احتلت عناوين وافتتاحيات الصحف العربية يوم الثاني من يوليو/تموز 4002 مسألة محاكمة صدام حسين. ومن أولى ملاحظات المراقبين، ان صدام تمسك أكثر ما تمسك بموقعه الرئاسي، ورفض أن يخاطب إلا بوصفه رئيس الجمهورية العراقية، مكررا عبارة "أنا رئيس جمهورية العراق". وشهدت افتتاحيات الصحف العربية وصفا دقيقا لكل حركة أو إيماءة من صدام، ويعود ذلك إلى ان ما بثته الفضائيات على الهواء جاء في غالبيته "صامتا"، لكن إجماعا على ان صدام أعاد إلى الأذهان صورته الأولى من حيث "الإرعاب" و"الجبروت". وخلافا لموقف المثقفين، يبدي المواطن العادي استياءه لمحاكمة صدام ويسأل "لماذا يحاكم صدام وليس شارون؟" فهذا الأخير يرتكب تجاوزات فظيعة ضد الفلسطينيين لكنه مازال حرا طليقا. لكن غالبية المعلقين العرب وإن أكدوا ضرورة محاكمة صدام اشترطوا "العدالة" في المحاكمة، في حدها الأدنى. وباستثناء الصحافة الكويتية التي "نكأ صدام جروح موطنها" فثارت مستعيدة ذكريات الغزو في العام 0991 إذ رش صدام على جرح الكراهية العراقي المتقيح تجاه الكويتيين ملحا جديدا كما لاحظ عبدالباري عطوان في "القدس العربي". فإن عددا كبيرا من المعلقين شككوا في المحكمة لأنها من "صنع أميركي" فرئيس المحكمة هو سالم الجلبي شريك المستوطنين الإسرائيليين ولن يستقيم العدل إلا بإخراجه من قاعة المحكمة كما يقول رئيس تحرير "السفير" اللبنانية، جوزيف سماحة. واعتبر البعض ان الخطوة الأولى لحكومة إياد علاوي ليست موفقة، فلا يمكن أن يعاد تأسيس دولة العراق في محكمة، كما يكتب ساطع نورالدين في "السفير"، كما يصعب أن يبنى المجتمع العراقي بواسطة القضاء، ويستحيل أن تتشكل الهوية العراقية على حكم بالإعدام... حتى ولو كان المتهم والمدان هو جلاد العراق السابق صدام حسين.
صدام سيف على العرب
وجاء مانشيت "الخليج" الإماراتية: "صدام يتمسك بأخطائه ويرفض التوقيع على لائحة الاتهام"، فيما أكدت افتتاحية "البيان" الإماراتية، ان "الشعب العراقي شاهد إثبات"، مبدية أسفها من ان صدام كان سيفا مسلطا ليس على شعبه فحسب بل على العرب والمسلمين، لكن الصحيفة أملت أيضا أن ينال محاكمة عادلة والأهم من ذلك نأمل ألا تكون المحاكمة كما قال المعلق البريطاني روبرت فيسك مسرحية تلهي الشعب العراقي والعالم عما يحدث في الحياة اليومية للمواطن العراقي الذي لا يجد القوت! وتمنت "الوطن" القطرية، أن يأتي اليوم الذي تسقط فيه كل الأنظمة الاستبدادية في العالم العربي والإسلامي، لكن تحقيق هذا الهدف ينبغي أن يكون في أيدي الشعوب وبإرادتها لا عن طريق تدخل عسكري خارجي. ورجت أن يلقى دكتاتور العراق السابق محاكمة عادلة وإلا فإن السلطة العراقية ستقع في الآثام نفسها التي وقع فيها هو من حيث العبث بمبادئ سيادة القانون كما تمنت أن تكون المحاكمة إيذانا لإحلال الديمقراطية في العراق في عهد من الاستقرار الأمني والسياسي. وعنونت "الوفد" المصرية "محاكمة هزلية للرئيس العراقي الأسير". واستغرب طاهر العدوان في "العرب اليوم" الأردنية، ان وسائل الإعلام العربية لم تستخلص العبر عندما طبلت وصفقت للاحتلال قبل 51 شهرا منساقة وراء أكاذيب الديمقراطية والتغيير ونراها اليوم تبلع الطعم مرة أخرى من خلال تصوير "محاكمة صدام" بأنها مظهر من مظاهر استعادة العراقيين للسيادة بينما الواقع ان ما يجري هو "غوانتنامو عراقي" يرفع الحرج عن إدارة بوش. واعتبرت "الأخبار" المصرية، ان محاكمة صدام ليست الحل لمشكلات العراق... فعلى الولايات المتحدة إذا كانت تكترث بمصير العراق وشعبه أن تضع خطة محددة لإنهاء الاحتلال وسحب جنودها وأن تحاكم الجنود الذين ارتكبوا جرائم التعذيب الجنسي ضد السجناء العراقيين وأن تضمن الأمن للعراقيين خلال الفترة التي يستمر فيها الاحتلال. باختصار على الولايات المتحدة وإدارة بوش أن تثبت للعالم انها لم تقم بغزو العراق طمعا في النفط ورغبة شخصية في الانتقام من صدام الذي حاول قتل بوش الأب. كما انتقدت الأخبار، المحكمة لأن المسئول عنها من عائلة الجلبي المعروفة بعلاقاتها الوثيقة بالأميركيين. لكن رئيس تحريرها جلال دويدار شن حملة على السفاح صدام واعتبر انه كان بإمكان هذا السفاح الدموي إجهاض المؤامرة الأميركية لو انه استمع إلى نصائح الزعماء العرب وعلى رأسهم الرئيس مبارك ووافق على الانسحاب من الكويت... ولكنه ركب رأسه وخضع لخداع وتضليل "سي آي إي" وعمليات غسل المخ التي تعرض لها لإشباع أطماعه وطموحاته.
طاغية في مواجهة شعبه
ورأى رئيس تحرير "الجمهورية" المصرية سمير رجب، انه لابد وأن محاكمة صدام ستثير ردود فعل متباينة داخل الوطن العربي أو خارجه! وعلى رغم أن صدام ارتكب فعلا أقذع الجرائم في تاريخ الإنسانية فإن الجميع بمن فيهم الذين ذاقوا الأمرين على يديه كانوا يتمنون أن تأتي الإطاحة به... من جانب أبناء الوطن الحقيقيين الذين يقدمونه من دون غيرهم إلى محكمة وطنية عادلة شكلا ومضمونا. ورأى رجب، انه إذا كان صدام هو أساس البلاء بما اقترفه من آثام ضد شعبه. فإن طاغية حل محل طاغية ضمن مسرحية هزلية كئيبة ومستفزة... بينما المشاهدون الوحيدون وعلى رأسهم الياور وعلاوي... ليس في وسعهم أن يفعلوا شيئا سوى أن يحتسوا الشاي أو القهوة خلال فترة الاستراحة...!! وعلى رغم ان "الوطن" السعودية، لاحظت بداية ان الولايات المتحدة أسقطت عن صدام صفة أسير حرب، واعتبرت أن في ذلك تجاوزا قانونيا، أكدت ان صدام الآن في مواجهة أمام خصومه التاريخيين، أي جموع الشعب العراقي الذي طالما اكتوى بنار حكمه. كما أكدت وجوب ألا تقتصر محاكمته على أبناء الشعب العراقي فقط، فجرائمه امتدت لتطول جميع أبناء الأمة العربية قاطبة وامتدت إلى دول الجوار... ولكن الأهم أن يترك الدور للنظام العراقي الجديد، محاكمته طبقا للقوانين المرعية، بعيدا عن الشعارات البراقة.
فتح جرح الكراهية الكويتي
ولاحظ عبدالباري عطوان في "القدس العربي" الفلسطينية التي تصدر من لندن، ان الرئيس العراقي صدام حسين لم يخاطب المحكمة وإنما الرأي العام العراقي بصورة خاصة، والرأي العام العربي والإسلامي. كما لاحظ ان أداء الرئيس العراقي كان محسوبا بعناية فائقة، مثلما كان مظهره، شجاعا جريئا واثقا من نفسه، ولم يبد أي ندم على غزوه للكويت، بل إنه أراد أن يفتح جرح الكراهية العراقي المتقيح تجاه الكويتيين ويرش عليه ملحا جديدا عندما وصفهم بالكلاب. وعلى الجانب الآخر، لاحظ ان المحاكمة شكلت بداية سيئة مرتبكة للعراق والرعب كان سيد الموقف في تلك المحكمة المهزلة، حتى الرئيس بوش التزم الصمت وكذلك حليفه بلير على غير عادتهما، فمن المفترض ان هذا يوم تاريخي، يستحق الاحتفال ولكن حتى المنتصرين لا يرونه كذلك. ورأى ان الرئيس العراقي خرج فائزا في الجولة الأولى من محاكمته، وسجل الكثير من الأهداف في مرمى أعدائه واستطاع أن يظهر بمظهر البطل وليس الضحية... ساخرا من ان الأخ الأميركي الذي يدير هذا العرض المسرحي لم يتوقع هذه النتيجة. وتوقع عطوان، أن يبقى صدام قنبلة موقوتة، ومصدر لعنة، تطارد الأميركان والكويتيين... انها لعنة العراق، ولعنة صدام حسين. وبعد أن أكد زهير اندراوس في أسبوعية "كل العرب" الفلسطينية ان رئيس الحكومة المؤقتة علاوي، الذي عينه الاحتلال الأميركي، لا يتمتع بأي شرعية قانونية أو شعبية، وان علاوي اعترف بعظمة لسانه بأنه كان عميلا لـ "سي آي إي"، وأكد انه يؤيد محاكمة صدام بتهمة ارتكاب جرائم حرب، سأل عن الفرق بين جريمة ضد الشعب العراقي وبين التآمر عليه مع القوى الامبريالية التي احتلت العراق وانتهكت ارضه وعرضه، وهي تهمة تسمى في القانون الخيانة العظمى. معتبرا أن تقوم زمرة من عملاء المخابرات الأميركية بمحاكمته، فهذه هي قمة الوقاحة والصلافة... وأكد انه على رغم الأخطاء التي ارتكبها صدام، الا اننا لا يمكننا ان نتغاضى عن انه رفع رأس الأمتين العربية والإسلامية وتحدى الأميركيين والدول العربية المتآمرة والمتأمركة، وواصل مشواره من أجل تحويل العراق إلى بلد عربي يرفض الرقص على أنغام الاستعمار الأميركي. ولاحظت "السفير" ان الاتهامات التي وجهت إلى صدام "تستثني الحرب على إيران"، وفي وصف لافت لصدام وهيئة المحكمة وإطار المحاكمة سجلت "السفير" بضعة ملاحظات: ظهر صدام متماسكا ومتحديا ومنكرا أنه لم يعد "الرئيس"... بدا ثاقب النظرات هادئا، وأهم من كل شيء غير منحن. جاءت صوره، وهي الأولى له منذ اعتقاله في 31 ديسمبر/ كانون الأول الماضي، مناقضة لتلك التي التقطت له وهو داخل حفرة الهروب... باختصار، لقد كان أمام القاضي رجلا مختلفا: في إحدى المرات، رفع صدام قبضته في الهواء وألقى محاضرة على قاضي التحقيق. أما رد صدام فقد شكل هجوما طاول الرئيس بوش، ولم يأت على ذكر الحكومة الانتقالية المؤقتة التي تحاول أن تكسب من ظهوره في قفص بعضا من الصدقية والشرعية. ومن ملاحظات السفير، أيضا، ان قاضي التحقيق هو نفسه الذي أصدر مذكرة التوقيف بحق الزعيم الشيعي مقتدى الصدر. وهذا ما لاحظته أيضا مانشيت "العرب اليوم" الأردنية، وعنونت "المستقبل" اللبنانية "صدام في قفص الاتهام العراقي... من سيد القصر إلى سجينه". ولفتت "النهار" البيروتية التي لم تسبقها صحيفة في شريط الصور الذي تصدر صفحتها الأولى وفيه "وجه صدام" بمختلف التعابير التي ارتسمت على وجهه طوال الجلسة. وفي "مانشيت" لفتت إلى ان "محاكمة صدام تبدأ بـ 7 تهم و63 طنا من الوثائق". وتعليقا على المحاكمة، انتقد رئيس تحرير "السفير" جوزيف سماحة، أن يكون سالم الجلبي رئيسا للمحكمة. ورأى انه لا يمكن أن تستقيم محاكمة عادلة لصدام، إلا بعد إبعاد سالم الجلبي. مشددا على ان هذا شرط ضروري ولو انه غير كاف. ورجح أن يقال كلام كثير في صدام ومحاكمته، وضرورتها. لكنه أكد انه من أجل أن تستقيم المحاكمة يتوجب البدء، فورا في إبعاد سالم الجلبي. فهو نسيب لـ "لص المصارف" الشهير. موضحا ان رابط القرابة ليس عيبا في حد ذاته غير ان سالم الجلبي موجود، إذ هو، بفعل رابط القرابة هذا، ونتيجة العلاقات التي نسجها قريبه مع "المحافظين الجدد" في الولايات المتحدة ومع امتداداتهم في أقصى اليمين الإسرائيلي. وتساءل أبمثل هذا القاضي نحاكم صدام؟ وختم سماحة، مقاله مشددا على ان عزل سالم الجلبي مدخل إجباري لمن يريد، فعلا، وعبر المحاكمة، مراجعة العقود الدامية في العراق. ودعا لإخراج شريك المستوطنين الإسرائيليين من قاعة المحكمة حتى يستقيم العدل! موضحا ان أمام صدام بحث آخر. ورأى ساطع نورالدين في "السفير" انه لا يمكن أن يعاد تأسيس دولة العراق في محكمة، وان المحاكمة تأخرت بعض الشيء، لأن صدام صار من التاريخ فعلا، ولأن الحكومة المؤقتة لا تمثل المستقبل أبدا، ولأن المحتل لايزال الحقيقة الوحيدة التي لا تقبل الجدال، ولن تمثل أمام المحكمة على رغم الصلة العضوية الوثيقة بين الاحتلال وبين الرئيس العراقي السابق. وشدد نورالدين، على انه لا يمكن أن يعاد تأسيس دولة العراق في محكمة، كما يصعب أن يبنى المجتمع العراقي بواسطة القضاء، ويستحيل أن تتشكل الهوية العراقية على حكم بالإعدام... حتى ولو كان المتهم والمدان هو جلاد العراق السابق صدام حسين
العدد 670 - الثلثاء 06 يوليو 2004م الموافق 18 جمادى الأولى 1425هـ