العدد 658 - الخميس 24 يونيو 2004م الموافق 06 جمادى الأولى 1425هـ

نحو قراءة زمنية للمستقبل

وليد نويهض walid.noueihed [at] alwasatnews.com

كاتب ومفكر عربي لبناني

أجوبة المستشرقين (أو المستعربين) على أسئلة المسلمين المذعورة شكلت نقلة نوعية في التفكير الموضوعي (الواقعي - العقلاني) للرد على «لماذا تخلف العرب (المسلمون) وتقدم الغرب؟». إلا أن تلك الأجوبة بقيت قاصرة عن الإحاطة بكل المشكلات. فهناك الكثير من النقاط تجاهلها المستشرقون وكذلك أقدم بعض المستشرقين على التشاوف على الحضارة العربية - الإسلامية وصولا إلى تجريدها من كل الإضافات التي قدمتها إلى الإنسانية. وتوصل بعض المستشرقين إلى أحكام جائرة ضد العرب والمسلمين فاعتبروا حضارتهم مجرد جسر لنقل المعلومات من خلال الاقتباس والترجمة.

هذا الصنف من المستشرقين استند في أحكامه السلبية على المشاهدات إذ نظر إلى الواقع المزري في عصرنا وبنى عليه استنتاجاته على التاريخ والماضي. فهذا الصنف وجد في الحاضر المقياس الوحيد لقراءة الماضي ومنه انطلق لتجريد المسلمين (والعرب) من كل الإنجازات الحضارية. حتى بعضهم وصل إلى القول إن الفكر الإسلامي لا يتضمن أية فكرة عن الدولة وان الإسلام مجرد دين لا دولة وهو يدعو إلى العبادات ولا يملك سياسة في المعاملات. وفقه المعاملات برأي هذا الصنف ابتكره المسلمون لاحقا بعد قيام دولة الأمويين وتطور في فترة دولة العباسيين.

كان هدف هذا الصنف من المستشرقين القول إن القرآن الكريم لا يتضمن إشارات لا إلى دستور الدولة ولا فكرتها متجاهلين في أحكامهم كل تلك الآيات التي أنزلت بعد الهجرة من مكة إلى المدينة.

حاول هذا الصنف من المستشرقين تجريد النص القرآني من فكرة الدولة بالقول إن نظام البداوة لا ينتج مؤسسات ولا يفكر في انتاج دولة دستورية وقضاء وغيرهما من أسس قانونية لابد من وجودها للدلالة على وجود دولة. فالدولة تعني خطوة حضارية متقدمة اجتماعيا على البداوة أو دولة القبلية. ولأن هذا الصنف من المستشرقين يحتقر العرب ويشكك في النص القرآني ابتكر نظرية عدم وجود دولة في أساس الفكر الإسلامي وبالتالي على العرب في حاضرهم أخذ الدولة من الغرب إذا أرادوا التقدم والرقي.

هذا جانب من الصورة. الجانب الآخر ان هذا الصنف من المستشرقين حاول القول إن سبب الاختلاف بين العالمين (الأوروبي والعربي) يعود إلى الدين واختلاف القيم بين المسيحية والإسلام. وبنى هذا الصنف أحكامه على الفروقات الاجتماعية - الاقتصادية الحاضرة للإستنتاج بأن قيم الإسلام تتحمل مسئولية تدهور المسلمين وتخلفهم.

المسألة إذا ليست جديدة. وما نسمعه اليوم من تصريحات وزلات لسان تصدر أو تنزلق من هذا المسئول الأوروبي أو ذاك الأميركي ليست مفتعلة وإنما هي تعكس العقل الباطن الذي يحرك مفاهيم تلك الدول ونظرتها إلى المسلمين والعرب. فهذه التصريحات ليست زلات لسان بقدر ما هي ناتجة عن مجموعة أفكار مستقاة عشوائيا من دون علم أو معرفة من أفكار بعض المستشرقين ولا صلة لها بالتاريخ ولا بالجغرافيا ولا بشروط التقدم والتطور. حتى دولة مثل إسبانيا تخجل في كتابة تاريخها من القول إن المسلمين (والعرب منهم) حكموها قرابة ثمانية قرون. ففي كتب التاريخ التي تدرّس للطلبة اختزلت 800 سنة من الحكم الإسلامي - العربي في ثمانية أسطر. حتى ان كلمات من عرب وإسلام لا ترد إلا قليلا وتستبدل عادة بكلمة «المورو» وتعني المغاربة أو مراكش. وما عدا ذلك غيّب التاريخ الرسمي للدولة من المنهاج التعليمي (التدريس) كل الإشارات التي تذكر العرب بالخير أو بفضل المسلمين في تمدين إسبانيا وجعلها الدولة الأولى أوروبيا على مدار قرون من الزمن. حتى اللغة الإسبانية المعاصرة التي تتضمن مئات المفردات العربية لا يقال للتلامذة إن أصول تلك الكلمات جاءت من اللغة العربية.

المثال الإسباني هو نموذج على ما يمكن تسميته «الخجل من الماضي». فإسبانيا تخجل الآن، وهي في وضع متقدم نسبيا على العرب، أن تقول إن العرب قبل 500 سنة كانوا في وضع متقدم نسبيا عليها، وشواهد العمران التي تتفاخر بها أمام السائحين من أوروبا وأميركا هي الدليل على ذلك.

«الخجل من الماضي» ليس مشكلة إسبانية فقط وإنما هي أيضا وهذا هو المهم والأخطر تحول إلى مشكلة عربية. فهناك الكثير من المثقفين العرب (المسلمين) يخجلون الآن من ماضيهم ويشتمون تاريخهم وتراثهم وينظرون بدونية للأجنبي ويعتذرون منه وكأنه هو صاحب الفضل في كل ما فعلته الإنسانية من إنجازات بينما الحضارات تؤكد أن كل ثقافات العالم أخذت من بعضها بعضا.

صحيح أن أوروبا في حالها الحاضرة متقدمة على العرب والمسلمين ولكنها لم تكن كذلك طوال العصور والدهور. فالنظرة إلى الماضي من خلال قياس الحاضر من دون قراءة تحليلية لأسباب التقدم والتخلف تؤسس مدرسة في الإحباط لا تفرخ سوى المآسي والهزائم. كذلك يؤدي استلهام نصوص ما قاله بعض المستشرقين العنصريين عن العرب والمسلمين وخصوصا في مسألتي الدولة والقيم الأخلاقية ليس هو الجواب الصحيح على واقع يشير فعلا إلى تقدم الغرب وتخلف العرب. فالإجابات الصحيحة تبدأ حين يبدأ التخلص من عقد الدونية والخجل من الماضي والقلق من المستقبل. والإجابات لابد أن تقرأ التاريخ في إطار مكوناته العالمية حتى تتوصل إلى فهم دقيق لكل ما يقال عن العوامل الذاتية لتقهقر المسلمين. فالتراجع حصل فعلا أو على الأقل النمو العربي (الإسلامي) لم يكن بالوتيرة نفسها التي كانت في الغرب فحصلت مع الزمن فجوات أدت إلى ظهور هذه الفروقات بين العالمين.

النظرة إلى الذات مهمة ونقد الذات ضروري والبحث عن عوامل ذاتية تسهم في توضيح بعض الغموض في جوانب الصورة مطلوب، إلا أن اقتصار القراءة التاريخية على العناصر الذاتية ليس كافيا ويؤدي إلى قصور في الوعي المركب الذي يجمع مختلف الأسباب من ذاتية وموضوعية للتوصل في النهاية إلى استنتاجات تقارب الواقع من دون أن تتطابق معه. فالمقصود في النهاية ليس زرع التفاؤل واستنهاض الهمم وشحذ العصبيات بقدر ما هو محاولة لمقاربة وقائع التاريخ والتقاط العناصر المبعثرة وإعادة جمعها في منهج تاريخي يربط الحاضر بالماضي ويقرأ المستقبل بصفته طورا من أطوار التحولات. فالماضي تغير والحاضر ليس ثابتا والمستقبل عرضة للتقلبات.

وهذا ما حصل في أوروبا نفسها، فهي بدأت تاريخيا في اليونان (أثينا) وانتقلت إلى إيطاليا (روما) ثم إلى الجرمان والساكسون. وأيضا حين دخلت أوروبا في عصر نهضتها الحديثة قادت البرتغال (لشبونة) القارة في عهد بدايات الاكتشافات الجغرافية في مطلع القرن الخامس عشر، ثم انتقلت القيادة منها إلى إسبانيا في القرن السادس عشر، ثم إلى فرنسا، وألمانيا، ثم بريطانيا... ومن بريطانيا إلى «اليانكي» أو العالم الجديد (أميركا) ويرجح أن تعود ثانية إلى الشرق (آسيا) في مجرى القرن الواحد والعشرين. فالدنيا تتغير والزمن يغلب دائما و«سبحان الذي يغير ولا يتغير».

قراءة تخلف العرب وتقدم الغرب تتطلب نظرة تاريخية مغايرة تعيد ترتيب العناصر والعوامل وتكييفها في إطار مجرى التطور الإنساني وتقدم شعوب وتراجع شعوب. فهناك شعوب أعطت البشرية الكثير في محطات رقيها الإنساني إلى درجة استنزفت وأصابها التعب والإرهاق. وهناك شعوب خامات لاتزال منذ قرون تنتظر دورها. ومن يدري ماذا يحضِّر المستقبل من احتمالات غير منظورة ولا نعرف عنها الكثير في حاضرنا

إقرأ أيضا لـ "وليد نويهض"

العدد 658 - الخميس 24 يونيو 2004م الموافق 06 جمادى الأولى 1425هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً