العدد 610 - الجمعة 07 مايو 2004م الموافق 17 ربيع الاول 1425هـ

التناقض المقصود

وليد نويهض walid.noueihed [at] alwasatnews.com

كاتب ومفكر عربي لبناني

يبدو أن إدارة الاحتلال في العراق قررت اللجوء إلى تكتيك «القضم» ضد مدن النجف والكوفة وكربلاء بدلا من القصف العشوائي والقتل المجاني الذي اتبعته في الفلوجة. السياسة نفسها ولكن الأسلوب اختلف. في الفلوجة قتلت القوات الأميركية 52 طفلا و157 امرأة من بين أكثر من 600 سقطوا جراء الحصار والتدمير. هذا النوع من الانتقام إذا تكرر في المدن العراقية الأخرى فمعنى ذلك أن الاحتلال دخل مرحلة المواجهة العامة مع الناس في مختلف مناطقهم وطوائفهم وبات الأمر يشير إلى توجهات تدميرية تنوي تحطيم النسيج الاجتماعي لبقايا الدولة.

يبدو أن الاحتلال قرر «القضم» التدريجي تنفيذا لقرار يقول إن محكمة عراقية أصدرته بحق المرجع الديني الشاب مقتدى الصدر. والمحكمة العراقية التي لا يعرف من يقف وراء قراراتها غائبة الآن عن الصورة ويبدو أنها مغلوبة على أمرها مثلها مثل كل الهيئات والمؤسسات الانتقالية التي اخترعها الاحتلال.

الوقت إذا يقترب والاحتلال «يقضم» ضواحي النجف والكوفة وكربلاء تمهيدا لهجوم مدروس يهدف إلى القبض على الصدر لتحقيق انتصار وهمي يبيعه الرئيس جورج بوش للناخب الأميركي.

هذا النوع من السلوك التدرجي يعزز مأزق العلاقة بين الاحتلال ومجلس الحكم أو تلك الحكومة المعينة، وهو أيضا يؤكد من جديد فشل إدارة القوات الأميركية في ترجمة فوزها العسكري إلى معادلة سياسية تضبط الوضع العراقي لمصلحة الاحتلال. فبوش طلب الأسبوع الماضي من الكونغرس الموافقة على موازنة إضافية لتغطية نفقات الاحتلال التي تقدر بـ 25 مليار دولار، في وقت يصرح أنه يريد تسليم السلطة (السيادة) للعراقيين في نهاية يونيو/ حزيران.

هذا التناقض يشير أيضا إلى أن السياسة الأميركية مترددة في توجهاتها العامة، فهي تعد الناخب بأنها تفكر في الانسحاب وتطلب من الكونغرس زيادة نفقات الحرب. ويرجح في حال مال ميزان القوى السياسي (الانتخابي) مجددا لمصلحة الحزب الجمهوري أن تعود إدارة البيت الأبيض إلى استراتيجيتها السابقة، وهي استكمال حلقات «الحروب الدائمة» وتكتيكات «الضربات الاستباقية». الخطورة في مواقف بوش أنه يلعب على خطين: الأول التلويح بالانسحاب الجزئي. والثاني اتباع تكتيك القضم الهادئ ومن دون ضجيج إعلامي. هذا في شأن العراق، وأيضا يمكن ملاحظته في شأن المنطقة. فهو يقول الفكرة وعكسها، وينطق بنصف الحقيقة ويخفي نصفها الآخر حتى تمر فترة الانتخابات الرئاسية من دون تخويف للناخب الأميركي.

التناقض (المقصود) موجود في تصريحات بوش في مختلف القضايا الإقليمية. في الموضوع الفلسطيني يعد بوش حليفه شارون بدعم خططه التي تقوض ما يسمى «خريطة الطريق» ثم يعلن دعمه للخريطة وقيام «دولة فلسطينية». وفي الموضوع السوري يتهم دمشق بأنها لا تبذل جهدها في وقف عمليات التسلل من حدودها، ويرد الرئيس السوري في لقاء مع محطة «الجزيرة» بأنه لا يسمع إلا تصريحات ولم ترد حتى الآن أية معلومات أو وثائق أو اسم واحد من الجهات الأمنية الأميركية يؤكد تلك الاتهامات العلنية، فتتحاشى واشنطن الرد وتنتقل فورا إلى موضوع أسلحة الدمار. وفي الموضوع الإيراني تبدو الأمور مشابهة للمسألتين الفلسطينية والسورية. ففي الوقت الذي تؤكد «وكالة الطاقة الذرية» تعاون طهران يتحرك مجلس الشيوخ الأميركي قبل يومين ويدين البرنامج النووي الإيراني بغالبية الأعضاء. وفي وقت تبدو الأمور تسير نحو التهدئة نجد أن مسئولين أميركيين يهددون دمشق بتحريك موضوع «قانون محاسبة سورية» في الكونغرس. وعلى الخط نفسه تحركت حكومة طوني بلير وعطلت مفاوضات الشراكة السورية - الأوروبية بسبب تمسكها بشرط (بند) أسلحة الدمار الشامل.

كذلك نجد التناقض نفسه في الملفين السوداني والسعودي. فمرة هبة باردة ومرة ساخنة. وكأن الهدف في النهاية تضليل المنطقة وضعضعة توازنها ودفعها نحو الارتباك والتوتر في فترة نقاهة تمر بها الإدارة الأميركية وتريد خلالها تقطيع الوقت حتى تمر أشهر الانتخابات من دون انتكاسة كانت متوقعة للرئيس بوش.

مراقبة تناقضات السياسة الأميركية مسألة مهمة في الشهور المقبلة لأنها تكشف عن تقلبات ولكنها لا تعكس تغييرات جوهرية على الأفكار العامة التي رسمتها كتلة الشر في «البنتاغون».

أسلوب «القضم» الذي يمارسه الاحتلال على أبواب النجف والكوفة وكربلاء لا يعني بداية التراجع عن سياسة الاحتواء الدموي التي قررتها واشنطن بل هي بداية تكتيكات جديدة ومؤقتة تعكس التردد الأميركي في رسم صورتها الخارجية الملوثة في فترة حرجة داخلية لها صلة بالانتخابات وليس بحقوق الإنسان العربي أو المسلم

إقرأ أيضا لـ "وليد نويهض"

العدد 610 - الجمعة 07 مايو 2004م الموافق 17 ربيع الاول 1425هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً