العدد 646 - السبت 12 يونيو 2004م الموافق 23 ربيع الثاني 1425هـ

أكراد العراق (2)

وليد نويهض walid.noueihed [at] alwasatnews.com

كاتب ومفكر عربي لبناني

إعلان قادة الأكراد (البرلمان المحلي) سحب تهديدهم بمقاطعة الحكومة العراقية (المعينة من الاحتلال) يعتبر خطوة إيجابية في بلد يعاني التمزق والانهيار وغياب الدولة عن لعب دورها. فالإعلان خبر مفرح في بلد لا ينتج منذ سنوات طويلة إلا الأخبار السيئة. وهذه الخطوة الإيجابية يجب على العراق استثمارها سياسيا لتجاوز الماضي الذي تعرض للاختلاس من جهات انقلابية احتكرت السلطة وصادرت الحرية وأعادت توظيف ثروات البلاد لمصالح حزبية (عشائرية - أسرية) ضيقة أنهكت الشعب وانتجت عداوات بين أهله وسهلت في الأخير مشروع احتلال العراق وتفكيك دولته.

الآن بقي على العراقيين رد الخطوة الكردية الإيجابية بخطوة أخرى مماثلة لإعادة تأكيد أن حقائق التاريخ والجغرافيا أقوى بكثير من المصالح الانتهازية الضيقة. فهناك الآن فسحة زمنية للمصالحة (التسوية التاريخية) تبدأ خطوتها الأولى بعد 30 يونيو/ حزيران الجاري وبعدها تأتي خطوات ثانية وثالثة يفترض أن تنتهي بحسب الجدول الزمني الذي أقره مجلس الأمن في قراره الدولي الرقم 1546.

أمام العراقيين - والأكراد من بينهم - ثلاثة نماذج حصلت في أوروبا في تسعينات القرن الماضي عقب انهيار الاتحاد السوفياتي وتفكك المعسكر الاشتراكي. هذه النماذج الأوروبية الثلاثة تقدم الكثير من الدروس والعبر ويمكن الاستفادة من تجاربها ونتائجها لقياس الخيار الأفضل للشعب العراقي وتقرير مستقبله كدولة واحدة موحدة أو كدويلات طوائف ومذاهب وأقوام وقبائل غير قادرة على التماسك أو قابلة للحياة والاستمرار.

بعد نهاية «الحرب الباردة» عرفت أوروبا وهي القارة الأكثر «تطورا» في العالم ثلاثة مشاهد سياسية لاتزال ماثلة أمام الناس، وهي: النموذج اليوغسلافي، والنموذج التشيكوسلوفاكي، وأخيرا النموذج الألماني. هذه النماذج تقف الآن أمثلة حية أمام العراقيين لاختيار الأفضل والانسب، وهي تداعت أو تطورت كالآتي:

أولا، في يوغسلافيا انفجر الاتحاد الذي كان يضم شعوب صربيا والبوسنة وكوسوفو (ألبان) وكرواتيا وسلوفينيا ومقدونيا بسبب عناد زعيم الصرب ميلوسوفيتش معتبرا أن ما حصل في دول الجوار لا يعنيه. وبغض النظر عن صحة المواقف الداخلية ودور الخارج في تفجير الأزمة وتفكيك الاتحاد حدثت مجازر رهيبة ضد المسلمين لم تعرفها القارة منذ نهاية حقبة هتلر وارتدت في النهاية سلبا على الكروات والصربيين والمسلمين وانتهت إلى تدخل الدول الكبرى عسكريا وانهاء الفتنة الأهلية ووقف المجازر وتقسيم يوغسلافيا إلى خمس دويلات مستقلة ترعاها أميركا (الحلف الأطلسي) عسكريا والاتحاد الأوروبي اقتصاديا.

ثانيا، في تشيكوسلوفاكيا حصل الطلاق الوردي (الودي) بين التشيك والسلوفاك، إذ فضل قادة الاتحاد التشيكوسلوفاكي التفاهم على التقسيم السلمي من دون عنف ومجازر كما حصل عند جارتهم يوغسلافيا. فكان الانفصال وتأسست في ضوء الصفقات السياسية علاقات محاصصة (هذه لي وتلك لك) أدت في النهاية إلى إنتاج دولة «تشيخيا» ودولة «سلوفاكيا» واستقر الوضع على ما هو عليه الآن على رغم ندم الطرفين على الانفصال. فالانفصال أضعف الطرفين، بينما اعتبرت سلوفاكيا أنها الجهة الأكثر تضررا على رغم أنها هي التي بادرت وطالبت بالطلاق.

ثالثا، في ألمانيا حصل العكس. فهذه الدولة قسمتها الحرب العالمية الثانية إلى «شرقية» و«غربية» وقام في القطاع الشرقي «النظام الاشتراكي»، مقابل «النظام الرأسمالي» في القطاع الغربي. وأطلقت الغربية على نفسها تسمية «ألمانيا الاتحادية» وسمت الشرقية نفسها «ألمانيا الديمقراطية». وانقسمت العاصمة التاريخية برلين إلى قطاعين، ورفعت بينهما الحواجز (حائط برلين) لمنع الاتصال والتواصل بين أهل المدينة. ألمانيا هذه بعد نهاية «الحرب الباردة» وانسحاب الجيش السوفياتي من أوروبا الشرقية لجأت إلى اتباع الأسلوب المعاكس فاتجهت من الانفصال إلى الوحدة معتبرة التقسيم لحظة زمنية عابرة في تاريخها فرضته ظروف دولية وفروقات أيديولوجية (واستبدادية) بين معسكرين يعتبر كل منهما أنه صاحب الفضل في هزيمة النازية.

ألمانيا الآن موحدة، وعادت برلين عاصمة لدولة واحدة. ولاشك في أن البلاد عانت كثيرا من إعادة الوحدة ودفعت ما يفوق طاقة اقتصادها على الاحتمال لمنع الانهيار وتعزيز الوحدة. وهذا ما تم حتى الآن بنجاح.

العراق الآن يمر في فترة انتقالية تشبه تلك المرحلة التي مرت بها ألمانيا. والمطلوب الآن إعادة إنتاج وحدة دمرها الاستبداد وزاد عليها الاحتلال الكثير من التداعيات المأسوية. القرار الكردي قرار حكيم ونزيه وهو فرصة للعراق لإعادة تجديد دولته من دون تفرفة وتمييز. فالنموذج الألماني هو الأصلح وغير ذلك لا مكسب للعراق سوى الخراب سواء تم الأمر وفق الطلاق الودي (الوردي) أو بأسلوب العنف والانفجار الأهلي

إقرأ أيضا لـ "وليد نويهض"

العدد 646 - السبت 12 يونيو 2004م الموافق 23 ربيع الثاني 1425هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً