العدد 619 - الأحد 16 مايو 2004م الموافق 26 ربيع الاول 1425هـ

أين هي بوصلة المعارضة مرة أخرى؟

منذ التأجيل الأول حتى تداعيات الموقوفين

محمود السيد الدغيم comments [at] alwasatnews.com

-

قد يكون الحديث عن المعارضة من شخص قريب من أجوائها أمر صعب للغاية، بل ويخلف في النفس حسرات، وخصوصا مع وجود حال الشد بين السلطة والمعارضة، ووصول الأمر إلى وجود اعتقالات سياسية على خلفية «عريضة الجمعيات»، إلا أن هذا الحديث ليس لزيادة الجروح يقينا، وإنما للبحث عن البوصلة المفقودة منذ قرار التأجيل الأول للندوة الجماهيرية التي ستدشن فيها العريضة الشعبية حتى تداعيات معتقلي العريضة، لأن حجم أخطاء المعارضة على مستوى التصريحات والمواقف يتطلب الاستنقاذ الفعلي والمكاشفة الصريحة والشفافة معها قبل فوات الأوان.

بعد التطرق إلى خلفيات التأجيل الأول، يبقى الحديث عن تداعيات التأجيل، إذ كان التداعي الأول هو تصريح وزير العمل «المعارض السابق» مجيد العلوي بعد ثلاثة أيام من استجابة المعارضة إلى طلب التأجيل الرسمي، بأنه سيعمد إلى حل الجمعيات الأربع إذا أقدمت على تدشين عريضة شعبية، داعيا إياها إلى قصر التوقيعات على أعضائها فقط، وأن جمعها توقيعات المواطنين يعد عملا غير قانوني.

الواقع أن هذه المكافأة للجمعيات الأربع على استجابتها لطلب التأجيل جاءت مباغتة لها، ولكنها كانت متوقعة بالنظر إلى تحسس السلطة الشديد مما ستفرزه العريضة من نتائج ومعطيات ضخمة على الأرض، ليس أقلها تثبيت الإشكالية الدستورية كهم شعبي يطلب حلا، يؤسس له العدد الذي سيوقع العريضة، والذي كان يراهن على أنه سيفوق نسبة المشاركة في الانتخابات النيابية إذا ما ترك الخيار الحر إلى الناس من دون ضغوط، وخصوصا في الفترة الفاصلة بين موعد تدشين العريضة وانطلاق مشروع «الفورمولا 1».

نقطة أخرى تتعلق بالأداء الحكومي فيما يخص طلب تأجيل تدشين العريضة، ومن ثم تهديد وزير العمل مباشرة بعد ثلاثة أيام بإغلاق الجمعيات إن هي أقدمت على تدشينها شعبيا، فالطلب الأول كان التأجيل لما بعد «الفورمولا 1» وليس الإلغاء، ويفهم من ذلك أن هناك محاولة من الطرف الرسمي لانتزاع التأجيل بأي ثمن، وقد انتزع بسهولة جدا بتجاوب المعارضة معه على أساس حسن النية، وعدم إضعاف مشروع «الفورمولا 1» مع كون الفارق بين موعد تدشين العريضة الشعبية وانطلاق «الفورمولا 1» 16 يوما، ثم ما إن أعلن تأجيل موعد تدشين العريضة بشكل رسمي من قبل المعارضة، حتى جاء تهديد وزير العمل بحل الجمعيات الأربع إن هي أقدمت على تدشين العريضة، وهذا يكشف عن نقطتين جوهريتين:

الأولى: أن الاحتجاج القانوني الذي قدمه وزير العمل بشأن عدم شرعية تدشين الجمعيات للعريضة الشعبية، واقتصار التوقيعات على أعضائها فقط، لا يمت إلى القانون ولا إلى الدستور بصلة، لا من قريب ولا من بعيد، وإنما هو آلية ضغط سياسية أرادت الحكومة تجريبها بعد أن ظفرت بالتأجيل لثني الجمعيات عن تدشين العريضة مستقبلا، وإلا لكان الطلب الرسمي من الجمعيات قبيل التأجيل هو إلغاء العريضة من الأساس بناء على ما احتج به وزير العمل وليس تأجيلها، فلم لم يقدم احتجاج وزير العمل حين طلب التأجيل إذا كان احتجاجه قانونيا؟

الثانية: أن التأجيل كان يعني الشيء الكثير بالنسبة إلى الحكومة، لأن الفترة الفاصلة بين موعد العريضة الشعبية الأول وبين موعد انطلاق سباق «الفورمولا 1» هي منطقة جمود أمني وسياسي لا يمكن معها التصعيد مع أية فعالية سياسية للمعارضة حرصا على إنجاح مشروع «الفورمولا 1»، فالتصعيد سيضر يقينا بنجاح مشروع «الفورمولا 1»، وبقدرة البحرين على استقطابه مرة أخرى، وخصوصا أنها تقام على أرض البحرين لأول مرة، ولا أدل على ذلك من أن «الداخلية» أطلقت سراح ناشط حقوقي بعد اتهامه بتهمة أخلاقية والتشهير به في الصحف، جراء اعتصام حدث قبيل يوم واحد من انطلاق «الفورمولا 1» خوفا من التأزم الأمني، وهذا يعني أن إقامة فعالية سلمية مثل تدشين العريضة الشعبية لن يواجه بالضغوط الرسمية على مكان الفعالية كما حدث مع مسرحية «أبوالعيش»، ولا على مكانها وشخوصها كما حدث مع «المؤتمر الدستوري»، ولهذا كان التأجيل مطمحا ذا هدف استراتيجي لدى الحكومة لضرب مشروع العريضة، وكان التصعيد الذي بعده نتيجة طبيعية للتأجيل في ظرف دقيق مثل هذا الظرف.

مثل هذا التوصيف واقعي جدا بالنظر إلى حجم القيود القانونية التي تفرضها السلطة على المعارضة وفعالياتها السياسية في الأوقات الاستثنائية وغير الاستثنائية من خلال القوانين المقيدة للحريات، ما يدفع أي لاعب سياسي يريد تحقيق أهداف مشروعة إلى استثمار الأوضاع التي تصب في صالحه لتمرير أجندته السياسية السلمية، شرط عدم الإخلال بأمن البلد واستثماره واقتصاده، ووفق المنظور العقلائي، فإن العريضة في موعدها السابق على مشروع «الفورمولا 1» بـ 16 يوما لم تكن لتربك هذه الفعالية المهمة والمؤثرة في استقطاب الاستثمارات للبلد، أولا: لفارق الفترة الزمنية بين الفعاليتين، وثانيا: لكون هذه الفعالية سلمية ومشروعة، وليست لها تداعيات أمنية على المستوى الشعبي والأهلي، كما لن تؤثر في توتير الأوضاع بين السلطة والمعارضة، لأن كليهما سيكون في هذه الفترة حريصا كل الحرص على استقرار الحال الأمنية والسياسية في البلد، حتى مع احتفاظ كل منهما بأجندته الخاصة.

يبقى هذا الفهم للعمل السياسي من الفرضيات التي قدمت للمعارضة حينها، ولم تستفد منها، وبالتالي فإن طرحه بعد انقضاء الأمر للذكرى فقط، عل الذكرى تنفع المؤمنين، إلا أن تداعيات قرار التأجيل كانت تعصف بالجمعيات الأربع، بعد تحقيقها شيئا من التماسك السياسي بعد المؤتمر الدستوري وما خرج به من مقررات، وبعد ثباتها على مواقفها على رغم التصعيد الحكومي ضدها وضد ضيوفها.

لقد بدا واضحا حجم التلاوم السياسي بين أطراف المعارضة الرافضة والمؤيدة للتأجيل بعد أن أطلق وزير العمل تهديداته للجمعيات، إذ كان التلاوم على أساس أن الاستجابة لطلب الحكومة بتأجيل تدشين العريضة بناء على حسن النية أنتجت تهديدا، وليس مبادرة أو حوارا، كما أن التأجيل لم يكن وراءه ثمن سياسي، يقضي على الأقل بتعهد السلطة بعدم اعتراض مشروع العريضة مستقبلا.

كان التلاوم الذي انتقل إلى أجواء الشارع مباشرة، مطمحا مرصودا في أفق الحكومة أيضا، وقد لعبت عليه لمزيد من الاختراق السياسي من خلال آلية التصعيد التي لعب عليها وزير العمل، بناء على معطيات التأجيل التي كانت تعني التنازل والاستجابة غير المشروطة لطلب الحكومة، وهي نقطة قد تؤثر مستقبلا على مصير الملف الدستوري، لكونه ملفا معقدا ويحتاج إلى نفس طويل في متابعة تفاصيله، والقراءة السياسية لخلفية التأجيل أو تحويل العريضة الشعبية إلى عريضة جمعيات، أن الجمعيات السياسية لا تستطيع التفاوض طويلا بشأن الملف الدستوري، حتى لو وضعت لها أجندة واضحة، ورسمت لها برنامجا سياسيا واضح المعالم، فلن تصر على هذه المطالب، لأن التنازل الذي أفرزه التأجيل وتحويل العريضة الشعبية إلى عريضة جمعيات كان عن مطالب سلمية وآليات مشروعة في العمل السياسي قررتها الجمعيات وألزمت نفسها بها، ومع ذلك كان التنازل.

قراءة أخرى لخلفيات التصعيد الحكومي، وتأثيره على ارتباك أداء المعارضة وتضاربه، ويتمثل في الدور الذكي الذي لعبه المعارض السابق وزير العمل حاليا مجيد العلوي، فقد شاءت الصدف أن يكون وزير العمل مسئولا مباشرا عن الجمعيات السياسية، إذ إن العلوي بشأن إغلاق الجمعيات لم يكن يطلق تهديدات بالقدر الذي كان يطلق فيه استغاثات مشحونة بالتهديد لإنقاذ وضع الجمعيات من الحل أو الإغلاق، وقد استثمر قربه من الجو النفسي والعاطفي للمعارضة ليلعب هذا الدور بإتقان محكم، لهذا فقد كان يؤكد أن التهديد بإغلاق الجمعيات جدي، وهذه النبرة لا يستخدمها مسئول في الدولة برتبة وزير، وإنما يستخدمها الشخص القريب المراقب للوضع، والعارف بخباياه، وآليات إنتاجه للفعل السياسي، تماما كما اعتبر العلوي نفسه قبيل أن يتقلد منصبه الجماهير مثل «بالونات الهواء» التي سرعان ما ستهمد بمجرد إعلان موقف المشاركة في الانتخابات النيابية، وذلك في ندوة أقيمت في جمعية المهندسين إبان احتدام الجدل بشأن المشاركة والمقاطعة.

في أجواء التصعيد الحكومي من جهة، والتلاوم السياسي بين أطراف المعارضة من جهة أخرى، وخصوصا داخل أروقة «جمعية الوفاق» التي بدأت تشهد توترا عند بعض أعضاء مجلس إدارتها، على خلفية قرار التأجيل، الذي حملت مسئوليته إلى أشخاص بعينهم، وسط هذه الأجواء: كان الشارع العام قد عاد إلى حال فقدان الثقة في المعارضة من جديد، وأثرت أجواء التصعيد والتلاوم فيه إلى درجة الغليان السياسي، ومن محاسن الصدف أيضا، أن تأتي قضية هجوم أهالي المنامة على «أوكار الفساد»، لتهيئ الأجواء ومن دون استئذان ولا سابق إنذار للهجوم على مطعم «لاترسيا» في الصالحية، ولتنشب أعمال عنف في كل من منطقة البلاد والسنابس على خلفية أخلاقية ظاهريا، إلا أنها سياسية محضة، وأهم تداعياتها هو الإحباط من مواقف المعارضة، إذ نقل أحد أعضاء مجلس بلدي العاصمة أن أحد المشاركين في المظاهرات كان يهتف بالدستور والعريضة وغيرهما من الكلمات التي توحي بأن بُعد الاحتجاج عند هؤلاء سياسي وليس أخلاقيا، وهنا يجب لفت نظر جهات ثلاث إلى قراءات خاطئة تحمل مثل هذه التداعيات المؤسفة ما لا تحتمل.

القراءة الأولى: بعض الخطب الدينية التي برزت آنذاك، واعتبرت أن ما يقوم به هؤلاء الشباب هو محاربة للفساد والرذيلة في البلد، ومنبع هذه القراءة الخاطئة، ليس كون البعد الأخلاقي غير محرك لهؤلاء الشباب بالمطلق، وكونهم لا يملكون غيرة على دينهم ووطنهم، وإنما كون البعد الأخلاقي في مثل هذا الظرف هو أقرب متنفس يمكن أن ينفّس به هؤلاء الشباب عن حالات الاحتقان لديهم جراء الأخطاء السياسية التي ترتكبها المعارضة، وبالتالي فقراءة الحدث السابق من منطلق أخلاقي محض هو استمرار إلى عدم القراءة الصحيحة لتحركات الشارع السياسية، وبالتالي استمرار في تجاهل المشكلة الناجمة عن إحباط الشارع جراء التأجيل الأول، ولو من دون قصد التجاهل، وبالتالي فمثل هذا التوجه بحاجة إلى أن يلتفت إلى القراءات التفصيلية الدقيقة لحركة الشارع، لكيلا تختلط الأوراق عليه، فلا يميز بين تحرك مدروس ومنظم باتجاه محاربة الفساد الأخلاقي، وبين حال احتقان سياسي وجدت في المتنفس الأخلاقي الآني فرصة لتفريغ احتقاناتها السياسية.

مثل هذه القراءة حالت بين هذا الفهم وبين معالجة حال الاحتقان عند الشارع من جهة، وخصوصا فيما يتعلق بالشق السياسي الذي أفرزته العريضة والتأجيل وتداعياته، ما أعطى المجال إلى تكثيف التصعيد الأمني عند السلطة على خلفية ضبابية الفهم في الخطاب الديني والسياسي للمعارضة لحركة الشارع، وعدم قدرته على معالجة ما ينتجه الشارع من احتقانات، لأنه لا يدرك أبعادها الفعلية.

القراءة الثانية: وهي قراءة السلطة لمثل هذه الاحتقانات والحركات الاحتجاجية غير المدروسة، وهي وفق الكثير من المعطيات قراءة تعسفية، عادة ما ترجعها إلى تدبير وتخطيط مسبق، أو إلى حالات عنف نتيجة الشحن والتحشيد السياسي، ووفق إدارة السلطة للحال السياسية، وخفوت تصعيدها الأمني وبروزه هكذا فجأة من غير إنذار، فإن هذه القراءة ليست هي القراءة الفعلية أو الحقيقية للسلطة، وإنما هي خطاب ظاهري يدار من خلال آليات التصعيد والتسامح وعدم الذهاب بعيدا في تفسير هذه الحوادث.

الواقع أن قراءة السلطة لهذه الحوادث أكثر وضوحا من قراءة المعارضة لها، وأكثر فهما إلى خلفياتها وأبعادها، بدليل أنها تستخدم التصعيد والتسامح بقدر وضمن حسابات، تصب أخيرا في صالح السلطة، في حين تنجر المعارضة وراء خطاب الإدانة من دون القدرة على معالجة هذه الحوادث، وبالتالي توجد حاجة وفق ما تقوم به السلطة من إدارة إلى الحالة السياسية إلى ألا تذهب بعيدا ولا تتعسف في الحكم على مثل هذه الحوادث، فالشباب الذي يتحرك وفق حالات الاحتجاج السياسي هو شباب اعتيادي، لا يملك مؤهلات العنف، وإنما يملك من الاحتقان الكثير، وهو ما ينبغي أن يعالج من السلطة، وقبل ذلك من المعارضة.

القراءة الثالثة: وتتمثل في الخطاب المعارض الذي يجب أن يفهم معادلة واضحة ليكون قادرا على ضبط إيقاع الشارع من دون أن يباشر أوامره إلى الناس بأسلوب فوقي بأن افعلوا كذا واتركوا كذا، وهذه المعادلة تتلخص في الآتي «بمقدار ما تحس الجماهير بأنك تدافع عن حقوقها، وتحرك المبادرات السياسية للوصول إلى مطالبها، بمقدار ما ستخفت الأجندة الخاصة، وتتقلص الحوادث الجانبية على هامشها، وتعطيك الجماهير زمام المبادرة لتتحرك وتكون خلفك، وبمقدار ما تحس الجماهير أنك فاقد للأجندة السياسية، غير قادر على الدفاع عن حقوقها، فستكون في المقدمة لتطالب بحقوقها، حتى لو أدى ذلك إلى الإضرار بها وبمصالحها».

من هنا فإن عفوية الشارع وعدم تنظيمه لحركاته الاحتجاجية نابعة من عدم وجود الأجندة السياسية عند المعارضة، أو أن المعارضة تضيع مكتسبات الشارع وحقوقه من خلال تهاونها في الدفاع عن هذه الحقوق، وهذا هو التفسير للحوادث الأمنية المؤسفة ذات الدلالات السياسية القائمة على تداعي العمل المعارض وتخلّفه، أما وضوح الأجندة السياسية وتوحدها بين أطياف المعارضة فيكون سببا لمغادرة الشارع إلى كل حقوقه في المطالبة، واستناده مباشرة إلى أداء المعارضة وأجندتها السياسية، ودعمها بكل ما أوتي من قوة، وهذا ما يمكن فهمه من تداعي الجماهير إلى إنجاح العريضة الشعبية التي قلصت بل ألغت أجندة العنف، وجعلت الحوادث الهامشية على جانب هذه الأجندة، وبالتالي: فإن توحد الجماهير خلف أجندة سلمية فيه أمن واستقرار البلد، وحراك سياسي حتى لو كان متعارضا، فإنه لا يضر بأي طرف من أطراف اللعبة السياسية، وهذا ما يجب أن يفهمه الساسة، معارضة وسلطة

العدد 619 - الأحد 16 مايو 2004م الموافق 26 ربيع الاول 1425هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً