فرضت علينا العولمة مفاهيمها وثقافتها القائمة في ظاهر الأمر على الحوار وفهم الآخر وتقبّله والدّيمقراطيّة والحريّة، وهي كلّها مفاهيم على عراقتها قد أعيد إنتاجها لتجعل الدّراسات المهتمّة بالحجاج تمجّد المنوال الدّيمقراطيّ والمدنيّ فضاء حيويّا لثقافة الإقناع والبرهان بديلا عن ثقافة الإلزام والإكراه» هذا ما ذهب إليه الباحث سامي الرحموني في مداخلته التي قدمها في ندوة درس الحجاج في الثقافة العربية والتي أقيمت مركز كانو الثقافي بمشاركة مجموعة من الباحثين.
في البداية تحدث الرحموني عن أسباب تزايد الاهتمام بالحجاج فأشار إلى أنّ تزايد الاهتمام بالحجاج دراسة وتنظيرا في أيّامنا هذه يرجع أربعة أسباب موضوعية رئيسة، يتمثّل أوّلها في أهميّة الظّاهرة الاتّصاليّة في عصرنا الحاضر الّتي غيّرت من وظائف الخطاب؛ لتجعلها في غالب الأحيان موجّهة وجهة حجاجيّة لا غاية لمنتج الخطاب فيها إلاّ إقناع الآخر المتلقّي وحمله على تبنّي سلوك ما نتبيّنه في العادة منسجما مع أطروحات صاحب الخطاب وخلفيّته الإيديولوجيّة. أمّا ثاني هذه الأسباب فيكمن في تباين الدّراسات المهتمّة بالحجاج أصوليّا ففي حين ردّ البعض الظّاهرة الحجاجيّة إلى تقاليد الخطابة الأرسطيّة عمل البعض الآخر على تخليص الحجاج من براثن البلاغة ليجعل دراسته منضويّة ضمن حقل الدّراسات الأسلوبيّة، وسعى آخرون إلى ردّ دراسة الحجاج إلى علوم تحليل الخطاب الّتي طلبت في الظّاهرة الحجاجيّة استنباط الآليّات النّظميّة النّحويّة الّتي تبنيها؛ لتجعلها منوالا خطابيّا مخصوصا. أمّا ثالث الأسباب فماثل في تطوّر الدّراسات اللّسانيّة الّتي باتت تطلب في دراسة الظّاهرة اللّغويّة تبيّن الأنساق الذهن معرفيّة الّتي تجعل إنتاج الخطاب إنتاجا للدّلالة وبناء للمعنى، وأثرت المقاربة السوسيريّة للّغة بعناصر لا تقلّ أهميّة عن ثنائيّات الدّال والمدلول واللّغة والكلام والتّاريخي والآني والجدوليّ الاستبداليّ والنّظميّ التّوزيعيّ الّتي أقامت نسق اللّسانيّات معرفيّا وأصوليّا. وأمّا رابع الأسباب، فيكمن في العولمة سياقا حضاريّا وتاريخيّا وإيديولوجيّا ومفهوميّا يسيّج اهتمامنا بالحجاج؛ ذلك أنّ العولمة قد فرضت علينا مفاهيمها وثقافتها القائمة في ظاهر الأمر على الحوار وفهم الآخر وتقبّله والدّيمقراطيّة والحريّة، وهي كلّها مفاهيم على عراقتها قد أعيد إنتاجها لتجعل الدّراسات المهتمّة بالحجاج تمجّد المنوال الدّيمقراطيّ والمدنيّ فضاء حيويّا لثقافة الإقناع والبرهان بديلا عن ثقافة الإلزام والإكراه.
وحول تأصيل مبحث الحجاج على المستوى اللغوي أشار الرحموني إلى إنّنا إذا ما رمنا للحجاج حدّا يُسعفنا أصل الكلمة القاموسيّ في اللّغة العربيّة -كما أثبته ابن منظور في لسانه - بوضع دلاليّ طريف تنعقد عليه معاني الكلمة وقد تعالق فيها القاموسيّ مع الاصطلاحيّ تعالقا جعل المادّة الفعليّة المؤسّسة للفعل الحجاجيّ ناطقة في مستوى صيغتها الصّرفيّة بمعنى دلالة تقتضي على الأقلّ وجود طرفين يكون بهما تمام الفعل إنجازا نُدركه إذا ما انعطفنا على البنية النّحوية مساءلة غلبة بالحجج وظفرا لا يكتملان إلاّ بوجود أطراف ثلاثة: فاعل، هو في هذه الحالة منتج الخطاب بما أنّ الفعل ينعقد على التلفّظ نواة دلاليّة أولى تتأسّس من خلالها مشروعيّة حضور الفعل حركة منطلقهـا إنتاج للحجج أو الأقوال، وفعل يقوم على معاني الغلبة والظّفر والنّزاع الّـي نتبيّنها وظيفيّة في جعل الفعل الحجاجيّ قائما على طورين متعاقبين: طور أوّل مرتبط بلحظة الإنجاز صراعا ونزاعا بين طرفين عُدّة النّزال فيه أقوال وحجج وبراهين، وطور ثان ينعقد على نتائج الفعل أو ما يروم الفاعل تحقيقه من مقاصد روحها ظفر وغلبــــــة، وعمادها إنجاز قوليّ محكوم بقصد جوهره إقناع أو حمل على التّصديق يؤثّر فـــــي نســق الخطاب ونظامه فيدفعه نحو تركيبة مخصوصة كلّ ما فيها مؤشّرات دالّة على مواقف المحاجّ حاضنةٌ لحججه دافعةٌ اللّغة في اتّجاه الفعل في وجدان المتقبّل وعقله وسلوكه، ومفعول يتلقّى الخطاب ليكون طرفا لازما لاكتمال حصول الفعل؛ إذ لا حجاج دون وجود طرفين يتقارعان حجّة بحجّةٍ سواء أكان ذلك في إطار بلاغة الحضور (مقام التّواصل الشّفويّ) أم في إطار بلاغة الغياب (مقامات التّواصل الكتابيّ)، وطرفا يقع عليه الفعل ليحصل، وليس حصول الفعل في هذا الإطار إلاّ غلبة وظَفَرا.
إنّ هذه الأطراف المتفاعلة في مابينها تجعلنا نستنبط من دلالة المادّة القاموسيّة مثالا تواصليّا يختزل في ذاته العناصر المقاميّة الحافة بكلّ ممارسة للحجاج؛ ليكشف منزلة الحجاج بما هو جزء لا يتجزّأ من التّواصـل اللّغويّ وما يقتضيه من وظائف نجد لها حصرا في مثال جاكبسون التّواصلي. غير أنّ الطّريف في الخطاب الحجاجيّ قدرته على الجمع بين سائر وظائف جاكبسون ضمانا لمقصد المحاجّ بما هو حمل على التّصديق وسعى إلى الإقناع حتّى أنّ الوظيفة الشّعريّة لا تزوّق الكلام إلاّ لجعله آلة من آليّات أسر المخاطب واستمالته .
إنّ هذا التّصوّر يجعلنا نميل بالحجاج نحو وجهة خطابيّة إذ أدركنا فيه تعالقا مع المقام وسعيا إلى تجاوز التّأثير النّظريّ العقليّ في سبيل ضمان « إرضاء الجمهور واستمالته ولو كان ذلك بمغالطته و خداعه وإيهامه بصحّة الواقع على نحو تبدو معه الخطابة...من قبيل التّخييل» غير أنّ هذا التّصوّر لا ينبغي أن يحجب عنّا ارتباط النّظرة إلى الحجاج بتطوّرات المباحث اللّسانيّة وهي تطوّرات دفعت المصطلح إلى ضرب من الاستقرار الظّاهر ندركه في سائر الأبحاث التي طلبت محاصرة المفهوم رُغْمَ التّباين الأصوليّ القائم بينها.
وأضاف الرحموني أنّ استقراء تاريخيّة المباحث المهتمّة بالحجاج يجعلنا نميز فيها عهدين: عهد أوّل يمتدّ من حيث النّشأة من كوراكس إلى أرسطو، ومن حيث التّأثير إلى النصف الأوّل من القرن العشرين، وعهد ثان نشأ مع برلمان وتيتيكاه وتولمان في الخمسينيات من القرن الماضي ليمتدّ إلى وقتنا الحاضر.
أمّا العهد الأوّل فقد تطوّرت فيه المباحث الحجاجيّة لتنحصر في اتّجاهات أربعة: اتّجاه أوّل مثله الإغريقي كوراكس الّذي يُعدّ أوّل من نظّر للحجاج وسعى إلى استنباط صياغة منهجيّة تنتظم عناصر الخطاب الحجاجيّ في رؤية تقنينيّة تقعيديّة تقودنا قراءة مكوّناتها إلى الوعي بارتباط نشأة الحجاج بظهور المدينة الإغريقيّة وبعمق التّلازم بين الدّيمقراطيّة قيمة ومؤسّسة والممارسة الحجاجيّة وبأهميّة المؤسّسة القضائيّة في توجيه نشأة الحجاج . واتّجاه ثان تجليه خطابة السّوفسوطائيّين الذين كان لهم الفضل في تحويل المحاورات الفكريّة التي طبعت حياة أثينا في القرنين الخامس والرّابع قبل ميلاد المسيح إلى رهانات معرفيّة قادتهم إلى الاستئثار بفنّ الخطابة لإدماجه في مدوّنة معرفيّة أكبر قطب الرحى فيها كان ماثلا في الإنسان. وكان لهم قصب السّبق في تحويل العبارة إلى مركز اهتمام تنشأ من خلاله القيم و ينشأ الدّفاع عنها أو تمريرها وهو ما عدّه جلّ الدّارسين نقطة تحوّل في مسار المعرفة الإنسانيّة إذ نشأت من رحمه الفلسفة بما هي خطاب، و نشأ من صلبه فنّ الخطابة عِلْما قائما بذاته طبع الموقف من الحجاج إلى يومنا الحاضر. واتّجاه ثالث بنته «خطابة سقراط « الّذي عمّم الخطابة فأخرجها من دائرة المؤسّسة القضائيّة ليولّد من رحم ذلك عناصر تأسيسيّة طبعت كلّ المهتمّين بالحجاج فإليه يُعزى الفضل في إرساء مقولات التّأليف والتّحليل والجدل والجمهور. واتّجاه رابع وأخير – ولعلّه الأبرز والأشدّ وقعا في النّظريّات الحجاجيّة- مثّله أرسطو الّذي قدّم تصوّرات جديدة ناقضت في السّوفسوطائيّين تمشّيّاتهم المصطنعة وفي أفلاطون – رغم أنّه أستاذه – نزعته النّخبويّة الصّفويّة التي جعلت تصوّره للجمهوريّة الفاضلة عداء مفضوحا للمثال الدّيمقراطي الذي يُعتبر عند أرسطو فضاء الحجاج الحيويّ . لقد نجح أرسطو في تحييد الخطابة عن الأخلاق، وفي جعلها آليّة للحجاج عن المحتمل وليس آليّة حجاج موضوعها الحقيقة، وفي التمييز بين أصناف الجمهور المتلقّي تمييزا بيّن من خلاله إيمانه بأثر المتلقّي في مشروعيّة كلّ خطاب إذ هو عنده غاية كلّ خطاب و منتهاه؛ ليكشف بذلك تعدّد أنماط الخطاب وتشكّلها بحسب أنماط الجمهور فالخطاب المنافري أو التّثبيتي يختلف موضوعا وتقنيّات وجمهورا عن الخطاب القضائيّ أو المشاجريّ وعن الخطاب المشاوريّ إذ لكلّ منهما تقنيّاته وموضوعاته ومقامات إنتاجه. وهذا ما جعل أرسطو يردّ الحجج إلى ثلاثة أبعاد فثمّة حجج تركّز في طبيعة المخاطب وحجج تركّز في مضمون الخطاب وحجج تركّز في مشاعر السّامعين، ردّا كان من آثاره التّمييز بين ضربين من الخطاب الحجاجيّ: الحجاج الخطابي الموجّه إلى جمهور ذي أوضاع خاصّة في مقامات خاصّـــــة، والحجاج الجدليّ « و مداره على مناقشة الآراء مناقشة نظريّة محضة لغاية التّأثير العقليّ المجرّد.
أمّا العهد الثّاني فقد شهد فيه الحجاج انبعاثه من خلال مؤلّفين صدرا في السّنة نفسها : مؤلّف حاييم برلمان و لوسي أولبراشت تيتيكاه « مصنّف في الحجاج -الخطابة الجديدة، ومؤلّف ستيفان تولمان « استعمالات الحجاج «اللّذين وجّها الدّراسات الحجاجيّة إلى تصوّر لسانيّ محض تزعّمه بصفة خاصّة ديكرو وأوسكمبر في كتابهما المشترك» الحجاج في اللّغة». والطّريف في هذه التّصوّرات الجديدة نزوع إلى جعل الحجاج مستقلاّ في الجمل و الخطابة بريئا من تهمة الدّعاية والمغالطة مرتبطا بمفاهيم جديدة انتظمتها اتجاهات ردّت في الغالب إلى أعلامها المنشئين.
وحول نشأة الحجاج عند برلمان وتيتيكاه أشار الرحموني إلى أن الحجاج - وقد نشأ في إطار حقوقيّ قانونيّ، سليل للخطابة والجدل مارق عنهما في الآن نفسه ودرس لتقنيّات الخطاب الّتي من شأنها أن تؤدّي بالأذهان إلى التّسليم بما يعرض عليها من أطروحات أو أن تزيد في درجة ذلك التّسليم، وهو إلى ذلك محكوم بغاية عمادُها»جعل العقُولٍ تذعن لما يُطْرَحُ عليها أو يزيد في درجة ذلك الإذعان» إذعانا يجعل تدبّر أمر الحجّة صناعة أمرا مهما تنعقد عليه صفة الخطاب إذا كان من الحجاج أم لا، كما يجعل استقراء الحجّة مرتبطا عضويّا بموقعها من السّياق إذ أنّ في عزلها عنه خطرا يتهدّد كيان الحجّة نفسه، وهو ما يُعدّ وظيفيّا في تنزيل الحجاج في إطار نظريّة التّواصل.
وهو عند تولمان المتأثّر بالوضعيّة الأنجلوسكسونيّة قائم على رسوم حجاجيّة تمتح من أقيسة سقراط؛ لتسقط في فخّ الصّوريّة سقوطا جعلها تُغيّب العناصر المقاميّة وتجعل صورة المتقبّل ضامرة، وهو ما لا يستقيم حجاجا إذ من شروط الحجاج انخراطه في منظومة التّواصل و إيلاء المخاطب مكانة مهمّة نبّهنا إليها تولمـان و تيتيكاه ومن قبل أرسطو في خطابته .
وهو عند أوسكمبر وديكرو كامن في اللّغة متأتّ من بنية الأقوال اللّغويّة لا من مضمونها الإخباريّ. فلا دراسة للحجاج خارج نطاق دراسة اللّغة وهو ما يجعل العمل الحجاجيّ عملا كلاميّا يتنزّل في إطار براغماتيّ دلاليّ يجعل اللّغة تحمل في ذاتها بعدا حجاجيّا بناء علــى طرائق النّظم فيهـا باعتبارها – أيْ طرائق النّظم – فاعلة في التّوجيه الّذي يعدّ وظيفة الحجاج الرّئيسيّة.
لقد مثّلت هذه الاتجاهات حجر الأساس لكلّ من طلب دراسة الحجاج في العصر الحديث وهي وإن اختلفت مشاربها النّظريّة ومنطلقاتها المنهجيّة أو الأصوليّة تكشف لنا بوضوح قيمة الموقف من الحجاج باعتباره عنوان بلاغتنا الجديدة، وتجسيدا صريحا لفلسفة الرجّة حسب بول ريكور التي نبّهتنا إلى أنّ كلّ خطاب آثم وأن لا وجود لخطاب بريء، وهذا ما يجعل الحجاج نمطا للخطاب ونوعا يتعالى على مقولات الجنس؛ لأنّه قادر على ابتلاع سائر الأجناس.
العدد 2764 - الأربعاء 31 مارس 2010م الموافق 15 ربيع الثاني 1431هـ