العدد 558 - الثلثاء 16 مارس 2004م الموافق 24 محرم 1425هـ

صلاح «الشرق الأوسط» شأن داخلي ينبغي تركه لأهله

التقسيم الأميركي للعالم وضع العرب في دائرة «الشر»

ابتدأ حديث البيت الأبيض عن تغيير خريطة الشرق الأوسط في مرحلة إعداد «تقرير استراتيجية الأمن القومي الأميركي» التي أعلنها بتاريخ 20 سبتمبر/ أيلول 2002، أي في موعد الذكرى السنوية الأولى لحادث 11 سبتمبر 2001، وتحت تأثير الانفعال لهوله. وعندما قسم الرئيس الأميركي نظم العالم الى مارقة (نظم شر)، والى أخرى ملتزمة بالقانون ومقتضيات الديمقراطية (نظم خير)، كان يدمج في الصنف الأول دول منطقة الشرق الأوسط، لأن شعوبها، عربا أو مسلمين، هم الذين حكم عليهم حكما غيابيا ومن دون سند قانوني بأنهم إرهابيون وجعل منهم اعداء، ما يعني أن المنطقة كلها - نظما وشعوبا - قلعة إرهاب، باستثناء نظام «إسرائيل» الذي كان يصنفه البيت الأبيض ولايزال في عداد النظم الخيرة التي تناهض الإرهاب على غرار ما تفعله الولايات المتحدة وحلفاؤها الذين انخرطوا في التحالف العالمي ضد الإرهاب.

والمقصود بالنسبة إلى «إسرائيل» هنا هو حربها على الشعب الفلسطيني. لكن بعد أن شرع البيت الابيض في تقييم هذه الخطة، وتبين له ما واكب تطبيقها النموذجي في أفغانستان والعراق من اخطاء، عدل طريقة تعامله مع هذه الاستراتيجية بالعدول عن فرض برنامجها بوسيلة الحروب الاستباقية والقوة العسكرية. وبدلا عن ذلك قرر ان يخطط لتغيير معالم منطقة الشرق الأوسط باعداد استراتيجية مسالمة لا تتحدث كسابقتها عن التغيير، ولكن عن «الإصلاح» في المجالات السياسية والاقتصادية، والاجتماعية والثقافية بما يدخل في هذه الأخيرة من إصلاح مناهج التربية والتعليم. ومع ذلك فإن البيت الأبيض لم يستخلص من حالتي حرب افغانستان والعراق الدرس الحق الذي يجب استخلاصه. وهو عدول الولايات المتحدة عن التدخل في الشئون الداخلية للدول والمراهنة على اخضاع العالم لهيمنتها، وانه لا يكفي تغيير الأسلوب لفرض اكراهاتها، أو أن تظهر امام العالم وهي تحمل في يدها قفازا من حديد للمصافحة، بل الأفضل من ذلك استخلاصها الدرس الأكبر والأجدى، الا وهو ان العالم يرفض ان يمنح - سواء طوعا أو كرها - سيادته على نفسه للولايات المتحدة هدية لتتصرف فيها كيف تشاء، حتى لو كان قصدها من تدخلها في شئونه يضمن له المزيد من التطور والنماء. وذلك لسببين، أولهما: ان العالم بعد أن تحرر من الهيمنة الاستعمارية خلال القرن العشرين إذ صفيت جيوب الاستعمار العالمي في كل مكان اخذ يرفض في القرن الحادي والعشرين ان تمنحه القوى العظمى هدية الإصلاح حتى لو كانت لها من وراء ذلك نوايا حسنة. فالإصلاح شأن داخلي يحرص العالم على توليه بنفسه، ولا يقبل ان يخضع من أجله لوصاية أي كان.

وثانيهما: ان تعامل البيت الأبيض مع الشأن الدولي طيلة ثلاث السنوات الماضية أفقد الولايات المتحدة صدقيتها القديمة عندما كانت تتحرك في المجال الدولي لنصرة قضايا الشعوب العادلة وتحرير الأوطان وفرض سلطة القانون الدولي على النظم الماردة. لذلك فشعوب منطقة الشرق الأوسط لا تصدق البيت الابيض فيما يدعيه اليوم من انه انما يقوم عبر العالم بنشر رسالة التمدين والتطوير لوجه الحقيقة لا غير، وانه لا يرجو من وراء ذلك جزاء ولا شكورا.

يشمل مشروع الاصلاح الأميركي منطقة عالمية واسعة اطلق عليها المخطط اسم «منطقة الشرق الأوسط الكبير»، وقالت المصادر الأميركية انها المنطقة الممتدة من الرباط الى جاكرتا، أي انها تضم العالم العربي من المحيط الى الخليج، والعالم الإسلامي بجميع مكوناته وفصائله بما فيه تركيا وايران (وهما حاليا ضمن دول منطقة الشرق الأوسط). وقد تكون من بين دول هذه المنطقة دولة الاكراد العراقيين المحتملة. وقد تكون من بين دول هذه المنطقة دويلات أخرى يخطط لصنعها، فالحديث عن وحدة العراق لم يعد من اهتمامات البيت الابيض، لكن ستكون بكل تأكيد ضمن دول هذه المنطقة «إسرائيل» التي يرشحها الخبراء الأميركيون بالبيت الابيض لتكون القاطرة التي تجر وراءها عربات دول «الشرق الأوسط الكبير». وبطبيعة الحال يفرض ذلك على العالم العربي الإسلامي التسريع بالتطبيع الشامل مع «إسرائيل»، حتى يمكنها ان تضمن للقطار ان يمضي قدما على سكته دائما في اتجاه الولايات المتحدة.

وحسبما تسرب من معلومات عن هذا المشروع، فإن لجنة خبراء أميركية تعد بالبيت الأبيض خطوط الإصلاح الشامل لوضعها موضع التنفيذ، ما يعني أن القطب الأميركي الاحادي يسود ويحكم العالم من مكاتب البيت الابيض، ويدير شئون العالم باستقلالية وتصميم على ألا يشرك معه المعنيين أصحاب الشأن، أي الشرق أوسطيين الممتدين على هذه الساحة العالمية الكبرى.

العالم العربي سارع الى رفض هذا الاملاء الأحادي الجانب. جاء ذلك على لسان الأمين العام للجامعة العربية، وصدر في تصريح مشترك بعد اجتماع وزاري سعودي مصري سوري، وقال عمرو موسى: «اننا نسمع عن المشروع عبر الاعلام العالمي ولم يستشرنا بشأنه أحد». والتصريح الثلاثي جاء فيه «ان الدول العربية الثلاث تقول لا للإصلاح المراد فرضه، لكنها مصممة على ان تقوم بإصلاح ينبع من الذات». ولاشك في ان العالم الإسلامي له الموقف نفسه وان لم يصدر عنه إلى حد الآن تصريح مضاهٍ لتصريح الرفض العربي. وينتظر من قمة تونس العربية ان تجمع على ما جاء في التصريح الثلاثي، لأن التذكير الوارد فيه أمر بديهي لا يقبل النقاش. ومن السذاجة ألا يفكر فيه سلفا البيت الابيض ويدخل في استشارة مع المعنيين بالأمر في العالمين العربي والإسلامي قبل ان يعلن مخططه للإصلاح كما لو كان العرب والمسلمون مجرد أغنام يسوقهم الراعي الأميركي احيانا بالعصا والعنف، واحيانا بالرفق واللين والربت تلطفا على الأكتاف.

مع ذلك علينا ان نذكر ان البيت الابيض بعد أن بلغته معارضة العالم العربي لمشروع الإصلاح الأميركي تراجع قليلا بعض الخطوات الى الوراء عندما أعلن أن المشروع الأميركي مازال لم تكتمل جميع حلقاته، وانه سيُعرض على المعنيين بأمره للاستشارة، وأيضا عندما اوفد وكيل وزارة الخارجية الأميركي آلان لارسو في نهاية فبراير/ شباط الماضي الى عواصم عربية ليطرح عليها ما سمي: «فكرة بوش لإصلاح الشرق الأوسط الكبير»، وثالثا عندما اوفد مارك غوسمان الى أربع عواصم عربية للتحدث إليها في قضايا تهم الولايات المتحدة ومن بينها قضية الإصلاح.

ردة فعل الاتحاد الاوروبي على المشروع لم تأت في صالحه، فبعضهم سمى المشروع باسم: «الشرق الأوسط الكبير الأميركي». وسياسيون من هذا الاتحاد أبدوا معارضتهم له، ما اضطر معه البيت الابيض الى إعلان نيته ان يعرض على الاتحاد الاوروبي وحلف شمال الاطلسي الانخراط في المشروع كشريك للولايات المتحدة. وقال انه سيعرض هذه المبادرة على حلفاء أميركا في اجتماع دول الصناعية الكبرى الثماني الذي سينعقد في فلوريدا يومي 8 و10 يونيو/ حزيران المقبل. وفي قمة حلف شمال الاطلسي التي ستعقد في اسطنبول يومي 28 و29 يونيو المقبل أيضا.

أن يرتكب الرئيس بوش وخبراؤه الاخطاء الكبرى طوال ثلاث سنوات، فذلك لا ضير فيه، لأن الانسان خطاء، ولكن ألا يصلحوا اخطاءهم، وان يستمروا في ارتكابها من دون وعي فذلك ما لا عذر لهم فيه. وسيكون توليهم إصلاح منطقة الشرق الأوسط من دون العودة الى أهلها وترك شأن الإصلاح لهم ليس خطأ ولكن خطيئة كبرى، لانهم لا يعلمون شيئا عن هذه المنطقة ولا عن تاريخها وخصوصياتها وثقافتها، ولا عما تتوق اليه شعوبها. أما النظم الحاكمة في المنطقة فواجبها ان تسارع الى إصلاح أوضاعها بنفسها طبقا لما تريده شعوبها ونخبتها. وكما قال الرئيس اليمني علي عبدالله صالح: «خير لك ان تحلق لحيتك بيدك من أن يتولى غيرك حلقها بالعنف والإكراه»

العدد 558 - الثلثاء 16 مارس 2004م الموافق 24 محرم 1425هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً