الذين يمكنهم تحمل الجلوس أقل قليلا من خمس ساعات للتعرف على ما هو معروف سلفا من تاريخ المأساة الفلسطينية، سيشعرون بمتعة سينمائية حقيقية أمام فيلم «باب الشمس» جديد المخرج المصري يسري نصرالله، والذي من الواضح أنه فيلم صنع أصلا للتلفزة - في جزءين - ثم تطورت أموره بحيث بات يبدو لأصحابه ملائما للشاشة الكبيرة. فالحال أن لغة يسري نصرالله السينمائية المتميزة - والتي سبق لنا أن تعرفنا عليها في أفلام سابقة له مثل «مرسيدس» و«سرقات صيفية» و«صبيان وبنات» - تبدو هنا في أحلى تجلياتها، ولاسيما في المقاطع التي تبتعد فيها لغة السينما عن الأصل الأدبي للعمل، لتعبر عن نظرة المخرج نفسه إلى فلسطين. ولاسيما إلى بقية ما تبقى من فلسطين كما عاشه المخرج نفسه خلال إقامته في بيروت أواخر سنوات السبعين.
والحقيقة أن يسري نصرالله كان يحلم منذ ذلك الحين بتقديم فيلم عن فلسطين، وداعبت خياله خلال عقدين من السنين عدة أفكار، لكنه كان دائما ما يؤجلها، باحثا عما كان يريده أفضل حتى رصد الضجة الإعلامية التي صخبت من حول رواية لكاتب لبناني هو إلياس الخوري تحمل عنوان «باب الشمس» وهو حين قرأ الرواية رأى أنه عثر على ضالته... أو على الأقل على قماشة خلفية يبني عليها رؤيته لفلسطين. ولقد تعزز هذا المشروع لديه منذ ترجمت الرواية إلى الفرنسية من قبل متحمسين فرنسيين للقضية الفلسطينية، ورأى أن عملا سينمائيا مقتبسا عن الرواية يمكنه أن يستفيد من كل تلك الظروف.
غير أن مشكلة يسري نصرالله في تعاطيه مع هذا المشروع، كمنت في انه وقع أسير طول الرواية وتشعب حوادثها، ولغتها الفصيحة التي تقترب أحيانا من حدود الثرثرة. والمأزق الذي أوقع نفسه فيه نصرالله، كان انه بدلا من أن يعيد تقليم أظافر الرواية ويختصر ثرثرتها ويتفادى الوقوع في فخ أدبيتها المسهبة، رأى لزاما عليه أن يغوص في تفاصيلها معتقدا أنه بذلك يحقق عملا ملحميا، تاريخيا وتحديدا في مجال النظر إلى القضية الفلسطينية، ثم وخصوصا في مجال «فضح التواطؤ الرسمي العربي» ضد الفلسطينيين إبّان اللجوء في العام 1948، غير منتبه إلى أن كل هذا كلام قيل مئات المرات وليس فيه أي جديد بل إن الحكاية نفسها بدت من الافتعال، بحيث إن كثرا قالوا إنهم كانوا يفضلون لو أن يسري نصرالله اكتفى بـ «قول» فلسطينه التي يعرفها، بدلا من استعارة فلسطين الآخرين!
ومن يمكنه أن يفرق بين «باب الشمس» وبين لغة يسري نصرالله الإخراجية الرائعة، وبين لغة الرواية الأدبية الثرثارة، يمكنه أن يفهم حين تقول إن نصرالله، في نهاية الأمر، أضاع مشروعه الشخصي، من دون أن تكسب فلسطين فيلمها «الكبير» الموعود.
تاريخ لفلسطين
ومع هذا لن يعدم الأمر متفرجين، لا يعرفون شيئا عن القضية الفلسطينية وتاريخها - هل لهم وجود حقا؟ - سيجدون أن في إمكان هذا الفيلم أن ينورهم، وخصوصا في جزئه الأول، إذ عرفت كاميرا يسري نصرالله الملحمية حقا، أن تقدم صورة باهرة ومأسوية لتاريخ اللجوء، إلى لبنان هربا من مجازر الصهاينة في فلسطين. هنا تعامل نصرالله مع موضوعه بشكل جيد، ولاسيما في المشاهد التي بدت أقرب إلى التوثيقية والتي لا يمكن أن يختلف على حقيقتها التاريخية اثنان. ولقد رأى كثر في هذا التاريخ السينمائي معادلا لبعض أجمل لحظات فيلم «1900» للإيطالي برتولوتشي الذي تناول قبل ربع قرن جزءا من تاريخ إيطاليا في القرن العشرين على الشاكلة نفسها.
وكما في «1900» فإن تاريخ فلسطين هنا لا يقدم بشكله التاريخي الفج، بل بشكل روائي، إذ إن كل ما نشاهده هنا إنما يروى لنا من خلال حكاية مناضل فلسطيني هو الآن على فراش الموت. وإذ يستعيد بطل آخر من أبطال الفيلم ذكرياته عن المناضل الواقع الآن في غيبوبة لن يخلصه منها، عند نهاية الجزء الثاني من الفيلم سوى الموت، تعود الذاكرة إلى أوائل سنوات الأربعين، يوم كان الفلسطينيون لايزالون يعيشون في ديارهم. يومها كان ذلك المناضل شابا، بدأ حمل السلاح باكرا، ثم تزوج من طفلة ستشغل لاحقا جزءا أساسيا من حوادث الفيلم.
وحوادث الفيلم هذه تتابع حكاية فلسطين، منذ زواج الشابين، حتى موت العريس، عجوزا في بيروت، وبعد أن انتهى كل شيء وأجبر الإسرائيليون الفلسطينيين على النزوح مرة أخرى، حتى من لبنان... ما يجعل الفيلم يقدم في جملته نحو نصف قرن من تاريخ فلسطين. غير أن هذا التاريخ يبدو هنا خالطا بين الخاص والعام، بين ما هو روائي - مفتعل غالبا، ولا سيما مع حكاية الفتاة شمس، ثم مع مشاهد بيروت الثمانينات التي تفتقد ولو الحد الأدنى من الصدقية - وما هو تسجيلي، عرف يسري نصرالله كيف يدمجه حقا في فيلمه. أما أساس الفيلم فيبقى في اعتقادنا، أفضل ما فيه. وهذا الأساس هو طبعا حكاية المناضل يونس وزوجته نهيلة. ذلك أن هذه الأخيرة إذ تعود بعد اللجوء الأول لكي تعيش في فلسطين على رغم كل شيء، يفضل يونس البقاء في لبنان لاجئا ومناضلا. غير أن الاثنين يديران أمورهما بحيث يلتقيان بين الحين والآخر في مغارة عند الحدود الشمالية لفلسطين يطلقان عليها اسم «باب الشمس» وتصبح عش غرام لهما طوال عقود من السنين. وهذه المغارة هي طبعا التي منحت الفيلم اسمه. وانتهى الفيلم عندها.
على هذا الأساس إذا بنيت التشعبات وضاعت حوادث الفيلم في خضم فصاحة الرواية، ومع هذا يمكن القول إن يسري نصرالله أكد مرة أخرى - لمن يستطيع تحمل الفيلم حتى آخره - أنه واحد من أبرز المخرجين العرب، في مجال استخدام اللغة السينمائية بحرية مطلقة، كما في مجال إدارة الممثلين، ولاسيما الشخصيات الأساسية، ومنها التونسية ريم تركي (في دور نهيلة) التي يمكن القول إنها حملت جزءا أساسيا في الفيلم على كتفيها، كما فعل يسري نصرالله إذ حمل جزءا آخر... وبقيت بقية الأجزاء في حاجة إلى من يحملها.
باريس - الوسط
«ذات مرة كنت في سيارة مع صديق لي، عند أعلى تلة تشرف على قريتي أم الفحم... كانت السماء تمطر وكان الظلام مخيما على المكان كله. وحدها مصابيح سيارتي كانت تضيء المكان. هناك لكي نزجي الوقت. رحنا أنا وصديقي نتكلم... وخلال ذلك الكلام روى لي الصديق حكاية صراع دار بين عائلتين من عائلات القرية. وكان محور الصراع مجرى مائي يسقي المزروعات. أمام طريقة صديقي في رواية حكاية هذا الصراع أحسست بنفسي مأخوذا، ورأيت أن الصراع يهمني كما لو أنني كنت واحدا من أطرافه، ثم راحت تراودني فكرة فيلم يتحدث عن رجل يمضي كل وقته وهو يحاول أن يحمي مجرى الماء الخاص به... ولكن من عدو غامض لا يعرف عنه شيئا سوى أنه سيأتي ذات لحظة محاولا أن يدمر له امكانية الري الوحيدة تلك. وكانت هذه نقطة الانطلاق في تحقيقي لهذا الفيلم».
بهذه العبارات تحدث المخرج الفلسطيني الشاب توفيق أبووائل عن فيلمه «عطش» الذي قدم خلال الدورة الأخيرة لمهرجان «كان» باسم فلسطين و«إسرائيل» في آن معا، وها هو يعرض الآن في «مهرجان السينما العربية» في باريس باسم فلسطين وحدها. وهذه الازدواجية يفسرها المخرج انطلاقا من كونه يحمل الجنسية الفلسطينية إذ إنه من «عرب 1948»، وبالتالي فهو من الذين يحق لهم أن يحصلوا على دعم مالي من السلطات الإسرائيلية لتحقيق أعمال فنية تقف حتى ضد تلك السلطات. ومن هنا إذ كان توفيق أبووائل يرى أن فيلمه يتحدث خصوصا عن العلاقات والصراعات بين البشر، خارج الدائرة السياسية البحتة، فإنه يوافق في الوقت نفسه على أنه فيلم سياسي يحفل بالرموز... بل انه يضيف ان كل فيلم هو في نهاية الأمر فيلم سياسي، شاء صاحبه ذاك أو أباه!
دراما متسارعة
تدور حوادث «عطش» في فترة زمنية غير محددة تماما، ولكن في المنطقة التي عاش فيها توفيق أبووائل طفولته وعرفها عن كثب. وهو يقول لنا اليوم إن شخصيات الفيلم أليفة لديه، حتى وإن كانت مبتكرة من أولها إلى آخرها... ذلك انه استعار نماذجه من أصل فريقه نفسه.
وهذه الشخصيات قليلة العدد، أبوشكري وأفراد عائلته الصغيرة الذين يعيشون في عمق أعماق وادٍ استوطنوه منذ عشرة أعوام تاركين القرية مسقط رؤوسهم، لأسباب لن تتضح لنا أبدا. إنهم يعيشون عيشا متقشفا، ويمضون وقتهم في صناعة الفحم المصنع انطلاقا من خشب الغابات الذي يقطعونه بأنفسهم. الأب والإبن هما الوحيدان هنا اللذان يحتكان بالعالم الخارجي، إذ إن الأب يتوجه بين الحين والآخر إلى القرية حيث يبيع الفحم. أما الإبن فيذهب إلى المدرسة في فترات متقطعة، فيما تعكف الأم وابنتاها على صنع الحطب.
إن هذه العائلة المؤلفة من خمسة أشخاص، والتي تعيش وحدة مرعبة، هي حجر الأساس في هذا الفيلم الذي سيعلمنا بسرعة أن أبوشكري أتى بعائلته هنا، ضد إرادة أولاده. محافظا على سر هروبه هذا معتبرا أن عليهم - ومهما كان الثمن - أن يبقوا في ذلك المنفى «الطوعي»... ثم ذات مرة يقرر الأب ان يحضر الماء من نبع مجاور الى مكان اقامتهم عبر قناة ينشئها... لكن الأم وابنتيها يعارضن، فيما الابن يسخر من كل شيء. ويحدث أن يصل الماء... لكنه بدلا من أن يزيد رضاهم عن عيشهم يوقظ كل أحاسيسهم وتوقهم إلى الحرية، في الوقت الذي يعجّل من حدوث تلك الفاجعة التي - من دون علم منهم - كانت خيوطها بدأت تتشابك منذ حين.
ما هي تلك الفاجعة؟
خاتمة الفيلم ستقولها لنا... وإن بشكل يحمل من البعد الرمزي أكثر مما يحمل من البعد الواقعي. وهو بعد رمزي سمح لكثر من الذين كتبوا عن الفيلم بالقول إنه يعادل القضية الفلسطينية نفسها، فيما قال آخرون إن المسألة معاكسة تماما. ويقينا أن متفرجي الفيلم في عرضه الباريسي، لن يجدوا أنفسهم أقل حيرة تجاه «عطش» توفيق أبووائل، من متفرجي «كان».
باريس - الوسط
من ذا الذي يطير في سماء الدار البيضاء، المدينة المغربية التي يعرفها معظم الناس باسم كازابلانكا؟ العقبان وطيور النحس ربما... ولكن ليس الملائكة بالتأكيد. أو هذا، على الأقل، ما يقوله لنا الفيلم المغربي «الملائكة لا تحلق في سماء الدار البيضاء» الذي عرض ضمن تظاهرة «أسبوع النقاد» «في الدورة الأخيرة لمهرجان كان السينمائي»، وها هو اليوم يعرض في مهرجان السينما العربية في باريس، ممثلا المغرب إلى جانب فيلمين آخرين، ما يجعل حصة المغرب من العروض الرسمية في المهرجان الباريسي، حصة الأسد. والحال ان وفرة العروض المغربية تعكس تحسنا طرأ على الانتاج السينمائي في المغرب في الآونة الأخيرة. وهو تحسن جعل فيلمين مغربيين يمثلان السينما العربية كلها في دورة العام الماضي لمهرجان «كان نفسه»: فيلم «العيون الجافة» لنرجس نجار، وفيلم «ألف شهر» لفوزي بن سعيدي. وإذا كان الفيلم الأخير لفت الأنظار حقا في تلك الدورة، فإن «الملائكة...» كافٍ من حوادث كان اللافتة في دورة هذا العام، ما يؤكد الخط التصاعدي للسينما المغربية.
غير أن هذا التأكيد لا يعني طبعا أن التجديد مؤكد وحاسم... إذ نجد أنفسنا هنا أمام فيلم يستعيد بعض الأفكار والرسائل القديمة المعهودة، وعلى رأسها فكرة أن المدينة غول يلتهم الريفيين الطيبين. والمدينة هنا تمثلها الدار السينمائية، كبيرة مدن المغرب... أما الريفيون الطيبون فيمثلهم سعيد، الذي وجد نفسه على رغم تركه ريفه الوديع إلى تلك المدينة لكي يجد لنفسه عملا ولعائلته مستقبلا. لكن زوجة سعيد ترفض الفكرة منذ البداية مفضلة لزوجها البقاء إلى جانبها. وهو إذ لا يذعن لمشيئتها ويهاجر، تمطره هي بالرسائل متوسلة له بأن يعود، وفقط لأن «كازابلانكا» مدينة تلتهم البشر التهاما. وفي المدينة إذ يعمل سعيد خادما في مطعم ويرتبط بصداقة مع إسماعيل وعثمان اللذين أوضاعهما هي أوضاعه نفسها، يعيش سعيد ضائعا، ممزقا بين رغبته في البقاء هنا وتوسلات زوجته... ولاسيما حين تدعوه في رسالة أخيرة إلى العودة لأنها توشك على إنجاب طفلهما... فهل سيذعن سعيد هذه المرة، أم سيبقى؟ على رغم أن الفيلم نفسه يقول لنا من دون مؤاربة أن زوجة سعيد على حق وأن هذه المدينة وربما كل مدينة - وهم في وهم؟
إن الفيلم يختتم خطابه بالقول إن المدينة انتصرت على الرجال الثلاثة... فهم إذ قصدوها حاملين الأمل معتقدين أن في إمكانهم أن يطيروا في سمائها كما تقول الأغنية. مثل الملائكة، ها هم يكتشفون، أن الموت والخراب وطيورها هي كل ما يحلق في تلك السماء... وذلك في كل بساطة لأن سعيد إذ يقرر في نهاية الأمر العودة حتى يكون إلى جانب زوجته، يكون الأوان قد فات: لقد ماتت قبل وصوله إليها، بل قبل وصولها هي إلى المستشفى. أما الفيلم فينتهي على الرجال الثلاثة مهزومين خائفين في نظرة سوداوية تخلو - علي أية حال - من أي قسط من الشاعرية... والمنطق أيضا.
ومحمد عسلي مخرج الفيلم، يقول لنا إن المدينة والموت هنا ليسا أكثر من كناية مزدوجة... وان مراده من الفيلم كله ليس أن يقول سوءا في مدينة الدار البيضاء، بل ان الحياة في المغرب كله باتت شديدة الصعوبة بل أقرب إلى المستحيل.
وفيلم «الملائكة لا تحلق في الدار البيضاء» هو الفيلم الروائي الطويل الأول لهذا المخرج المولود في العام 1957 في مدينة الدار البيضاء نفسها... إذ كان بلا مساعد للإخراج ومنتج لعدد من الأفلام الإيطالية التي صورت في المغرب. ويقول محمد عسلي إن «فكرة الفيلم جاءتني حين شاهدت ذات مرة امرأة وأطفالها يخرجون من حمام تركي سعداء وشديدي النظافة. ثم كان عليهم أن يعبروا فسحة من الأرض موحلة يومها كنت في سيارة فوقفت لأدعهم يمرون... ولكن كان ورائي سائق سيارة أخرى لم يبطئ سيره فغطى الجميع بالوحل... وهذا المشهد كان بالنسبة إلي أيضا كناية ورمزا، ولم أنسه أبدا»
العدد 660 - السبت 26 يونيو 2004م الموافق 08 جمادى الأولى 1425هـ