العدد 553 - الخميس 11 مارس 2004م الموافق 19 محرم 1425هـ

مأساة الفيلسوف المسلم

وليد نويهض walid.noueihed [at] alwasatnews.com

كاتب ومفكر عربي لبناني

في بحثه عن خط التطور البياني لفلسفة التاريخ التقط الفيلسوف الألماني فريديرك هيغل تلك المفارقة بين تطور الفلسفة في الفكر المسيحي وانسداد تطور الفلسفة في الفكر الإسلامي. فهيغل يرى أن المسيحية تنطلق من التثليث (الأب، الابن، والروح القدس) بينما الإسلام ينطلق من التوحيد. وهذا الاختلاف في المنطلق شكل نقطة افتراق في مجرى التطور الفلسفي بين المنظومتين؟ فالمسيحية برأيه استطاعت تطوير نفسها انطلاقا من نظرية التعدد الثلاثية. فالله عندها تجسد في البشر لأنه أصلا يقوم على أقانيم ثلاثة. بينما الإسلام برأيه اصطدم بعقبة «التوحيد» التي منعته من تطوير نفسه لأنه عجز عن إيجاد مخرج نظري - تاريخي للتوالد والتكاثر وتعدد الموجودات.

برأي هيغل ان هذا الاختلاف أطلق مساحة التكيف للفكر المسيحي مع التطور التاريخي العام بينما اسهم في تضييق مساحة التكيف للفكر الإسلامي ومنعه من التقدم النظري مع التطور التاريخي العام.

فكرة هيغل عن الإسلام والفلسفة الإسلامية خطيرة ولكنها ليست بالضرورة صحيحة. الصحيح أن هناك مشكلة وهذه المشكلة ولدّت مع الأيام سلسلة مآزق نظرية تفجرت في أزمات فكرية كبرى تمثلت في صورة من صورها مع الإمام الغزالي (أبوحامد) الذي أوصلته إلى طرح أسئلة إلحادية للإجابة عنها وتفسيرها وشرحها. فالغزالي فعلا هو فيلسوف إسلامي بامتياز لأنه جمع أكثر من حقل في منظومته الفكرية ونجح إلى حد كبير في طرح أسـئلة وجودية دفعته في النهاية إلى نقد الفلسفة ونقضها وكشف تعارضاتها في كتابه «تهافت الفلاسفة» من خلال كشفه لتهافت الفلاسفة المسلمين الذين أخذوا مناهج البحث عن اليونانيين وعجزوا عن إعادة انتهاجها. فالغزالي بدأ بعرض مناهج الفلاسفة المسلمين في كتابه «مقاصد الفلاسفة» وانتهى أخيرا إلى كشف تهافتها. وهذا العمل المهم أثار لاحقا غضب ابن رشد (أبوالوليد) في قرطبة فرد عليه في كتابه المعروف بـ «تهافت التهافت».

إلا أن أية مقارنة معاصرة بين الكتابين أو المنهجين أو الفيلسوفين فإن الغلبة ترجح كفة الغزالي على ابن رشد. فالفيلسوف المسلم الحقيقي باجماع معظم المستشرقين هو الغزالي وليس ابن رشد.

المشكلة في رد ابن رشد على الغزالي وليس في الغزالي ورده على فلاسفة المسلمين. والمشكلة في عمقها المعرفي تدحض كلام هيغل وتسقط ذرائعه عن مأزق الفلسفة الإسلامية وأزمة الفيلسوف المسلم. فابن رشد في رده على الغزالي قطع الحوار وعطل إمكانات تطوير الانجازات المذهلة التي توصل إليها الغزالي (على مذهب الشافعي ومدرسة الأشعري الكلامية) في تفكيكه للمنظومة المعرفية للفلسفة الإسلامية وإعادة تشكيله لنواة فلسفة إسلامية بديلة. فالغزالي لم يكمل مشروعه الفلسفي وتوفي في عمر لم يتجاوز 55 سنة وهو أمر كان على غيره أن يستكمله، ولكن كل المحاولات لم تنجح في تطوير الأبنية المعرفية التي أسسها صاحب «التهافت» فبقيت كما هي من دون تطوير جذري في أسسها المعرفية أو قواعدها المنهجية.

لا شك في أن الغزالي هو مثال الفيلسوف المسلم المأزوم الذي عانى الأوجاع والأمراض حين أصيب بمرض الشك فدخل في حالات من الألم الداخلي والصراع مع الذات الأمر الذي أورثه القلق والتوتر... فاضطر إلى تقديم استقالته من رئاسة مدرسة النظامية في بغداد والشرود والتشرد في الصحراء ولبس ثياب الصوفية والزهد بالدنيا والذهاب إلى دمشق والانزواء والتفكر في صومعة الجامع الأموي.

فكَّر الغزالي كثيرا وبحث عن أجوبة تزيل الشك وتنقله إلى اليقين. واشتغل الغزالي كثيرا على نفسه وعانى مرارة السؤال حتى توصل إلى أجوبة ردت إليه وعيه حين اكتشف معنى السعادة. فالسعادة عنده لذة المعرفة. وهذا لم يتوصل إليه من دون المرور في أطوار مختلفة في حياته عرف خلالها الصعود والهبوط وانتهاء إلى الاستقرار النفسي الذي أعاد إليه توازنه.

كتب الغزالي قصته (سيرة المعرفة) في روايته عن حياته في كتاب «المنقذ من الضلال». ففي هذا الكتاب يروي بصدق نادر سيرة المعرفة من الشك إلى اليقين، إذ يصف فيه محطاته الفكرية وتطوره وتدرج نموه المعرفي واحاطته بالكبيرة والصغيرة وخصوصا تلك الفترة (الفقرة) من حياته حين يصف حالات المرض الذي عانى منه وشروده وتشرده ودخوله في سياق الصوفية. فالتصوف عند الغزالي هي تجربة وليست نصوصا وهي معرفة حسية رياضية (ذهنية) لا تكتشف إلا بالخبرة ومن طريق التجربة وليس بواسطة التعلم. وهذا ما يميز مفهوم السعادة (اللذة المعرفية) عند المتصوفة ويفرقها عن مفهوم السعادة في الطرق التعليمية والتدريبية الأخرى. وهذا أيضا ما يميز المعرفة التي تأتي من طريق الحس (التجربة العملية) والممارسة عن المعرفة التي تأتي من طريق القراءة والكتابة والتعلم في المدارس... كالمدرسة النظامية التي قدم استقالته منها.

جيل الغزالي لم يفهم الغزالي كثيرا كذلك الجيل الذي أتى من بعده. فكل فريق فهمه كما يريد، أو فهم بعض أجزاء من حياته وكتاباته وأهمل ما تبقى منه. وكل فريق حاول أن ينسب الغزالي إلى صفه معتبرا إياه إماما في مجال الحقل الذي أبدع فيه. الفقهاء وخصوصا على المذهب الشافعي - الأشعري حاولوا احتكاره بصفته أحد أبرز المطورين (المبدعين) في مجال الفقه. المتصوفة أيضا حاولوا احتكاره بصفته أحد قادة الصوفية في فترة من حياته مستفيدين من فقرات وردت في سيرته تمدح الصوفية بصفتها أفضل وسيلة شريفة للوصول إلى السعادة (لذة المعرفة). وأعداء الفلسفة صادروه لمصلحة مناهج تنقض الفلسفة وترفضها. وأصدقاء الفلسفة صادروه أيضا لأنه أول من حاول شرح مقاصدهم وأهدافهم بطريقة علمية وموجزة، مستفيدين أيضا من كتاباته عن الفلسفة ومبادئ فكرها ومناهجها. ولعب كتابه عن «مقاصد الفلاسفة» دوره الكبير حين ترجم إلى اللاتينية وترك تأثيره المهم على أجيال متعددة من المثقفين في أوروبا في فترة القرون الوسطى.

كل فريق أخذ بعض الغزالي وترك بعضه الآخر إلى أن جاء ابن رشد فأجهز عليه في «التهافت» برد عنيف في كتاب مضاد لينقطع الحوار وتتعطل إمكانات التطور الفلسفي وتطوير الاجتهادات المميزة والمستقلة التي توصل إليها الغزالي.

هذه هي مأساة الفلسفة الإسلامية وهي أعمق وأخطر بكثير من تلك التي أشار إليها هيغل في نظريتي «التوحيد» و«التثليث». والمأساة هي أن كل جيل في تاريخنا يقطع دابر الجيل السابق ويلغيه بدلا من أن يستثمره ويؤسس عليه. فالمعرفة هي كالرأسمال تتراكم جيلا بعد جيل وإذا لم يحصل التراكم فقدت المعرفة إمكانات تواصلها وتطورها.

وما حصل في الفلسفة تكرر في السياسة والاقتصاد والموروثات والآثار وبقايا الماضي. فكل جيل يبدأ من الصفر والأصفار في النهاية تنتهي إلى أصفار... وهذا ما وصلنا إليه في وقتنا الحاضر.

وهنا بالضبط يكمن الفارق بين علماء النهضة في أوروبا المعاصرة وبين رواد ما يسمى بالنهضة العربية في منطقتنا. علماء النهضة الأوروبية وفلاسفتها عادوا إلى الماضي والحضارتين اليونانية والرومانية، واستخلصوا منها الدروس والعبر واستفادوا من المسيحية وإنجازاتها وأعادوا ربط التاريخ الأوروبي في سياق تطوري لا يقطع بين الماضي والحاضر، فنجح رواد التنوير في أوروبا في استخلاص النسق المعرفي من سياق تطور التاريخ الأوروبي. فالمعرفة عندهم هي نتاج تاريخ ووقائع وحوادث وهي تنطلق من الادراك الحسي والمعرفة المبنية على التجربة والعلم... وهذا خلاصة ما توصل إليه الغزالي حين جمع في شخصه بين العلم والفقه والتصوف والفلسفة وأعاد انتاجها في مجموعة كتب كان لها اثرها في اطلاق حركة تنوير أسهمت لاحقا في تربية جيل قاد تحرير بلاد الشام من حملات الفرنجة.

لعب فكر الغزالي دوره وشكلت تجربته نقطة مضيئة في تاريخ تطور الفلسفة الإسلامية إلا أن روح فكره حوصر وقضي عليه لاحقا سواء من الجهات التي حاولت احتكاره أو من الجهات التي شنت عليه حملات تشويه لا تقل ضراوة عن تلك التي خاضها ضده ابن رشد.

الفارق إذا بين رواد نهضة أوروبا وما يسمى برواد النهضة العربية أن الأوروبيين انطلقوا من التراكم التاريخي - المعرفي ليطوروا حاضرهم، بينما معظم رواد النهضة من عرب ومسلمين انطلقوا من تراكم الأصفار وعدم النظر في ذاك الكم الهائل من التراث المتوارث الذي من دون معرفته يصعب علينا أن نشهد نهضة في المستقبل.

أصاب هيغل في ملاحظته وأخطأ. فهو أشار إلى أن المشكلة تكمن في الناحية النظرية (الدينية) بينما أساسها يكمن في الناحية التطبيقية (العملية) ونزعة التسلط عند أشباه المثقفين الذين لا يعرفون تاريخهم ولا حضارتهم ويريدون أن ينطلقوا من العدم (الصفر) لتأسيس الجديد. وهذا موضوع لحديث آخر.

إقرأ أيضا لـ "وليد نويهض"

العدد 553 - الخميس 11 مارس 2004م الموافق 19 محرم 1425هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً