العدد 2744 - الخميس 11 مارس 2010م الموافق 25 ربيع الاول 1431هـ

خروج أوروبا من العصور الوسطى وعليها (1)

محمد خاتمي comments [at] alwasatnews.com

شهد الغرب، أواخر العصور الوسطى، تغيرات في الفكر والمجتمع والاقتصاد والسياسة، كانت في الحقيقة بمثابة مقدمات لتحول أكبر قَلَبَ أحوال أوروبا أولا، وأحوال العالم والإنسان في ما بعد.

واقعتان كبيرتان كانتا وراء دخول الإنسان الغربي إلى العالم الحديث، إحداهما النهضة الأوروبية (Renaissace)، والأخرى حركة الإصلاح الديني (Reforme). والحق أن مقدمات كلتا الواقعتين كانت كامنة في العصور الوسطى.

كانت الكنيسة في الغرب تدعي حصر همها في مجال الفكر والعقيدة، وتدعي لنفسها الحصرية في ذلك دونما المجاهرة بأي طموح في مجال العمل السياسي الدنيوي. لكن واقع الحال لم يكن كذلك ولقد ساهم مرور الغرب بما عرضنا له سريعا من أطوار، وتبدل الأوضاع المادية والاجتماعية في زج الكنيسة أكثر فأكثر في الشأن السياسي الدنيوي وماجرياته.

وقد ترجم عن ذلك في ما ترجم عنه أن سلطة البابا المعنوية، وإن لم تأخذ جانب السياسة في الظاهر، انطوت على مزيد من التدخلات السياسية والاجتماعية مما مهد لمواجهات وخصومات ومنازعات بين البابوية من جهة، وبين السلطات السياسية الحاكمة في مختلف أرجاء مناطق أوروبا من جهة أخرى.

وليس يخفى أن هذه المنازعات والمواجهات كانت - رغم اندلاعها تحت عناوين شتى - حربا بين أهل الدنيا وأهل الدين، موضوعها لِمَن تكون اليد العليا على المجتمع، أفرادا ومؤسسات. وعلى أن هذه المنازعات والمواجهات انتهت إلى غير صالح الكنيسة، فإن أهميتها، في حينها، كانت في إشاعة جو من التحول المصيري. وليس من المبالغة القول إن هذه المواجهة بين أهل الدنيا وأهل الدين كانت في أصل ما شهدته أوروبا من تحولات فكرية واجتماعية، ولا من المبالغة القول إنها كانت وراء المصالحة التي شهدتها نهايات العصور الوسطى بين الإيمان الديني والعقلانية البشرية، ممثلة بدخول الفلسفة، التي لطالما حامت حولها الشبهات، كعنصر أساسي في علم الإلهيات المسيحي، وبنوع من إعادة الاعتبار لآراء بعض كبار أئمتها، لا سيما أرسطو وبطليموس.

على أنه لا ينبغي الاعتقاد أن تعطيل الفلسفة الآنف الذكر كان إلغاء لها من ساحة الفكر. فالفلسفة، رغم استضعافها، لم تزل تشحذ الأذهان وتنتفض من قيد الكنيسة والمؤسسات المرتبطة بها، وتنتظر الظروف المؤاتية لتطل وتكشف عن قدرتها. ومما كشفته المواجهات بين أهل الدنيا وأهل الدين أن فكرا حرا من أي قيد كان يعتمل حتى في ظل ما كان في الظاهر من هيمنة مطلقة للكنيسة على الفكر وحركته.

كما أن الخصومة والنزاع بين البابا والسلطات المدنية من ناحية، وبين أصحاب النحل وبعض رجال الكنيسة من ناحية أخرى، أشاعت في أذهان الناس وحياتهم، لاسيما أصحاب الفكر، جوا لم يلبث أن أدى إلى تطورات وانقلابات غاية في الأهمية. فكل من رأس الكنيسة وخصومه المدنيين كان ينتحل لإثبات تقدمه حقا ذا صفة قدسية، وباسم هذا الحق يدعو الآخر إلى التسليم له. وإذا كان واضحا أن يتمتع البابا بالقداسة، فمما يجب التنبيه عليه هو أن الملوك أيضا كانوا يعتبرون أن سلطانهم الأرضي ذا شرعية إلهية، وأن مقامهم لا يخلو من قداسة. وإذ لم يسعهم التحلل من الإرادة الشعبية لتكريس شرعيتهم، فلقد اعتبرت الإرادة الشعبية وسيلة لبيان هذه الشرعية الإلهية. على أن “قدسية” كل من المقامين لم تدفع عن أي منهما سهام النقد والتشكيك.

فمن جهة البابا، أدى اعتراض كثير من رجال الدين والمؤمنين على سلوكه وسلوك الجهاز المرتبط به، وأسلوب تعاملهم، إلى تعرض قداسة مقامه، وما كان لسلطته من إطلاق، إلى الإنكار، أو في الأقل إلى وضعهما موضع الشك والتساؤل. وكان من جراء ذلك أن لحق الشك أيضا بعصمة الكثير من الاعتقادات التي كانت تستمد عصمتها من عصمة رأس الكنيسة نفسه.

وأما في الجانب الآخر، فقد نضجت، مع صعود الإقطاع، فكرة دستورية السلطة السياسية. فرغم أن الملوك لم يكونوا مسئولين أمام رعاياهم كأفراد، فلا بد من التسليم بأن تنامي نفوذ الإقطاعيين وتنظيمهم لنفوذهم هذا من خلال مجالس واتحادات قد أسهم، إلى حد بعيد، في تقليص سلطة الملوك المطلقة، وجعل منهم بمثابة الشركاء في إدارة شئون المجتمع.

كانت الفلسفة مجفوة خلال فترات طويلة من العصور الوسطى، بل بلغ الأمر أن مفكرين ومتألهين مسيحيين معروفين، وذوي قدر من سعة الصدر وشمولية النظرة تحولان أصلا بينهم وبين إلغاء دور العقل بالمرة، مثل القديس بونافنتورا، قضوا بمنافاة أفكار أرسطو ومذهبه لدين المسيح. وعليه فمن الطبيعي أن انحصر نطاق التفكير المسيحي علم الكلام التصوف.

وكان علم الكلام المسيحي، كعلم الكلام الإسلامي، ينظر أول أمره إلى فلسفة اليونانيين على أنها بدعة. وقد اقتضى الأمر في العالم المسيحي انتظار القديس توما الذي عاش وكتب في أواخر العصور الوسطى لإعادة الاعتبار إلى الفلسفة اليونانية والاحتجاج لأصول الدين المسيحي بالإحالة على مبانيها. وإذ فتح القديس توما هذا الباب، كان من الطبيعي أن يظهر على أثره من يذهب إلى أبعد مما ذهب هو إليه، وهذا بالفعل ما كان.

كذلك يمكن القول إن التغيرات التي طرأت في أواخر العصور الوسطى مهدت لدخول الإنسان الغربي عصر التاريخ الحديث، أو كانت، بالأحرى، مهدا لولادة إنسان جديد ينسجم في ذهنه وعاطفته لا مع ما كان سائدا في العصور الوسطى، بل مع عالم آخر، عالم يصنعه هذا الإنسان بنفسه، ويقيمه على أنقاض العصور الوسطى.

ونصل، في تتبع جذور هذه التحولات التي انتهت بظهور العصر الحديث من تاريخ الإنسان الغربي، فيما نصل، إلى حدود القرن الثاني عشر للميلاد، وهو القرن الذي شهد نشوء نوعين من المؤسسات والتيارات الفكرية والعقائدية في أوروبا، كانا وراء التحول الحضاري الجذري في ذلك الجزء من العالم.

لقد شهد ذلك العصر استحداث المدارس والمؤسسات التعليمية والعلمية الحديثة التي أطلق عليها أسم الجامعة، مثل جامعة باريس في فرنسا، وأوكسورد في إنكلترا، هذا من جهة، أما من جهة أخرى فقد شهد ذلك العصر تشكل الرهبانيات في قلب المجتمع المسيحي، والتي من أشهرها الدومينيكان، والفرنسيسكان، حيث أسس الأولى القديس دومينيك، (1170 - 1221م) والثانية القديس فرنسيس، (1182 - 1226م). وكان لجمعيات الرهبان هذه ميل إلى اعتزال الدنيا، والتمسك بتعاليم دين المسيح ومواعظه، كما أن أسلوبهم كان يختلف إلى حد ما عما كانت تقوم به الكنيسة بصورة رسمية.

ومما عملته هذه الجمعيات، التي كانت تعتبر الوعظ والإرشاد من أهم واجباتها، أنها قامت بافتتاح مراكز علمية خاصة لذلك تدعى بالإنكليزية Faculty (كليات) لعبت دورا مؤثرا في نشر الفلسفة والفكر في العصور الوسطى.

إقرأ أيضا لـ "محمد خاتمي "

العدد 2744 - الخميس 11 مارس 2010م الموافق 25 ربيع الاول 1431هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان
    • زائر 5 | 3:03 م

      بصراحة الموضوع عادي

      كل واحد وهو حر باختياار الدين لكن المشكلة والطامة الكبرى عندما يكونننن مسلم اشرك بخالقه في احسن صورة ليعبد شيء غير موجود يدعي انه الاله

    • زائر 4 | 1:57 م

      تركيا مثال

      في اعتقادي الشعب الايراني يريد دوله علمانيه مثل تركيه , وايران بما انها ذاقت من الوان السلبيات وطبخت بعد ذلك بخروحها بنتيجه ايجابيه وخبرات فنتمنى لها ان تصل الى تصرفات تليق بها لان لا نريد معايرتنا بدول العالم الثالث

    • زائر 3 | 2:58 ص

      يا ماشي درب الزلق لا تآمن الطيحة

      مسكين يا سيد خاتمي حرقت تاريخك المجيد في ليلة مظلمة وراح عمرك هباء منثورا، وا أسفاه على هكذا زمن

    • زائر 2 | 2:15 ص

      ابو محمد

      هذا الانسان يحمل فكراً حرأ وموضوعياً تنويرياً، وهو جدير بالقيادة الحقيقية التي تعكس الصورة المسالمة والمتسامحة لاسلام بعيداً عن الاندفاع العاطفي، في ظل رئاسته للجمهورية الاسلامية كان هناك الرنامج النووي وكان هناك تطوير للصناعات الدفاعية وكان هناك التطور التقني، واستطاع مع ذلك ان يحافظ على علاقات دولية واقليمية متوازنة، ولو استطاعت مواصلة هذه السياسة لكانت اليوم اكبر قدرة اقتصادية تعتمد على ارادة لشعب يتمسك بعقيدة الاسلام السمحة.

    • زائر 1 | 1:24 ص

      قبل ان تحترق الورقة

      لا بأس ان تضعوا هنا بعض مقالات خاتمي قبل ان تحترق اوراقه كلها ويصبح مجرد هيكل لا فائدة منه ..

اقرأ ايضاً