العدد 608 - الأربعاء 05 مايو 2004م الموافق 15 ربيع الاول 1425هـ

خصوصية الفن العربي في العالم المعاصر

قبل أن أتحدث عن خصوصية الفن العربي لا بد أن نتجول قليلا في عالم الفن المعاصر في زمن العولمة ومن خلال زياراتنا لبعض معارض الفن التشكيلي العالمية كمعرض دوكومنتا للفن التشكيلي الذي يقام بمدينة كاسل بألمانيا كل خمسة أعوام أو معرض بينالي فينيسيا (معرض السنتين) الذي زرته في الصيف الماضي أو معارض الفنون التشكيلية السنوية التي تقام في أدنبرة باسكتلندا في المهرجان الثقافي السنوي. ومعرض (المودرن تيت) الدائم والمتغير في لندن بالإضافة إلى بعض المعارض التشكيلية في المدن الرئيسية في أميركا.

إن ما يدور في إطار تلك المعارض هو نقاشات كثيرة أكثر تشويقا وإثارة للجدل بشأن قيمة ووظيفة الفن في وقتنا الحالي وذلك عبر وسائل مختلفة بعيدة كل البعد عن الوسائل التي استخدمت في تنفيذ الفن التقليدي.

وأهم الموضوعات التي تناقشها تلك المعارض هي: العولمة والعنصرية والهوية والحقوق المدنية التشكيك في الواقع وتجسيد التصورات النظرية واحالتها إلى أعمال فنية.

إن تلك المعارض التشكيلية تحاول بجدية تقديم فنانين من شتى أنحاء العالم ومناقشة أكثر المشكلات الحاحا في الثقافة المعاصرة، كالعولمة وإثبات أثرها في الفنون والتغيرات التي تطرأ على الفن تحت تأثيرها.

من الملاحظ في تلك المعارض التشكيلية المعاصرة أنها تمثل تطور الفن التشكيلي من خلال تغير الوسائل والاشكال في التعبير ولم تعد أدوات الفن المعاصر هي الفرشاة واللوحة أو الأزميل والرخام، بل أضيف لها التصوير الفوتوغرافي والفيلم السينمائي، وأفلام الفيديو.

ومن الملاحظ أن ما نراه معروضا على الساحة العالمية يعكس جدل الفن مع الواقع وتحولاته وعدم احتوائه على قيمة وثائقية توثق للفن المعاصر كما كان الأمر في السابق بل توثيق للواقع المعاصر بوسائل الفن.

فالتصوير الفوتوغرافي يسعى الى نزع الواقع من سياقه الأصلي ووصفه في سياقات أخرى مغايرة ومن ثم القاء نظرة جديدة على هذا الواقع، فهناك فرق كبير بين الواقع المصور والقدرة التعبيرية للصورة في حد ذاتها. فالعمل الفني لا يقتصر على عرض الواقع فقط بل يتعداه الى ما هو أبعد من ذلك.

مما تقدم ذكره نستطيع تلخيصه في مصطلح جديد في عالم الفن، ظهر في خضم العقد الأخير من القرن العشرين وهو ما يعرف بالثقافة البصرية. هذا المصطلح الجديد يشمل مجموعة واسعة من الإعلام المرئي يتعدى الأنظمة والاختصاصات الاكاديمية المعروفة مثل التصوير والسينما وتاريخ الفن والفنون الجميلة. وتحت تأثير التطور والمتغيرات السريعة في الاعلام المرئي، أصبحت الثقافة البصرية مجالا قائما بحد ذاته، ما أدى الى البحث عن مفاهيم جديدة واعادة تقييم تاريخ الحداثة وما بعد الحداثة بالنسبة إلى وسائل المرئيات تحت تأثير الوسائل الرقمية والالكترونية الحديثة المنتشرة على نطاق واسع في المجتمعات كافة.

أمثلة على بعض التجارب العربية والعالمية:

أصبحت ما بعد الحداثة هما يلازم الفنان التشكيلي العربي في الوصول الى العالمية ومواكبة العصر الحديث انطلاقا من الخصوصية وما يترتب عليها من مستجدات محلية سواء كانت فكرية أو فلسفية أو ثقافية.

فالتقارب بين الانتاج التشكيلي العربي الحديث والانتاج التشكيلي العالمي يبدو جليا وخصوصا في إطار ما بعد اللوحة الفنية. فالتجارب العربية الحديثة تأخذ ابعادها العصرية بارتكازها على آلية التحديث في الأفكار والرؤية الذاتية لدفعها الى الاتجاه العالمي والعيش في العصر الحديث. وقد استطاع عدد من الفنانين تقديم صورة متزنة دخلت إلى الفن العالمي والانساني كتجارب جديدة في تناول بعض الأفكار الفلسفية وطرحها من خلال فن الفيديو الانشائي (video instillation art) أو الصورة الفوتوغرافية أو الغرافيكا القائمة على التقنيات والوسائط التي توفرها البرامج التخصصية في جهاز الكمبيوتر والتعاطي معها بالعقلية الجديدة المتطورة.

ومحاولة تقديمها بصيغة حديثة مبنية على التحرر الداخلي في التناول الذي يطلق الحالة الذاتية المتحررة.

فالحداثة تقوم بعملية التقارب الانساني من خلال القلق اليومي الذي يعكس على العمل الفني لإظهار الكوامن العميقة المخترنة للإنسان.

سأتعرض بعض الأعمال الفنية التي قدمتها الفنانة الاسترالية «بتريشيا بجينيني» (Patricia Piccinini) في معرض بينالي فينسيا 2003م تحت عنوان «كلنا عائلة واحدة»، إذ عرضت الفنانة إشكالية الاستنساخ، لقد لجأت الفنانة إلى استخدام التقنيات التكنولوجية الحديثة في تجسيد محاولات تدخل الانسان في تغيير الجينات والعبث في المخلوق البشري واستنساخ الكائنات الحية. فالمشاهد يصاب بالذهول والرعب والفزع عندما يشاهد هذه المجسمات المخيفة. وهنا يأتي دور الفنان في تجسيد التنبؤ بالمخاطر والكوارث في المستقبل عن طريق الثقافة البصرية.

ومن الفنانين العرب الذين اتجهوا الى الثقافة البصرية في طرح ومناقشة ما يدور على الساحة العالمية من أفكار وصراعات، هو الفنان البحريني أنس الشيخ، ففي معرضه الشخصي الذي شارك به في ملتقى الفنون في مهرجان الدوحة الثقافي بدولة قطر في مارس/ آذار 2004. كان عنوان العمل تحت مسمى تشويش (confusion). ويتكون العمل من غرفة مظلمة يوجد بها أربع شاشات تلفزيونية تحوي صورا فوتوغرافية لثلاثة وجوه للفنان انس الشيخ مرتديا غترة (شماغ) رجل دين في اثنتين من الشاشات التلفزيونية يتوسطها صورة الفنان أنس الشيخ في زي مغاير ألا و هو البدلة الأوروبية الكلاسيكية وربطة عنق (البابيون) والشاشة الرابعة وضعف في قفص كبير في مواجهة الشاشات التلفزيونية الثلاث يعلوها مصباح كهربائي صغير في داخل القفص وتظهر على الشاشة صورة فتاة حاسرة الرأس التقطت صورتها من الخلف وتتغير صورتها الى أخرى بالحجاب كأنها في مواجهة الشاشات التلفزيونية الثلاث. التقطت صور الفنان انس الشيخ بكاميرا الفيديو ونستشف ذلك في حركة العين وتبدو الصورة كأنها تمثال حي يتجاوب مع نظرات المشاهد ونظرات الفتاة المحجبة تارة وحاسرة تارة أخرى. أنا كمشاهدة أشعر أني في مواجهة مع السلطة الدينية وصراعها مع الحياة الدنيوية. بالاضافة الى شاشات التلفزيون يوجد جهاز (بروجكتر) يعكس صور ضوئية على هيئة ومضات من كلمات مثل (سلام، حب، كراهية، حرب) بعدة لغات بالاضافة الى سماع صوت طلقات نارية على يمين الحائط الخلفي المظلم. وعلى جانبي الحائط كتابات لأحاديث تشير إلى عدم الالتقاء بين الأطراف المتنازعة منذ عهد الرسول (ص) ما يعكس الصراعات الموجودة في الوقت الراهن.

أما الموسيقى التي تسيطر على جو الغرفة فهي خليط من أصوات كأنها صادرة من بعض المآتم الحسينية القريبة مختلطة بكلمات أغنية أوبرالية بعيدة عن الايديولوجيات تتكلم عن الانسان بغض النظر عن انتماءاته الفلسفية. إن ذلك العمل الفني المركب يضع المشاهد في حال وجدانية خاصة وذاتية قائمة على الاحساس والشعور الذي يولدهما العمل الفني وتفسر حسب خلفية المشاهد بحيث تختلف من شخص لآخر.

لا شك أن الفنان انس الشيخ له عالمه الخاص الذي تأثر به وكون تجربته الفنية مستعملا كل التقنيات الحديثة لإيصال أفكاره عبر تجارب بحثية متواصلة المعززة بحداثة العصر والمثيرة لمجموعة من الأسئلة التي تقلق المشاهد. وهذه الخصوصية التي تميز الفنان انس الشيخ تضاف الى التجارب البشرية العالمية.

لا شك أن الأمثلة في عالم الفن كثيرة ومنتشرة في العالم أجمع. ولكنني اخترت الفنانة بتريشيا بجنيني الاسترالية التي عرضت أعمالها الفنية في معرض بينالي فينيسيا 2003م لما أثارته في نفسي من ذهول ورعب وفزع عندما شاهدت مجسماتها المخيفة ودورها في تجسيد التنبؤ بالمخاطر والكوارث المحتملة في المستقبل، فهي لا تمسك العصا من الوسط، لأن عصاة الفن يجب أن تمسك من أقصى الطرف. كما أن ذلك ينطبق على الفنان أنس الشيخ الذي بهر الجميع في ملتقى الفنون بمهرجان الدوحة الثقافي وبشهادة الناقدة التشكيلية العالمية الوكيل المساعد في وزارة الثقافة في جمهورية مصر العربية فاطمة اسماعيل، عندما شاهدت عمل الفنان أنس الشيخ تحت عنوان (تشويش) أعجبت به كثيرا وقارنته بالأعمال الفنية العالمية، وذلك بسبب نضج التجربة الفنية ومهارته العالية في تقنية المؤثرات الخارجية.

فالفن العربي جزء لا يتجزأ من عالم الفن المعاصر من خلال الموضوعات الحيوية التي تتناولها متمثلة في العولمة والعنف والعنصرية والهوية والحقوق المدنية وكل القضايا التي تهم البشرية جمعاء.

ورقة قدمتها الكاتبة ضمن ملتقى أصيلة للثقافة والفنون تحت عنوان «أية خصوصية للفن العربي في العالم المعاصر





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً