العدد 569 - السبت 27 مارس 2004م الموافق 05 صفر 1425هـ

ما بعد مدريد: المستفيدون والمتضررون

صلاح الدين الجورشي comments [at] alwasatnews.com

.

يبدو أن عملية 11 مارس/ آذار التي هزت العاصمة مدريد، لم تغير فقط المشهد السياسي الإسباني، بل يبدو أن تأثيرها قد بدأ يمتد نحو أوروبا ويزيد من تضييق الخناق حول رقبتي كل من الرئيس الأميركي جورج بوش ورئيس الوزراء البريطاني طوني بلير. وإذ أدت تلك العملية الوحشية، التي ذهب ضحيتها مدنيون أبرياء لا حول لهم ولا قوة، إلى الإطاحة بحزب الشعب بقيادة (اثنار)، وتتزايد الاحتمالات بحدوث الشيء نفسه في الانتخابات الأميركية والبريطانية، فهل يمكن القول بأن «الإرهاب» يحقق ما تعجز عنه السياسات والمفاوضات والضغوط السلمية؟

وتكمن خطورة مثل هذا التساؤل في ما يمكن أن يجده الواقفون وراء تنظيم «القاعدة» أو غيره من حركات العنف الأعمى، من مبررات لتأكيد «مشروعية » ما يقومون به ويخططون له، مقابل الزعم بفشل غيرهم من الحركات المتمسكة بالنضال السلمي والديمقراطي.

لا خلاف على أن كل عملية إرهابية ضخمة تترتب عنها بالضرورة نتائج متباينة الأثر. وفي كل مرة تكون أطراف مستفيدة من الحدث وأخرى متضررة من تداعياته.

ففي حادث القطارات الإسبانية الأربعة، تعددت الجهات المستفيدة، ومن أهم هذه الجهات «الحزب الاشتراكي الإسباني» الذي وظف ارتباك حكومة (اثنار) ومحاولة إخفائها بعض المعطيات المتعلقة بالتحقيق، وأثار الشكوك عن صدقيتها، ومسكها من اليد التي توجعها وتتمثل في الانخراط في حرب العراق من دون الاستناد على دعم شعبي. فالرأي العام الإسباني المعروف بمساندته للقضايا العربية، فسر عملية 11 مارس بكونها رسالة موجهة لحكومته وليست عملا عربيا مضادا له، وأن الدعم الإسباني المفرط لواشنطن قد جعل من بلادهم هدفا لتنظيم «القاعدة» وغيرها من الحركات الإرهابية. لهذا كان رد الجماهير الإسبانية المجروحة هو معاقبة اليمين وسحب الثقة منه.

المستفيد الثاني من العملية هي المغرب، التي تشعر حاليا بشيء من الارتياح بعد أن جعل رئيس الحكومة الإسبانية الجديد تحسين علاقات بلاده بجارته الجنوبية إحدى أبرز أوليات سياسته الخارجية، لكن هناك معلومات تؤكد تورط عناصر تحمل الجنسية المغربية في الحادث الارهابي، كما سيشعر المغاربة بأنهم مطالبون بمزيد من المرونة والمبادرات لإثبات حسن نيتهم تجاه الإسبان.

المستفيدان الآخران من تفجيرات مدريد هما فرنسا وألمانيا، اللتان ربحتا حليفا جديدا سبق له أن لعب دور المشاكس المزعج أثناء التهيئة للحرب على العراق. فاعتراف مدريد بصحة وسلامة موقف باريس وبون من الملف العراقي، أضفى مزيدا من الأهمية على دورهما المتزايد في قيادة أوروبا ورسم سياستها الخارجية. فأوروبا اليوم أصبحت تشعر بأنها أصبحت مستهدفة أيضا بسبب سوء إدارة الولايات المتحدة لمعركتها ضد الإرهاب، وهو ما عبر عنه مفوض الاتحاد الأوروبي لشئون توسيع العضوية جونتر فيرهيوجن، عندما عبر عن مخاوفه من أن تغير هجمات 11 مارس أوروبا مثلما فعلت هجمات 11 سبتمبر/ أيلول بأميركا.

الخاسرون

أما إذا انتقلنا إلى قائمة الخاسرين، فمن المؤكد أن تكون واشنطن في مقدمتهم، بعد أن دفع ذاك الحادث بإسبانيا إلى الرجوع إلى سياستها السابقة القائمة على احترام شرعية الدول، وعدم التدخل في شئونها. فقرار سحب القوات الإسبانية شكل ضربة قاسية للولايات المتحدة التي تغرق يوما بعد يوم في المستنقع العراقي.

ولعل هذه النقطة بالذات من شأنها أن تشعر من يحركون تنظيم «القاعدة» أو غيرها من الحركات العنيفة بكثير من النشوة والشعور بالقوة، غير أن الاطلاع على بقية الخاسرين من شأنه أن يثير حقا القشعريرة في أجسام المؤمنين. فحادث القطارات شكلت طعنة قوية في ظهر الجاليات العربية والمسلمة بكامل أوروبا. هذه الجاليات التي تعاني بطبيعتها من مشكلات عدم الاندماج، تواجه حاليا تنامي المشاعر العنصرية تجاهها. لقد تحول كل مهاجر أو ابن مهاجر إلى مشروع محتمل للقيام بعمل إرهابي. ولاشك في أن شعورا من هذا القبيل، مدمر للمعنويات ومهدد لنسف كل المكاسب التي تحققت للملايين من أعضاء تلك الجاليات.

الأخطر من ذلك، أن الإسلام خرج مرة أخرى مهزوما بسبب بعض المنتسبين الجهلة له. إذ كيف يمكن تبرير قتل مدنيين أبرياء، ركبوا قطارا ذات صباح لينتشروا في الأرض، كل حسب وجهته، فإذا بأجسامهم - رجالا ونساء وأطفالا - تتحول إلى أشلاء، بذريعة تأديب الحاكم الإسباني، وإرباك أوراق الولايات المتحدة في العراق؟ هل يمكن أن يرضى الله عن مثل هؤلاء، ويرحب بسفكهم الدماء، ويفتح لهم أبواب الجنة؟

أي جهاد مزعوم؟

الإرهاب لا يمكن تبريره حتى لو أدى إلى نتائج قد تبدو إيجابية على الصعيد السياسي. فقتل الناس ظلما يبقى جريمة، والحق لا يمكن تأسيسه على الجرائم واغتيال الأبرياء. «أنه من قتل نفسا بغير نفس أو فساد في الأرض فكأنما قتل الناس جميعا»، (المائدة: 32). وبالتالي فالحذر كل الحذر من بعض التحاليل التي من دون أن يعي أصحابها، يتورطون في إبراز قدرة «القاعدة» على الصمود، والتشكل متعدد الرؤوس، ونجاحها في توجيه الضربات الموجعة لأميركا والغرب. إن ذلك من شأنه أن يغري أصحاب النفوس الحائرة واليائسة والعقول الضعيفة، ويجعلهم يرون في هذا النمط من العنف الأعمى الرد الحاسم والأسلم على ما يرتكب من جرائم وانتهاكات في حق المسلمين هنا وهناك.

لا شك في أن النضال السلمي صعب وشاق، ويحتاج إلى صبر طويل. ولاشك في أن النضال الثقافي والسياسي والاجتماعي نتائجه لا تغري المتعجلين، ولا تقنع فقراء الوعي والثقافة، خصوصا في ظل أنظمة لاتزال مقتنعة في تعاملها مع مواطنيها بقول المتنبي «لا تشتر العبد إلا والعصا معه»، لكن ذلك ليس مبررا للمراهنة على أسلوب خلق الفوضى، وتعميمها في كل مكان باسم «جهاد» غير مقدس. إذا كان ياسر عرفات قال يوما «لا تسقطوا غصن الزيتون من يدي »، فالمطلوب اليوم أن نؤسس إجماعا على الإيمان بأن يبقى التغيير السلمي والديمقراطي والأخلاقي هو الخيار الوحيد مهما بدت الأهداف بعيدة المنال... ذاك هو الإسلام وذاك هو المنهج ولن نعترف بغيرهما مطلقا

العدد 569 - السبت 27 مارس 2004م الموافق 05 صفر 1425هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً