العدد 567 - الخميس 25 مارس 2004م الموافق 03 صفر 1425هـ

خطة التوجه إلى النقب وصلتها بالأطماع في البحر الأحمر

التهديدات الأميركية الراهنة لسورية وخلفياتها (1)

اتتني الدعوة للحديث عن سورية في اليوم نفسه الذي اشتدت فيه التهديدات الاميركية عليها (7/3/2004) فاستجبت، فانا في (سياساتها) كسعيد عقل، صديقي العزيز، في (شامياتها) «شام اهلوك احبابي وموعدنا اواخر الصيف ان الكرم يعتصر»، «وهنا الترابات من طيب ومن طرب. واين في غير شام يطرب الحجر». فهي (جلق) العرب في الارض المقدسة بعد كعبتهم المباركة في الارض (الحرام). وحدت في عهدها الاموي مابين الهند والاندلس، ذلك حين نادت وهبت من بعد الخروج العربي الراشدي اليها لتكوين (الامة الوسط) مابين (الشام واليمن) حول الارضين (المحرمة والمقدسة) . فاتحد الدين بالتاريخ وبالجغرافيا وبالبشر في ذلك الجبل اللاعب بالريح والحقب.

خبرتها شعبا وارضا منذ يونيو/ حزيران 1966، وان كنت قد خبرتها فكرا منذ العام 1964 في السودان عبر مكتبة متواضعة ولكنها غنية في المحطة الوسطى بالخرطوم لصاحبها حامد المتري. فقرأت لزكي الارسوزي وميشال عفلق وساطع الحصري ولكثير غيرهم، فدامجت بين خصوصية سودانيتي من دون سوداوية عنصرية، وبين افريقيتي من دون انفصامية ثنائية، وبين عروبتي الوريثة في حضارتها وثقافتها لكل العالم القديم والوسيط مابين فارس والاندلس، على امتداد المتوسط والى اعماق الجزيرة العربية، فتوحد كل ذلك في نفسي من دون ثنائيات ومن دون انفصام.

اما كيف تدامجت هذه (الكثرة) في (الوحدة)، فقد كان ذلك (اسلامي) الذي اكتشفته في (درب الصالحية) بدمشق حيث مرقد الشيخ الاكبر والكبريت الاحمر (محي الدين بن عربي - 560/ 638هـ - 1165/ 1240م) في سفح قاسيون من خلال الشيخ ذابت السودانية في الإفريقية، وذاب كلاهما في العروبة، كما ذاب تعدد الاديان في (عين الدين) وحدث (اليقين). فهناك في دمشق اصبح (بعضي كلي) فكان كتابي (جدل الغيب والانسان والطبيعة). وهو رؤيتي (الفلسفية) التي استبطنت ثنايا كتابي: (السودان: المأزق التاريخ وآفاق المستقبل).

فسورية الشام بالنسبة إلي ذات وموضوع، وانسان ووعي وتاريخ وجغرافيا، وحاضر وغد، هي فيّ كما انا فيها، اذا استصرخت هرعت، واذا سكنت سكنت، تماما كما صرح عني - وانا في عالم الذر - شاعرنا السوداني المرحوم احمد محمد صالح مزجيا لها القول حين ضرب الفرنسيون دمشق:

صبرا دمشق فكل طرف باكي

لما استبيح مع الظلام حماكي

سمعت في الخرطوم انات الاسى

وسمعت في الحرمين انة شاكي

والي (بكت العروبة كلها لبكاك)

تهدد أميركا وتتدخل فلماذا؟

لنجيب عن هذا السؤال الراهن، علينا ان نعرف اولا من هي سورية؟ ليس من زاوية المساحة وعدد السكان والموارد وحتى نوع الحكم والنظام السياسي، فهذه كلها مشتركات متغيرة بينها وبين العالم، فالسكان يزيدون وينقصون، والموارد تنمو وتتقلص، والانظمة تتبدل، وحتى المساحات تتمدد لتكون ما بين الاندلس وخراسان، او اتجاه العراق والاردن وفلسطين ولبنان، لتكون سوريا الكبرى بالألف الممدودة او تتقلص بحجمها الراهن لتكون (سورية) الصغرى بالتاء المربوطة.

ولكن (الثابت) غير المتغير انها (جلق) العرب وملاذهم المصيري والابدي بعد (كعبتهم) في الارض الحرام.

تظل المركز غير القابل للمساومة عبر التاريخ، حتى ولو اراد كل شعبها، ولو اراد كل حكامها، ولو اجتمعت عليها الدنيا باسرها فسورية اما ان تكون او لا تكون. هذا (قدرها) لان كينونتها ليست مرتبطة (بعبقرية المكان) كمصر والتي انتهت لتوقيع اتفاقات كامب ديفيد في العام 1978وليست مرتبطة (بحكم الزمان) كسائر العرب الاخرين اذ جار عليهم الزمان استسلموا، فزمان سورية ومكانها يختلفان، لان كينونتها تختلف، فهي (مركز وجود) لا تتسق مع مركزية اخرى تخترق الامة الوسط، سواء كان بوجه الرومانية الوثنية كما تصدت زنوبيا ملكة تدمر او بوجه الرومانية الشرقية البيزنطية حين فتح مسيحيو الشام بوابات دمشق لطلائع خالد بن الوليد في شهر رجب العام 14 هـ الموافق 635/635م وبالكيفية نفسها التي لعب بها الاقباط دورا في فتح عمرو بن العاص لمصر وفي مقدمتهم (المقوقس) في العام 18هـ/ 636/640م، أو بوجه حملات الفرنجة المسماة خطأ بالحملات الصليبية التي امتدت طوال الفترة (1095/1270م) فاستقوت الشام بالحلف مع مصر الايوبية (1137/1193م) فدكت معاقل الفرنجة وقلاعهم تماما كما حاولت زنوبيا الاستقواء بفارس من قبل، وكان حادي الاستقواء بمصر (ابن عساكر)، وتماما كما استقوت سورية بمصر في مرتين تاليتين، على عهد إبراهيم باشا (1805/1874) ضد الاتراك العثمانيين، وعلى عهد الوحدة (1958/1961) مع مصر عبدالناصر (1953/1970) وكان حادي الاستقواء بمصر (ساطع الحصري) وقادة الفكر القومي من بعثيين وغيرهم وكما حاولت الاستقواء بالعراق.

تقطيع أطراف الاستقواء

كما تمكنت الرومانية الوثنية من عزل (زنوبيا) عن فارس، وتمكنت اوروبا من ارجاع جيوش إبراهيم باشا من الشام العام 1839، ثم ضرب الوحدة مع مصر بالانفصال العام 1961، فالمطلوب دوما الا تستقوى سورية لا بمصر ولا ايران ولا بمن حولها، ثم المطلوب قبل ذلك وبعده تفتيتها وتفكيكها، فمن بعد ارجاع إبراهيم باشا العام 1839م تمت تجزئة سايكس - بيكو بداية من الخامس من يناير/ كانون الثاني 1916، ومن بعدها جاء (وعد بلفور) لإنشاء دولة «اسرائيل» في الثاني من نوفمبر/ تشرين الثاني 1917 والذي تحقق في الارض الشامية المجزأة العام 1948.

وما بين سايكس بيكو ووعد بلفور (1916/1917) وقيام «اسرائيل» (1948) تم القضاء على ارهاصات وبدايات الوحدة العربية الهاشمية التي بدأت بسقوط الخلافة العثمانية العام 1924، فاجلوا الهاشميين عن سورية فيما ابقوا عليهم ضفتي الاردن الشرقية والغربية، وفي العراق تحت السيطرة البريطانية، اما سورية ولبنان فقد سيطر عليهما الفرنسيون.

كانت السيطرة الفرنسية على سورية ولبنان كما السيطرة البريطانية على الاردن بضفتيه وعلى العراق مكملتين لزرع «اسرائيل» كمركزية (بديلة) في قلب الامة الوسط. وهذا مضمون محاضرتي «لا تجتمع في الأمة الوسط مركزيتان - المنامة - مركز الشيخ إبراهيم بن محمد آل خليفة للدراسات والبحوث - 18 نوفمبر 2003م).

ان ما يجب ان الفت اليه النظر بتركيز واضح لتفهم مضمون هذه المحاضرة حول التدخل الاميركي الراهن في سورية هو ان المخططات الاوروبية ثم الاميركية لاحقا قد بدأت من قبل التفكير في انشاء دولة «اسرائيل» وفق مقررات مؤتمر (بازل) الصهيوني المنعقد في سويسرا العام 1897 اذ بدأت منذ ارجاع قوات إبراهيم باشا من سورية العام 1839م.

فهناك (تضايف) ووحدة استراتيجية تجمع ما بين اوروبا واميركا و«اسرائيل» تجاه المنطقة عموما وسورية خصوصا. فـ «اسرائيل» تبني على قاعدة بناء اوروبي/ اميركي ممتد من الحقبة الهيلينية من القرن السادس عشر قبل الميلاد والى اليوم.

تعدد مضامين الصراع

العربي مع «إسرائيل»

حين أقول سورية (خصوصا) فاني ارجع كرة اخرى الى شرح ما يميز الكينونة السورية عن عداها عربيا في اطار الموقف من «اسرائيل».

فالصراع العربي الاسرائيلي لا يستند الى موقف واحد مهما غلفّ بالعروبة او الاسلام وذلك على النحو الآتي:

الموقف المصري (الاستراتيجي):

فالموقف المصري من الصراع مع «اسرائيل» هو (موقف استراتيجي) يتمحور حول امرين:

اولا: التخوف الدولي والاسرائيلي من ان تكون مصر هي (البديل المركزي) لكل المنطقة العربية ما يؤدي لاستحالة نشوء مركزية اخرى منافسة ولذلك منعت مصر من وراثة الخلافة العثمانية وارجعت جيوشها من الشام العام 1839 وطوقت في السودان والبحيرات العظمى والقرن الإفريقي والبحر الاحمر منذ صدور قرار اخلاء السودان في يناير 1884 ولم تكن الثورة المهدية تشكل خطرا حقيقيا، ومنذ استيلاء بريطانيا وفرنسا وايطاليا على ما تبقى من امبراطورية الخديوي اسماعيل في اريتريا والصومال وجيبوتي، وذلك طوال الفترة 1881 والى 1885.

ثانيا: ان ما بين مصر و«اسرائيل» عازل (مائي) هو البحر الاحمر، وعازل جغرافي هو (صحراء سيناء). ما يعزز مفهوم الصراع الاستراتيجي بين (دولتين) بينهما عازل طبيعي. ولان مصر نفسها نظرت الى الطبيعة الاستراتيجية لهذا الصراع فلم تتبنَّ تحويل قطاع غزة الذي كانت تسيطر عليه في الفترة (1948/1967) أي طوال عشرين عاما الى دولة فلسطينية او قاعدة فعلية للمقاومة الفلسطينية حتى من بعد انشاء منظمة التحرير الفلسطينية بقيادة المرحوم احمد الشقيري قبل حرب 1967م وجلاء مصر عن قطاع غزة.

ثالثا: بالتعمق في دراسة النقطتين السابقتين نجد ان مصر قد اكتشفت نفسها معزولة منذ عهد محمد علي باشا، ولم تتمكن في الحقبة الناصرية من استعادة مركزيتها العربية الا بالوحدة الاستثنائية القصيرة العمر مع سورية (1958-1961) كما اخفقت جهودها في اليمن (1962 - 1967)، ثم مع ليبيا والسودان بعد العام 1969.

ويضاف الى ذلك قيام العازل الطبيعي، فدفع كل ذلك مصر - مع عوامل اخرى في عهد السادات- لتوقيع اتفاق كامب ديفيد الذي كرس لعزلتها الاقليمية استراتيجيا حتى انها لم تستطيع التدخل حين الاجتياح الاسرائيلي للبنان في 1982.

رابعا: كان بمقدور مصر لو ارادت وفي الحقبة الناصرية بالذات ان تحول الصراع الاستراتيجي بين دولتها ودولة «اسرائيل» الى صراع (مصيري) لو تبنت قيام الدولة الفلسطينية في غزة ضمن فترة (48/1967) او كثفت المقاومة الفلسطينية انطلاقا من قطاع غزة، ولكنها اخذت بمنطق الصراع الاستراتيجي بين (الدولتين) واستخدام الورقة الفلسطينية كعامل (ضغط) فقط ولهذا صرفت جهودها العسكرية الى (اليمن) ثم جاء جيشها (منهكا) ليواجه ضربة 1967. وهي خطيئة كاد ان يخطئها من قبل صلاح الدين الايوبي نفسه لولا تنبيهات (ابن عساكر).

خامسا: واخيرا اعلنت مصر بالامس فقط الاثنين 8 مارس/ آذار 2004 واثر الاعلان الاسرائيلي بالانسحاب المزمع من قطاع غزة انه لن يكون لها شأن بهذا القطاع حتى لا يؤدي ذلك الى مشكلات او متاعب بينها وبين الفلسطينيين او الاسرائيليين ما يؤكد ان مصر ما

العدد 567 - الخميس 25 مارس 2004م الموافق 03 صفر 1425هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً