العدد 672 - الخميس 08 يوليو 2004م الموافق 20 جمادى الأولى 1425هـ

وسطية الإسلام في التعامل مع أهل الكتاب

أحكام الإسلام لأهل الكتاب منذ أن نزل الإسلام على النبي محمد (ص) وطبقه كنظام شامل يتناول مظاهر الحياة جميعا، وضع قواعد التعامل البشري والإنساني مع كل البشر، إذ يتجاور الناس والملل والنحل كما يتجاورون من مختلف الألوان والألسنة، وخص النظام الإسلامي شركاء الوطن من غير المسلمين بأحكامه، ومنذ دولة الإسلام الأولى في المدينة المنورة ودوله التي توالت منذ وفاة الرسول (ص) حتى هذه الأيام، وقد حدد محمد سليم العوّا في بحث له في كتابه «في النظام السياسي للدولة الإسلامية» ثلاثة أصول في التعامل مع هذا الموضوع:

1- الأصل الأول: تحكيم لنصوص الشريعة الواردة في القرآن الكريم والسنة الصحيحة.

2- الأصل الثاني: قبول ما تقتضيه المشاركة في الدار، أو الوطن بتعبيرنا العصري، فكل ما حقق مصالح المشتركين معا فيه جاز، وكل ما أهدرها فهو بالإهدار أولى وأحق.

3- الأصل الثالث: إعمال روح الأخوّة الإنسانية بدلا من إهمالها، فكل قول أو رأي أو فعل نافى روح الأخوّة، فقد غفل صاحبه عن أصل من أصول الإسلام عظيم، فبالنسبة للأصل الأول وهو تحكيم الشريعة الواردة في القرآن الكريم والسنة الصحيحة.

في القرآن الكريم

في القرآن الكريم دستور العلاقات بين المسلمين وغيرهم يأتي قول الله عزو وجل «لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين ولم يخرجوكم من دياركم أن تبروهم وتقسطوا إليهم إن الله يحب المقسطين. إنما ينهاكم الله عن الذين قاتلوكم في الدين وأخرجوكم من دياركم وظاهروا على إخراجكم أن تولوهم ومن يتولهم منكم فأولئك هم الظالمون» (الممتحنة:9).

والبر: هو الفضل والخير، والقسط هو العدل، فهما بنص القرآن الكريم مطلوبان من المسلمين للناس كافة، بل للخلق كافة، يستوي في ذلك من الناس من آمن بالإسلام ومن كفر به، اللهم إلا إذا كانوا يقاتلونه في دينه، ويخرجونه من داره أو يظاهرون على إخراجه، وهذا الدستور القرآني عام يشمل غير المسلمين أيا كان دينهم، أما أهل الكتاب: اليهود والنصارى فلهم أحكام أكثر تفصيلا لما يليق بهم من البر وما يجوز، بل ما يندب القرآن إليه، من الود. فطعامهم للمسلمين مباح، وطعام المسلمين مباح لهم، «وطعام الذين أوتوا الكتاب حل لكم وطعامكم حل لهم، والمحصنات من المؤمنات والمحصنات من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم إذا آتيتموهن أجورهن محصنين غير مسافحين ولا متخذي أخدان» (المائدة:5). ونكاح نسائهم جائز، بالآية السابقة نفسها.

كما أوصى القرآن بجدال أهل الكتاب بالتي هي أحسن «ولا تجادلوا أهل الكتاب إلا بالتي هي أحسن إلا الذين ظلموا منهم، وقولوا آمنا بالذي أنزل إلينا وأنزل إليكم وإلهنا وإلهكم واحد ونحن له مسلمون» (العنكبوت:46).

أما عن الآيات التي وردت عن النهي عن موالاة غير المسلمين أو غير المؤمنين تحكمها ضوابط كثيرة منها:

1- أن النهي ليس عن اتخاذ المخالفين في الدين أولياء بوصفهم شركاء وطن أو جيران دار أو زملاء حياة، إنما هو عن تولهم بوصفهم جماعة معادية للمسلمين تتخذ من تحيزها الديني لواء تستجمع به قوى المناوءة للمسلمين والمحادة لله والرسول.

2- إن المودة المنهي عنها هي مودة المحاربين لله ورسوله، لا مودة مجرد المخالفين ولو كانوا سلما للمسلمين.

3- إن غير المسلم الذي لا يحارب الإسلامي قد تكون مودته واجبة وصلته فريضة دينية، وذلك شأن الزوجة الكتابية وأهلها الذين هم أخوال أبناء المسلم وجدته وجده.

4- إنه لاشك في أن الإسلام يعلي الرابطة الدينية على كل رابطة سواها، ولكن ذلك لا يعني أن يلقي المسلم بالعداوة إلى غير المسلم لمجرد المخالفة في الدين أو المغايرة في العقيدة، بل الأصل هو المودة والبر، والاستثناء - عندما تقوم دواعيه وأسبابه - أن يمتنع المسلم عن موالاتهم أو مودتهم، انتصارا لدينه، وانحيازا لأهل عقيدته.

في الهدي النبوي

باشر النبي (ص) رئاسة الدولة الإسلامية الأولى في المدينة المنورة بعد هجرته إليها، إذ أمر بكتابة الصحيفة التي تنظم العلاقة بين المسلمين وغير المسلمين من سكان المدينة التي عرفت باسم «صحيفة المدينة» أو «دستور المدينة».

ذكرت هذه الصحيفة أن «المؤمنين أمة من دون الناس»، وأن «اليهود أمة مع المؤمنين» وأن «أهل الصحيفة بينهم البر دون الإثم» وانهم يكونون «يدا على من دهم يثرب» وأن اليهود ينفقون مع المؤمنين ماداموا محاربين وأن بينهم «النصر والأسوة» وهما هنا بمعنى المساواة وأنه «ما كان من حدث بين أهل الصحيفة أو اشتجار يخاف فساده فإن مرده إلى الله وإلى محمد رسول الله (ص)» وأنه «لا يخرج من أهل المدينة أحد إلا بإذن محمد» وأن أهل الصحيفة «يتعاقلون معاقلهم الأولى بالقسط بين المؤمنين والمعروف» إلى غير ذلك من الأمور الذي ذكرت تفصيلا في مواضعها من كتب تاريخنا وكتب الحديث، وكتب الوثائق النبوية، وكتب النظام السياسي الإسلامي المقارن، فهذه الوثيقة تجعل غير المسلمين المقيمين في دولة المدينة مواطنين فيها لهم من الحقوق مثل ما للمسلمين، وعليهم من الواجبات مثل ما على المسلمين وهذه الصحيفة هي أول دستور مدوّن في التاريخ كله لم يسبق إلى مثله أحد ولم ينسج على منواله أحد، إلى أن صنع الإنجليز بعد ثورتهم في سنة 1215م وثيقتهم التي سموها (العهد الأعظم)، وعلى أساس نصوص هذه الوثيقة النبوية مضت الحياة في المدينة المنورة إلى أن نقضت يهود العهود وهم «أو كلما عاهدوا عهدا نبذه فريق منهم» (البقرة:100) وهم يقولون عن الناس كافة «ليس علينا في الأميين سبيل» (آل عمران:75). وكان بعد نقضهم العهد أن تم طردهم من المدينة المنورة ثم من جزيرة العرب كلها.

عقد الذمة والجزية

عقد الذمة والجزية عنوانان يثار حولهما لغط كبير وتعرضا لتشويه متعمد على أساس أنهما ينتقصان من حقوق المواطنة وأنهما تمييز ضد المواطنين في الدول الإسلامية من غير المسلمين وهو أمر غير صحيح، ولذلك نحتاج إلى شرح كل منهما.

عقد الذمة

وهو عقد أنشأه المسلمون بعد فتح البلاد التي دخلوها لتنظيم العلاقة مع غير المسلمين ممن لم يحاربوهم وهم يعيشون بينهم، وكان الأصل فيه أن المسلمين يلتزمون بحماية أهل البلاد الباقين على دينهم وحماية دور عبادتهم، وعدم التدخل في شأن اختيار رؤسائهم الدينيين وحماية حقوقهم كافة، وأن يدفع هؤلاء فوق الضريبة مقدارا من المال يتراوح بين درهمين ودينارين يؤديه كل قادر على حمل السلاح، واجدا هذا المال فوق حاجته وحاجة أسرته (ما يسمى الجزية).

وكان لا يدفع الجزية شيخ كبير ولا راهب ولا قس ولا امرأة ولا صبي، لأن هؤلاء جميعا لا يقاتلون.

لقد خيّر الإسلام أهل البلاد التي فتحها المسلمون بين الدخول في الإسلام عن قناعة وحرية مطلقة، أو البقاء على دينهم، فمن اختار الإسلام بإرادته الحرة صار مسلما تطبق عليه أحكام الإسلام، ومن اختار أن يظل على دينه فقد استجاب له الإسلام، غير أنه طُلب منه دفع الجزية... والجزية ما هي إلا ضريبة عامة بالقدر السابق ذكره يدفعها الذمي للدولة.

الجزية

نظام عُرف قبل الإسلام وأنشأه الفرس وكان يسمى بالفارسية «كزيت» واستخدمه الجميع الفرس والروم والعرب والمسيحيون والمسلمون.

والجزية ليست من مستحدثات الإسلام والدولة الإسلامية، فقد فرضها الإغريق على سكان آسيا الصغرى في القرن الخامس قبل الميلاد، أي قبل الإسلام بنحو ألف عام، وكذلك فرضها الرومان والبيزنطيون والفرس على الأمم التي أخضعوها لحكمهم، وكانت أكثر بكثير من مقدار الجزية في عصر الدولة الإسلامية، وكانت الجزية في عصر الدولة الإسلامية، وكانت الجزية في دول الروم والبيزنطيين والفرس تؤخذ وبالقوة وفوق طاقة البلاد المحتلة وكانت تؤخذ كضرائب للدولة المركزية، وكانت تؤخذ ثلاث مرات في السنة. وقال المؤرخ مان في كتابه «تاريخ مصر في عهد الرومان»: إنهم فرضوا ضرائب على الرؤوس من الأقباط أي على كل نفس حية وعلى الحيوانات والمنازل، وأكثر من ذلك فرضوا ضرائب على الأثاث الموجود داخل المنازل، هذا خلاف الضرائب العادية على الزراعة والمحاصيل والتجارة، ولكن وصلت ذروة الكراهية للدولة الرومانية عندما فرضوا ضرائب على الموتى بحيث لا يدفن أي ميت ولا يصرح بدفنه إلا إذا دفع ضريبة الموتى.

المواطنة في الفكر

الإسلامي الحديث

تطور مفهوم المواطنة في العالم الإسلامي حين اشترك غير المسلمين في جيش الدولة وبذلك سقطت الجزية، لأنها كما ذكرنا هي ضريبة نظير عدم الاشتراك في الجيش، وحدث ذلك في مصر العام 1856م في عهد سعيد باشا حينما أعلن عن سقوط الجزية عن غير المسلمين والسماح لهم بالاشتراك في الخدمة العسكرية، فكافح أهل البلاد جميعا مسلمون ومسيحيون ضد المستعمر الأجنبي ورووا الأرض بدمائهم، وشاركوا في الحركات الوطنية التي قادت الكفاح حتى تحررت الأوطان، ولما نجحوا في ذلك اتخذوا وثائق لتنظيم الحياة في هذه الدول «الدساتير» قامت على المساواة بين المواطنين، وهو لفظ لم يعرفه لساننا العربي القانوني أو الشرعي (الفقهي) قبل نشأة هذه الدول، وإن عرفت المعنى، ونصت معظم هذه الدساتير على منع التفريق بين المواطنين على أساس العقيدة الدينية.

ورضي بذلك المسلمون وغير المسلمين على السواء، وعاشوا في ظل تلك الدساتير حين احترمت كلمتها، وفي ظل الطغيان الذي أهدرها، من دون أن تثور بينهم ثائرة التفريق بين مسلم وغير مسلم إلا فيما لابد منه في شئون الولايات الدينية المحضة، والزواج وما إليه.

وحين بدت بوادر الصحوة الإسلامية الحاضرة، ودعا زعماء هذه الصحوة وقادتها وعلماؤها إلى تحكيم الشريعة، في حياتهم بشكل أكثر وأشمل، أظهر بعض غير المسلمين خوفا من أن يؤدي ذلك إلى الذهاب بما تقرر قانونا وواقعا مقبولا، من حق المساواة بينهم وبين إخوانهم المسلمين في الوطن الواحد، وجاهر بعض الكارهين للإسلام ممن يحملون أسماء المسلمين، بأن قصد هذه الدعوة هو العودة إلى عهد الذمة وعقدها انتقاصا من حقوق غير المسلمين وحرياتهم وحرمات دور عبادتهم وعدم الاحترام لقوانين أحوالهم الشخصية أو العائلية، (وعهد الذمة كما سبق تعريفه، بريء من ذلك كله).

وردّ أ

العدد 672 - الخميس 08 يوليو 2004م الموافق 20 جمادى الأولى 1425هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً