله يورغن هابرماس تحت مفهوم «وضعية الكلام النموذجي» أي الوضعية المثالية لفعل التواصل المؤسس على المبادئ الأخلاقية التي ينبغي أن تكون متبعة في المناقشات والجدالات داخل المجال العام.

يتطلب «الجدل الحر» وجود مجال عام نموذجي للتواصل، مجال متحرر من القوة وعلاقات الهيمنة ومستلزماتها، ويتطلب، كذلك، وجود فاعلين سياسيين واجتماعيين ليسوا مثاليين بالضرورة إلا أنهم جادين ولديهم الاستعداد لأن ينخرطوا في سياقات مشتركة بقصد التواصل والتعايش والتوصل إلى «فهم مشترك» وتوافق إجماعي قدر الإمكان. ومن المؤكد أن هذا نموذج مثالي لفعل التواصل وسياقاته، إلا أن مثاليته لا تعني أنه نموذج عاطل وعديم القيمة والفعل؛ وذلك أننا لا نتحدث، هنا، عن نموذج معياري للتواصل، ولا عن نموذج من الفعل التواصلي تٌرهن مثاليته بإرادة البشر وقصديتهم ومزاجهم، بل عن نموذج اكتسب سلطة مهمة، وصار قادرا، بفضل ذلك، على فرض أخلاقياته ومتطلباته وانضباطاته على معظم الفاعلين السياسيين والاجتماعيين المنخرطين في أفعال التواصل ضمن حدوده. ربما لا يصل الفاعلون إلى الإجماع والفهم المشترك ولكن هذا لا يعني أن المجال العام مفتوح لكل أنواع الخطابات المعيقة لإنجاز التواصل والتفاهم. ومن المؤكد أنه لا يسمح بأشكال التواصل التي تهدد كيانه ووجوده كما في الكراهيات والإهانات والسباب والشتائم والقذف الصريح وتشويه السمعة.

إقرأ أيضا لـ "نادر كاظم"

العدد 2713 - الإثنين 08 فبراير 2010م الموافق 24 صفر 1431هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان
    • زائر 4 | 9:15 ص

      فرائــــص الاستبداد ... ترتعــــــــد !

      باقة من وضعية الكلام النموذجي محفوفة بجدل حرت فوح منها عبير"النقاش النقدي العقلاني" لتعبق المجال العام بأريج التواصل والتفاهم بفاعلية وتفاعلية،تلك صورة،لمرآة تنعكس عليها آمال وإرادة كل البشر-الشعوب.ولكن،"الأنا"تتحرك عند(جماعة)وفضائها المغلق فلا تستطيع استيعاب المجال بآفاقه الفكرية،ولا تبذل مجهوداً عقلياً في سبيل الاستيعاب؛للانفتاح،ربما لم تألفها أفكارهم الرتيبة،فترتعد فرائصهم للاستبداد،وليزلزلوا بالمجال العام المهيض.أمرٌ عجيب،أليس ذلك؟! كل الشكر للكاتب وللوسط ... نهوض

    • زائر 3 | 7:01 ص

      احسنت يا دكتور

      تسلم يا دكتور على هذا المقال ونحن فخورين بك على عقليتك الفذه ولي نقد عليك اذا سمحت لي بأن توضح مقالاتك القادمه بأمثله كي تكون سهلة الفهم ولا تحتاج الى كثير من الوقت لفهمها
      ومشكور يا دكتور

    • زائر 2 | 1:27 ص

      ماذا نسمي السب والكراهية من منابر الجمعة

      دكتورنا العزيز، نحن فخورين بقلمك وعمقه ولكن كيف تفسر خطب الجمعة التي تثير الأحقاد بين الطائفتين الكريمتين وآخرها خطبة السعيدي في يوم الجمعة الماضي

    • زائر 1 | 11:59 م

      الى متى

      في هذا البلد الصغير تحدث اكبر تحولات ممكن ان يتحملها احد فليس هذا البلد بقادر على تحمل هذا التغير الديمغرافي الذي تنوء بحمله الجبال والذي لا تستوعبه الدول الكبرى الذي يستهدف الانسان قبل اي شىء آخر

اقرأ ايضاً