العدد 2357 - الثلثاء 17 فبراير 2009م الموافق 21 صفر 1430هـ

أميركا... وبوابة آسيا

وليد نويهض walid.noueihed [at] alwasatnews.com

كاتب ومفكر عربي لبناني

اختيار الإدارة الأميركية الجديدة آسيا لتكون الساحة الأولى للتحرك الدبلوماسي يؤشر إلى وجود توجهات ميدانية تؤكد الاستعداد على إعادة النظر بالملفات وترتيبها وفق جدول أولويات لا يتوافق بالضرورة مع قناعات الإدارة السابقة. والجولة التي باشرتها ووزيرة الخارجية هيلاري كلينتون من أقصى الشرق أعطت صورة مصغرة عن استراتيجية لا يستبعد أن تتحول إلى سياسة كبيرة تبدأ من الشرق الأقصى وتنتهي في الشرق الأدنى القريب جغرافيا من أوروبا.

البدء من آسيا إلى أوروبا خطوة جغرافية لها معنى استراتيجي على المستويين السياسي والاقتصادي. فالخطوة التي باشرتها كلينتون من الشرق إلى الغرب تخالف تقليديا خطوات الولايات المتحدة التي تبدأ عادة من الغرب إلى الشرق. فالغرب الأوروبي شكل الهاجس الأول في السياسة الأميركية منذ نهاية الحرب العالمية الثانية. والولايات المتحدة التي أطلقت «مشروع ماريشال» لإعادة بناء ما دمرته الحرب أرفقته بسلسلة خطوات أمنية تمثلت في بناء القواعد العسكرية ونشر القوات تحت مظلة الحلف الأطلسي (الناتو).

استمرت الولايات المتحدة تعطي أوروبا الأولوية في دبلوماسيتها الخارجية باعتبارها تشكل جبهة أمامية في التوازن الدولي والجدار الفاصل بين المنظومتين أو ما يعرف بـ «الحرب الباردة» مع المعسكر الاشتراكي (الاتحاد السوفياتي وأوروبا الشرقية). حتى حين أخذت المنظومة الاشتراكية تتعرض للتفكك والانهيار واصلت واشنطن سياستها التقليدية السابقة في إعطاء أولوية لأوروبا سواء على مستوى الاقتصاد (المال والتجارة والاستثمار والتوظيف) أو على مستوى السياسة (الأمن، نشر الصواريخ، تعزيز قوات التحالف). وسياسة تغليب أوروبا على الساحات الأخرى جاءت تلبي حسابات تقليدية (تاريخية) محكومة بالمصالح. فهذه القارة الصغيرة تعتبر معنويا القوة التي ساهمت في اكتشاف أميركا وتوليدها وتطويرها ورفعها إلى مصاف الدولة الأولى في العالم.

من أوروبا جاءت أميركا وتكونت بشريا وثقافيا ودستوريا. المهاجرون الأوائل من أوروبا. والأجناس الأولى التي ارتحلت واستوطنت أوروبية. والديانة التي نقلها المهاجرون والمستوطنون مسيحية أوروبية بيضاء. والرابط الجغرافي - التجاري الذي يفصل مائيا ويغذي القارة بالنقد والسلع والبضائع يقوم على خط تبادلي بين ضفتي المحيط الأطلسي. حتى المدن الأميركية المهمة صنعها الأوروبيون وأطلقوا عليها تسميات مدن أوروبية أو أسماء منقولة من «الكتاب المقدس».

هذه العلاقة الجغرافية - التاريخية أسست سياسة تقليدية بين الطرفين ما أعطى الإدارات الأميركية المتتالية تلك الذرائع التي تبرر وتفسر وتغطي مجموع الامتيازات والخصوصيات التي تمتعت بها أوروبا خلال قرون من الزمن.

هذه الجوانب الخاصة ليست متخيلة وخصوصا أن أوروبا كانت طوال تلك الفترة تشكل اقتصاديا قوة عظمى تجاريا ونقديا كذلك كانت القارة تمثل دوليا ذاك النموذج في «التمدن» و«الرقي» و«التقدم» لكل شعوب العالم. فأوروبا كانت نافذة أميركا إلى العالم ونافذة العالم إلى أميركا. ولهذه الأسباب الموضوعية والذاتية لم يكن هناك صعوبة أمام الإدارات الأميركية لتوضيح مواقفها وتضحياتها أمام شعبها حين كانت تقرر الوقوف عسكريا للدفاع عنها وحمايتها من المخاطر «الشيوعية» أو «النازية». كذلك كانت المساعدات الأميركية المالية لتحصين أوروبا وإعادة إعمارها تلقى التجاوب الشعبي والقبول من دافع الضرائب. فالشعب الأميركي كان يصنف نفسه تقليديا في إطار الحضارة الأوروبية وتاريخها وثقافتها ولغتها ولونها وديانتها. والفاصل الجغرافي (الأطلسي) تم تطويع مسافته بالتجارة والنقل والمبادلات ما أدى إلى تحويل خطوط الاتصالات والمواصلات من «طريق الحرير» وشرق آسيا والبحر المتوسط إلى المحيط الأطلسي الذي شهد أنشطة اقتصادية حديثة ومعاصرة تجاوزت أهمية خطوط التجارة القديمة.

كل هذه الروافد تجمعت في مصب واحد أنتج ذاك التحالف الاستراتيجي الثنائي بين أميركا وأوروبا. وعلى أساس قاعدة الأطلسي (المشترك التجاري) احتكرت الولايات المتحدة وأوروبا عناصر القوة في مختلف مصادرها المالية والاقتصادية (الإنتاج والسوق) والتقنية والعمرانية والمعرفية والعسكرية. وبسبب احتكار عناصر القوة نجح التحالف الأميركي - الأوروبي في فرض شروطه ونفوذه ونماذجه على مختلف شعوب العالم وتحديدا آسيا التي تراجع موقعها التجاري الدولي بعد انهيار خطوط «طريق الحرير».

آسيا أولا

أوروبا أولا لاتزال خيار أميركا الأول حتى في زمن باراك أوباما. ولكن الخيار الأول بدأ يتعرض للتنافس وذلك لمجموعة عناصر أميركية وأوروبية. الولايات المتحدة لم تعد أوروبية بالكامل كما كان حالها منذ الاكتشاف والتأسيس. فهذه الدولة الكبرى تعدلت خريطتها السكانية واللونية ودخلت على ثقافتها الأولى وديانتها المستوردة من أوروبا البيضاء الكثير من التغييرات التي أعادت صوغ شخصيتها وهيئتها وهويتها... وبالتالي توجهاتها وأولوياتها.

أوروبا أيضا التي لاتزال تتمتع بموقعها الخاص في التوازنات الدولية لم تعد تشكل تلك الساحة الوحيدة التي تستوجب الدفاع وتستحق الحماية والدعم بعد نمو قوى إقليمية صاعدة اقتصاديا ومنافسة عالميا على مختلف المستويات العمرانية والمعرفية والثقافية. وآسيا التي خسرت الكثير بعد اكتشاف أميركا وتراجعت مكانتها التجارية (الإنتاج والتصدير) بعد انهيار «طريق الحرير» وصعود الأطلسي ليحتل موقع البحر المتوسط في العلاقات والمبادلات أخذت تسترد دورها في الخريطة الدولية وبدأت تستعيد زمام المبادرة سواء على مستوى القوة النقدية والاختراعات والاكتشافات والتمدن والتقدم أو على مستوى الأسواق والبضائع وخطوط التجارة التي تطورت بين ضفتي المحيط الباسيفيكي (غرب أميركا وشرق آسيا).

«العالم بدأ يتغير وأميركا يجب أن تتغير» هذا ما قاله باراك أوباما في خطاب القسم. فالقوة لم تعد أميركا تحتكرها. والتحالف التقليدي الثنائي بدأ يستنفد أغراضه التاريخية ووظائفه التجارية. وآسيا التي كانت توصف بأنها ساحة للحضارات الراكدة وبيئة للخرافات والتقاليد والتخلف الثقافي لم تعد كذلك. العالم تغير فعلا وأوروبا التي شكلت بوابة أميركا التقليدية أخذت تتراجع لمصلحة بوابة دولية جديدة بدأت تؤسس قواعد قوة تعزز مكانة القارة القديمة وتعيد تنشيط شرايين لنمط من الاتصالات يحاكي في نموذجه «طريق الحرير» من خلال إنعاش شبكة المواصلات في المحيط الباسيفيكي.

جولة كلينتون الآسيوية تحمل الكثير من الإشارات الرمزية. فهذه القارة يمكن أن تتحول إلى بوابة أميركا إلى العالم. وهي أيضا ساحة مفتوحة على التحولات والاحتمالات وتتضمن ملفات لا يمكن حصرها بالمال والتجارة والمبادلات نظرا لانفتاحها على سلسلة حلقات تبدأ بالشرق الأقصى ثم الأوسط ثم الأدنى وصولا إلى البحر المتوسط القريب جغرافيا وتجاريا وثقافيا وحضاريا من أوروبا. فالعالم كروي في هيئته الجغرافية كذلك دائري في حركة حضاراته. والتجارة التي بدأت من الشرق إلى أوروبا (طريق الحرير) وانتقلت من البحر المتوسط إلى الأطلسي بعد القرن الخامس عشر الميلادي أخذت تنتقل من الأطلسي إلى الباسيفيكي وربما تعود مجددا لتجديد «طريق الحرير» وصولا إلى البحر المتوسط وأوروبا.

هناك ملفات كثيرة (نووية، اقتصادية، عسكرية، مالية وغيرها) حملتها معها كلينتون في جولتها الآسيوية إلا أن ما لا يقال في التصريحات والبلاغات والمؤتمرات الصحافية أحيانا يكون أقوى في معانية والغازه من تلك الأقوال. وما لم تقله وزيرة الخارجية الأميركية يوجه إشارة إلى عنوان جديد يحتاج إلى وقت لترسيم خطوطه.

أوروبا لم تعد بوابة الولايات المتحدة الوحيدة للعالم... وآسيا أخذت تتقدم جغرافيا وتاريخيا لتحتل الموقع الأول في خريطة التوازن الدولي بشريا وتجاريا. وحين تحدث أوباما في خطاب القسم عن أن العالم تغير وعلى أميركا أن تتغير كان يشير ضمنا إلى أن أميركا تغيرت (رئيس غير أبيض) وعلى العالم أن يصدق وربما أن يتقبل التغيير

إقرأ أيضا لـ "وليد نويهض"

العدد 2357 - الثلثاء 17 فبراير 2009م الموافق 21 صفر 1430هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً