العدد 2755 - الإثنين 22 مارس 2010م الموافق 06 ربيع الثاني 1431هـ

خروج الكراهيات من عزلتها التاريخية

نادر كاظم comments [at] alwasatnews.com

.

الكراهية خطاب مزعج ويتطلب جرأة للمجاهرة به. وقد سمحت العزلة التاريخية لهذه الجرأة بالتعبير عن نفسها داخل الفضاءات الخصوصية للجماعات. وعلى هذا، يمكن القول بأن الكراهيات انتعشت في الماضي لا بفضل الأجواء السريّة التي توفّرها العزلة عادة لأصحابها فحسب، بل لأن العزلة عادة ما تخلق تلك المسافة الفاصلة بين الأطراف التي تتبادل الكراهيات فيما بينها. وقد كانت هذه عزلة متعددة المستويات، إلا أنها كانت عزلة مكانية ولغوية بالدرجة الأولى. فالمسافات التي تفصل بين مواقع الكراهيات المتبادلة كانت شاسعة، واللغات لم تكن مفهومة من قبل معظم الفاعلين من منتجي الكراهيات ومستهلكيها، والترجمة لم تكن متاحة أمام هؤلاء كما هي اليوم.

لم تكن هذه العزلة وانعدام (أو ضعف) وسائل الربط والاتصال والتواصل عائقا أمام انتقال البشر فحسب، بل إنها كانت عائقا أمام انتقال كراهياتهم وأخبار هذه الكراهيات وحوادثها. في هذا النوع من الظروف، كان يمكن لعالم مسيحي في روما أن يجاهر بكراهيته ضد المسلمين ودينهم ونبيهم دون صعوبة تُذكر، وربما دون تبعات وانعكاسات تعقب هذا التصريح أو تنتج عنه. كما كان يمكن لعالم مسلم يعيش في بغداد أن يجاهر بكراهيته ضد المسيحيين ودينهم في روما. وعلى الشاكلة ذاتها، كان يمكن لعالم شيعي يعيش في أصفهان، وعالم سني يعيش في الأستانة (أسطنبول) أن يتبادلا فيما بينهما خطابات الكراهية. كل هذا كان ممكنا دون تبعات ودون عواقب وانعكاسات كارثية تترتب على ذلك؛ والسبب أن وسائل الاتصال التي سوف تتولى مهمة نقل هذه الكراهيات كانت بدائية، كما أن انتقال الكراهيات وأخبارها كان مرهونا بانتقال البشر. ولكي تصل الكراهية وحوداثها وأخبارها إلى روما أو بغداد فإن عليها أن تسير في رَكْب سيقضي الشهور وربما السنوات، وسيمرّ بوديان وجبال وبحار ومنعرجات خطرة قبل أن يتمكّن من قطع المسافة بين بغداد وروما. كان البشر هم مصدر الكراهية، وهم، في الوقت ذاته، نواقلها وحواملها الأساسيين، وكانت الكراهية وخطاباتها لصيقة بالبشر وتنتقل معهم وعبرهم في رحلتهم الشاقة والطويلة، إلا أنها تصل، إن كُتِب لها الوصول في نهاية المطاف، مرهقة ومتعبة وهزيلة تماما كحال البشر ودوابّهم في نهاية الرحلة. لكي تنتقل الكراهية من مكان إلى آخر كان عليها أن تجد بشرا يحملونها في صدورهم أو ذاكرتهم أو في بطون كتبهم ورسائلهم، كما كان يلزمها أن تقطع المسافات الفاصلة بين مصدر الكراهية وهدفها ونقطة وصولها، وكلما بعدت المسافات تأخّر وصول الكراهية، ومن ثَمَّ تقادم زمنها. الأمر الذي كان يحدّ من انعكاساتها وتبعاتها.

وهذا ينطبق على الكراهيات المتبادلة بين القارات، وكذلك على الكراهيات المتبادلة فيما بين البلدان والمدن والقرى سواء بسواء، فحين «كانت حادثة خطيرة تحصل في قرية ما، كان لا بد في الغالب من مرور أسابيع قبل أن تسمع بها بقية مناطق البلاد، وكان هذا يحدّ من انعكاساتها. أما اليوم فالعكس هو الصحيح، إذ إن الإدلاء بتصريح أرعن عند الظهر قد يكون ذريعة لحصول مذبحة مساء اليوم ذاته وعلى بعد عشرة آلاف كيلومتر من هناك» (اختلال العالم، ص81).

كان لارتباط الكراهيات بالبشر نتائج إيجابية، فقد حدّ هذا الارتباط من حركة الكراهيات، وجعلها بطيئة وثقيلة تماما كما كانت حركة البشر آنذاك. ولهذا فحينما تصبح حركة انتقال البشر ميسرة وسريعة، فإن علينا أن نتوقع إيقاعا مماثلا لحركة انتقال الكراهيات. إلا أن الذي حصل فاق هذا التوقع الذي أثبتت الأيام أنه لم يكن سوى توقع ساذج وبدائي، فبدل أن تتسارع حركة الكراهيات تبعا لتسارع حركة البشر، إذا بالكراهيات تترك البشر، حواملها التقليدية والبطيئة، وراء ظهورها وتنفصل عنهم وتستقلّ بذاتها. ومنذ أن اخترع الرسام الأميركي صمويل موريس تلغرافه في العام 1844م، انطلقت البدايات الأولى لمسار طويل ومذهل من استقلال الرسائل، بما فيها رسائل الكراهية، عن أصحابها ووسائل نقلها التقليدية، بحيث أخذت هذه الرسائل في التحرر من البشر، وراحت تستقلّ بذاتها، وتترك البشر وراءها رهنَ حركتهم التي أخذت في التسارع قليلا، إلا أنها لن تصبح فورية، بل لا أحد يعرف متى ستصبح فائقة السرعة كما هي حركة الكراهية ورسائلها. لقد أسهم التطور الحاصل في تكنولوجيا الاتصال السريع والفوري في فصل الكراهيات واستقلالها عن البشر، فلم تعد الكراهيات، بعد اليوم، رهنا بانتقال البشر من مكان إلى آخر، بل صار بإمكانها الانتقال، وبسرعة فائقة، دون حاجة لحركة البشر. وبدل البشر ستتولى تكنولوجيا الاتصال السريع والفوري القيام بهذه المهمة، وخاصة أن الأرضية أصبحت مهيأة لذلك؛ ليس لأن تلغراف موريس العجوز سيتولى هذه المهمة، بل لأن هذه المهمة تعتمد، اليوم، على 1,3 بليون خط هاتف ثابت حول العالم، و2,7 بلايين هاتف نقال في الخدمة، و1,5 بليون جهاز تلفزيون مستخدَم، و1,7 بليون مستخدِم للإنترنت. وكل هذا في تزايد مطرد بحيث صرنا نغرق في محيط هائل من الاتصالات بعد أن كانت الاتصالات غائبة أو شحيحة أو بطيئة الحركة.

كانت العزلة السلبية نتيجة طبيعية لانعدام أو لضعف الاتصالات، إلا أن الإفراط في الاتصال بحيث تنعدم المسافات المكانية والزمانية لن يكون بلا عيوب خطيرة. ليس هذا لأن قدرا معقولا من المسافة قد يكون مطلوبا، في بعض الأحيان، من أجل أن تبقى علاقات البشر الاجتماعية في حياتهم المشتركة على درجة مقبولة من التوازن القائم، أساسا، على هذه المسافة كما هو الحال في الاحترام والتقدير والإعجاب والتبجيل والإجلال والتعظيم، ليس هذا فحسب، بل لأن الكراهيات، حين استقلت عن حواملها التقليدية الثقيلة وبطيئة الحركة بفضل تكنولوجيا الاتصال الفوري والسريع، أصبحت مفعولاتها وانعكاساتها سريعة وفورية كسرعة انتقالها وانتشارها. وقد لاحظ الباحثون المهتمون بدراسة تأثير الإعلام أن أزمة مثل «أزمة الرسوم الدنماركية المسيئة للرسول» ما كان لها أن تولّد كل تلك الانعكاسات الخطيرة لو أنها حدثت قبل عشرين عاما من تاريخ نشرها في الصحف الدنماركية؛ إذ كيف يمكن أن نفهم أن «كاريكاتيرا مطبوعا في صحيفة محلية غير معروفة في بلد إسكندنافي أدّى إلى احتجاجات شعبية وحكومية بل وعمليات تخريب خطيرة وزهق أرواح على بعد آلاف الأميال»؟ لم يكن هذا مفهوما قبل عشرين عاما، إلا أنه الآن أصبح ظاهرة عامة لا يمكن تجاوزها.

لقد وضعت التطورات الأخيرة في عالم الإعلام والاتصال الكراهيات على المحك، وأصبحت انعكاسات أية كراهية قابلة للتوسّع على مستوى عالمي. ويكفي، اليوم، أن تصرّح شخصية عامة في روما بخطاب كراهية ضد المسلمين حتى تهتزّ الأرض من تحت قدميها فور إذاعة الخبر في الفضائيات وانتقاله، بسرعة فائقة، بين الهواتف النقالة والثابتة وعبر الإيميلات والمواقع والمنتديات والشبكات الاجتماعية الإلكترونية المنتشرة على الإنترنت، وما هي إلا ساعات حتى تنتفض المجاميع وتحتشد لتحاصر سفارات إيطاليا وقنصلياتها من إندونيسيا إلى المغرب، وستأتي بيانات الشجب والإدانة وشتم إيطاليا من كل صوب وحدب. ولن يبقى أمام هذه الشخصية سوى أن تُقدّم اعتذارها علنا وتعتبر ما جرى مجرد سوء فهم غير مقصود لخطابها، أو تستقيل وتنسحب من المشهد العام كما حصل مع الوزير الإيطالي روبيرتو كالديرولي الذي أثار غضب المسلمين بعد تصريحات مسيئة للمسلمين، وبعد أن قام بارتداء قمصان تحمل تلك الرسوم الكاريكاتيرية الدنماركية التي تسخر من النبي محمد (ص) أثناء ظهوره في برنامج تلفزيوني إيطالي. بعد هذه التصرفات لم يبق أمام هذا الوزير سوى أن يتحمل العواقب ويتلقى الرد الذي لم يكن ليتأخّر: تحركات في أكثر من مكان، القنصلية الإيطالية في مدينة بنغازي الليبية تتعرّض للهجوم، واحتجاجات حاشدة في ليبيا يذهب ضحيتها حوالي عشرة أشخاص ويُجرح فيها 50 آخرين، والآتي قد يكون أعظم. بعد هذا التطور الخطير والسريع للأحداث اضطر سيلفيو بيرلسكوني، رئيس الوزراء الإيطالي، إلى التدخّل الفوري لتهدئة النفوس، فقد عاد، بصورة عاجلة، إلى روما بعد أن قطع اجتماعه في مدينة بيروجيا إثر تلقيه خبر ما جرى في ليبيا. وعندئذٍ لم يبق أمام بيرلسكوني وحكومته من أمل في «تهدئة نفوس المسلمين» سوى مطالبة كالديرولي بالاستقالة، وكان بيرلسكوني نفسه قد انتقد تصريحات وزيره المستفزّة، كما أن وزير خارجيته جان فرانكو فيني طالب كالديرولي بالاستقالة الفورية، وتقديم اعتذار رسمي للعالم الإسلامي على تصريحاته وتصرفاته التي أجّجت مشاعر المسلمين واستفزتهم حول العالم. لقد وضع كالديرولي إيطاليا، كما قال وزير الخارجية الإيطالي، في «موقف صعب»، ولا سبيل أمامها للخروج منه إلا باعتذار الوزير واستقالته. وبالفعل استقال الوزير واعتذر، وكان هذا آخر ما صدر من تصريحاته: «إذا كان لا بدّ لي من الاستقالة والاعتذار وإذلال نفسي من أجل تحقيق حوار بين الغرب والعالم الإسلامي، وحتى تُوضع الأسلحة والقنابل جانبا، فسأفعل». هذا درس بالغ الأهمية، فحتى «تُوضع الأسلحة والقنابل جانبا»، فإن على أصحابها أن يغادروا المشهد أولا، وعلى الكراهية أن تخرس ثانيا.

إقرأ أيضا لـ "نادر كاظم"

العدد 2755 - الإثنين 22 مارس 2010م الموافق 06 ربيع الثاني 1431هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان
    • زائر 3 | 12:26 م

      وهــــــــم ... الكراهــــــيات

      هكذا تفعل الكراهيات – حمي الوطيس – تطأطأ للذل والإستكانه دول ، فيتوزّع آثارها في جميع الجوانب والإتجاهات ، هذا وعند همود النخوة يتراكم رصيد الكراهيات لتضرم لهيب التخلّف واضطراب المنطق ؛ لتغرس روح الهدم ، وماوازاى ذلك ، وسيراها ويراها الراؤون ، فإن غاية الكراهيات ( المُتعكّرة ) تستبدي مُنحدرة في الهاوية وهي تتوهم الإرتقاء . كل الشكر للكاتب وللوسط ... نهوض

    • زائر 2 | 2:09 ص

      مقال رصين ومفيد

      نشكرك دكتورنا الفاضل على المقال الرصين والمفيد. ونحن نتابع مقالاتك باستمرار

    • زائر 1 | 12:44 ص

      الى متى

      لقد خرجت الكراهية من عزلتها وتجاوزت حدودها يوم أن تم تغير التركيبة السكانية لهذا البلد العظيم الضارب في التاريخ بمئات الآلاف من الأفاقين والمرتزقة الذين جاءوا من بيئات متخلفة يملئهم الحقد والكراهية والتطرف والأنانية واقتناص الفرص والمصلحة ويوم أن تم مصادرة حقوق المواطنين وتهجيرهم وإحلال الأجانب مكانهم في سلك التدريس والطب والقطاع المصرفي والخدمات والوزارات

اقرأ ايضاً