العدد 574 - الخميس 01 أبريل 2004م الموافق 10 صفر 1425هـ

وقفة... ما بعد قرار تأجيل القمة العربية

صلاح الدين الجورشي comments [at] alwasatnews.com

.

تاريخ القمم العربية لا يدعو إلى الافتخار، ونادرا ما شكلت إحداها خطوة نوعية نحو تحقيق مكسب قومي ملموس. فمعظمها لم يخرج عن نطاق أحد الجداول الآتية: التضخم اللغوي والمزايدات التي تتجاوز إمكانات الأمة الفعلية، أو «التبويس» وتبادل المجاملات وإصدار البيانات الختامية التي لا طعم لها ولا رائحة، أو تقديم التنازلات على حساب الحقوق الأساسية، أو تصفية الحساب بين القادة وتقديم خدمات للقوى الدولية. لهذا تراجعت ثقة الشعوب العربية بمؤسسة القمة، ولم تعد تتحمس كثيرا لانعقادها أو تأجيلها. كما أصبح الحكام أنفسهم غير مؤمنين كثيرا بجدوى اللقاء ببعضهم وفق نظام دوري محدد وصارم.

وأصبحت القاعدة خلال السنوات الأخيرة، أن يسود التردد كلما جرى حديث عن ضرورة تحديد موعد للقمة، وترى هذا الطرف أو ذاك يعبر عن رغبته بشكل صريح أو مبطن في تأجيل موعد اللقاء بحجة تعميق المشاورات أو بتعلات أخرى. وتضخمت هذه الظاهرة خلال السنوات الأخيرة، بسبب تردي الأوضاع الإقليمية، وتزايد الهجوم الإسرائيلي الشرس والتدخل الأميركي المباشر في شئون المنطقة بشكل غير مسبوق.

أسدل الستار قبل البداية

قمة تونس التي لم تلتئم لا تخرج عن هذا الإطار العام، وان كانت طريقة إجهاضها اتخذت طابعا دراماتيكيا غير مسبوق. والذي أكسبها أهمية عن كثير من القمم التي سبقتها خلال العشرية المنقضية، هو جدول الأعمال الذي كان يفترض أن يناقشه القادة، والأوضاع الإقليمية البالغة الخطورة والسوء، وخصوصا بعد اغتيال الشيخ أحمد ياسين. لم تكن الجماهير أو النخب تتوقع كثيرا من هذا الاجتماع، إذ كان المطلوب تقديم دعم معنوي أدنى للفلسطينيين، والاتفاق على اتخاذ خطوات بسيطة تؤشر على وجود إدراك بضرورة إصلاح الأوضاع وأساليب العمل والحكم.

كان واضحا منذ أن انطلقت المشاورات عن تاريخ انعقاد القمة وجدول أعمالها انها ستواجه صعوبات، وان المفاوضات بشأن جدول الأعمال لن تكون سهلة. لقد وجد الحكام العرب أنفسهم مطالبين بالحسم في ملفات شائكة وخطيرة، أقلها الملف العراقي، وأكثرها تفجرا الإصلاح السياسي وإعادة هيكلة جامعة الدول العربية. وعلى رغم محاولة تقسيم الدواء المر إلى جرعات متعددة بين قمتي تونس والجزائر، فإن الجسم العليل بدأ غير متقبل للعلاج. كما أن القائم بدور «الطبيب» بدأ متعجلا أكثر من اللزوم. وفجأة، وعلى رغم أن الجهود متواصلة من أجل تمرير بعض الكبسولات، اتخذ القرار بإسدال الستار قبل البدء في استعراض المشهد الرئيسي من المسرحية.

قرار قبل هبوب العاصفة

لماذا قررت القيادة التونسية تأجيل القمة وإطفاء الأضواء؟ هذا السؤال انقسم بشأنه الناس، ولم يجدوا له إجابة مشتركة. فهذه القيادة بررت موقفها برفض «بعض الدول» التفاعل وقبول مقترحات تقدمت بها لإدخال تعديلات على مشروع وثيقة «العهد». وهي تعديلات تخص التنصيص صراحة على الإعلان عن التزام القادة بالانخراط في مسار الإصلاح السياسي.

أما الذين رفضوا الرواية التونسية، عبروا عن استغرابهم ودهشتهم لبعض الحيثيات، وانطلقوا في سلسة من الفرضيات بلغت حد الوصول إلى واشنطن. حتى الشارع السياسي التونسي انقسم على نفسه. هناك من الجمعيات وبعض الأحزاب من أيد وتحمس، وأجمعت الصحف المحلية على القول إن القرار يتصف بـ «الشجاعة والجرأة وبُعد نظر». وفي المقابل اعترضت بعض أطراف المعارضة على القرار. وتراوحت مواقف هذه الأطراف بين القول إن الأسباب التي أعلنت عنها الخارجية التونسية لتأجيل القمة «غير مقنعة»، وهو ما عبر عنه مثلا «الحزب الديمقراطي التقدمي» (معترف به) الذي يتزعمه المحامي (نجيب الشابي). وبين موقف آخر أكثر تشددا وتصعيدا عبر عنه حزب «المؤتمر من أجل الجمهورية» الذي لم تعترف به السلطات، والذي يتولى قيادته منصف المرزوقي، إذ ذهب إلى حد وصف ما جرى بكونه «فضيحة».

هذه بعض تداعيات القرار

بقطع النظر عن الخلفيات التي أدت إلى هذا القرار، يجب التوقف عند التداعيات والتفاعلات التي ترتبت عنه. ويمكن في هذا السياق إثارة الجوانب الآتية:

- فجر القرار التونسي موضوع الإصلاحات، التي أصبحت منذ أن كشفت الإدارة الأميركية عن ملامح أولوية لمشروعها المعروف بـ «الشرق الأوسط الكبير»، مثار اهتمام وجدل جميع الأطراف والأوساط. وإذا كان البعض اعتبر المقترحات التونسية محاولة لإعادة صوغ المطالب الأميركية بهدف وضع الأطراف العربية أمام اختيارين أحلاهما مر: قبول الوصفة أو تفجير القمة، فإن مثل هذه الفرضية لا تقلل من أهمية التحدي الذي تواجهه الأنظمة العربية في هذه المرحلة بالذات. وسواء أكان هناك فعلا اعتراض على المقترحات التونسية أم لا، فإنه من المؤكد أن قضية الإصلاح السياسي والاجتماعي والتعليمي ستبقى تشكل تحديا رئيسا لا يمكن القفز عليه أو تجاهله، سواء انعقدت القمة أم لا. فمنظمات حقوق الإنسان عبرت عن قلقها عندما اتخذ القرار بتأجيل النظر مرة أخرى في «الميثاق العربي لحقوق الإنسان» الذي تمت مراجعة الكثير من بنوده السابقة، والتي أثارث مخاوف واحتجاجات المنظمات الحقوقية .

- أحدث قرار التأجيل انقلابا في اهتمامات الرأي العام العربي. فبعد أن اتجهت الأنظار نحو ترقب ما سيترتب عن عملية اغتيال شيخ المجاهدين «أحمد ياسين»، وبالتالي احتمال ان تحتل القضية الفلسطينية البند الأول من جدول أعمال اجتماع الحكام العرب، فإذا بالمناخ العام ينقلب كليا، إذ سيطر الإحساس بالإحباط على الجميع، وأصبح الاهتمام مركزا على الجهود الماراثونية الجديدة من أجل نقل القمة إلى مكان وزمان مغايرين.

- فتح القرار المجال أمام منافسة تظهر من حين لآخر منذ عهد الرئيسين الراحلين بورقيبة وعبدالناصر بين مصر وتونس. لكن ما يخشى حاليا أن تتسع رقعة ردود الفعل الإعلامية والسياسية على نطاق أكثر اتساعا، وهو ما من شأنه أن يخلق متاعب للدبلوماسية التونسية، ويحدث انقسامات عربية إضافية. وإذا كانت بعض وسائل الإعلام التونسية انتقدت دولا لم تسمها ترفض الإصلاح، وتعادي القيم الكونية، فإن صحفا عربية كثيرة طالبت في المقابل بضرورة إعادة النظر في طبيعة العلاقة التي يجب أن تحكم مستقبلا بين ما يسمى بالدول الكبيرة والدول الصغيرة، التي وصفها كاتب بصحيفة «الرياض» بـ «الأحياء الصغيرة».

إن مثل هذا الانزلاق في أساليب تناول الخلافات القائمة لن يؤدي إلا إلى مزيد من استنزاف الطاقات وإدخال الأمة في متاهة لا خروج منها. فالمشكلة لا تكمن في صغر الدولة أو حجمها، وإنما في مستوى أداء كل منها، وفي حجم الخدمات التي تؤديها لمواطنيها وتشريكهم في صنع القرار واحترام كرامتهم وحقوقهم الأساسية.

لاشك في أن القمة ستنعقد قريبا في مصر، وستشهد العاصفة الحالية سكونا. لكن الأهم أن تفتك قوى المجتمع المدني في العالم العربي المبادرة، وأن تستغل هذا الظرف الإقليمي والدولي المواتي لتفرض نفسها كرقم لا يقبل التهميش مستقبلا. إن حبل السياسيين قصير، وإنه ما لم توجد قوى فعلية سياسية واجتماعية وثقافية فإن التغيير لن يقع حتى لو أصدر الحكام العرب بيانا تاريخيا يمجد الديمقراطية ويهلل بكل قيم الحداثة والتعددية

العدد 574 - الخميس 01 أبريل 2004م الموافق 10 صفر 1425هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً