العدد 690 - الإثنين 26 يوليو 2004م الموافق 08 جمادى الآخرة 1425هـ

دارفور... أزمة تتجاوز السودان

وليد نويهض walid.noueihed [at] alwasatnews.com

كاتب ومفكر عربي لبناني

أزمة إقليم دارفور في السودان تفتح القراءة على أكثر من باب. فهل الضغوط الأميركية المدعومة من الاتحاد الأوروبي «صافية النية» وتأتي لدوافع إنسانية أم ان هناك دوافع سياسية تكمن وراء هذا الحماس الأخلاقي لمساعدة أهالي منطقة يعانون من الجوع والتشرد والطرد من أرضهم؟ وهل النظام السوداني يتحمل مسئولية ما جرى ويجري أم انه ضحية مؤامرة تستهدف «دولة الإسلام» كما صرح بذلك الرئيس عمر البشير؟

الأزمة تجمع بين هذا وذاك، وهي كبيرة تتجاوز حدود السودان. فهناك فعلا مشكلة إنسانية تفاقمت أخيرا وجرى دفعها دوليا نحو المزيد من التأزم لايجاد ذريعة للتدخل العسكري. كذلك يتحمل النظام مسئولية إهمال مناطق أعطت بعض الجهات المحلية ذريعة للتحرك مستفيدة من الاتفاق الذي وقعته الخرطوم مع قائد الحركة الانفصالية في الجنوب جون قرنق. فاتفاق السلام كما يبدو فتح شهية كل الأطراف السودانية للتحرك والمطالبة بحقوق هي شرعية في أساسها ولكن النظام تجاهلها بحكم تركيزه على مواجهة حركة التمرد في الأقاليم الجنوبية.

الأزمة مركبة. فهناك الجانب الإنساني الشرعي الذي تستغله القوى الأجنبية والدول الكبرى وغيرهما من جهات دولية في اعتباره ذريعة للتدخل والانقاذ. وهناك الجانب السياسي الذي يرى في التدخل الخارجي خطوة ضرورية لتمرير مشروعات تقسيمية خطيرة تهدد الاستقرار الجغرافي والتوازن التاريخي الذي صاغ شخصية تلك الدائرة السياسية في القرن الإفريقي وامتداداته نحو الهضبة الإثيوبية وصولا الى بحيرة فكتوريا (منابع النيل) ومنها الى بحيرة تشاد وذاك الشريط التجاري (قوافل الحجاج) الذي كان ممتدا من غرب إفريقيا الى شرقها وانهار بعد قرون من العمران.

الأزمة إذا كبيرة ولها صلة بالموقع الاستراتيجي للسودان. فالسودان أكبر دولة إفريقية ويتركب سكانيا من مزيج من الأقوام والشعوب والقبائل ويتمتع بمساحة جغرافية خصبة ومياه وشلالات ومساقط ينابيع تغذي هذا الشريان الحيوي (نهر النيل) الذي قامت على ضفافه أقدم حضارات الإنسان.

السودان اليوم يتعرض لأزمة وأيضا لمؤامرة كما ذكر الرئيس البشير. فالأزمة هي المدخل السياسي لتمرير مؤامرة خطط لها منذ زمن بعيد وأدت تقليديا الى عدم استقرار السودان بسبب اختلاط مشكلاته وتدافعها من دون قدرة على التوصل الى إنتاج سلطة تدير هذا البلد الممتد جغرافيا ويحتاج الى تنمية دائمة حتى تنجح في ضبط أطرافه وحدوده.

السودان أرض السواد (الغابات الخضراء الكثيفة) وهو في تكوينه الجغرافي - البشري يشكل نقطة لقاء تجمعت فيها تاريخيا مجموعات متنوعة من الثقافات المختلفة وتعايشت ضمن صيغ موروثة أسست حالات من التعايش والتعارف قلصت من إمكانات اضطراباته.

هذه الصيغ كما يبدو لم تعد صالحة كأطر دستورية لضبط التوازن الداخلي. فالدولة ضعيفة وغير قادرة على بسط نفوذها وتأسيس علاقات سياسية مع تجمعات مهمشة أو تعيش على هامش حدود الدولة وأطرافها.

هذا الارتخاء في امتدادات الدولة أعطى فرصة للتدخل من دول الجوار في الضغط على المركز (الخرطوم) واستنزافه في حروب لا تنقطع، الأمر الذي أدى في النهاية الى اضعاف قبضة السلطة وتعطيل دورها في القطاعات الأخرى وتحديدا تلك المسئوليات الاجتماعية والوظائف الاقتصادية.

المشهد الذي ظهر حديثا في دارفور يمكن رؤية ما يشبهه في الكثير من مناطق إفريقيا وليس السودان فقط، ولكن السودان يتمتع بخصوصية غير موجودة في معظم الدول الإفريقية. وهذه الخصوصية تعتبر قوة للدولة في فترات السلم ولكنها تتحول الى نقاط ضعف للدولة في فترات الحروب والاضطراب، مضافا إليها الضغوط الخارجية على توازنات الداخل.

قديما تحدث ابن خلدون عن الدولة والعصبية معتبرا أن كثرة العصبيات تضعف الدولة وتهدد وحدتها وتوازنها. والسودان تقليديا يعاني كدولة حديثة من عصبيات كثيرة لم تنجح السلطة في دمجها أو تدوير شوكاتها أو صوغ سياسة تعرف كيف تدير تلك المجموعات التي وحدها الإسلام تاريخيا، وجاءت الدولة المعاصرة لتعيد تفكيكها في سياقات ايديولوجية متنافرة. النظام الحالي يتحمل مسئولية سياسية كبيرة في ايصال الوضع الى هذه المرتبة من التأزم ولكنه لا يتحمل المسئولية التاريخية. فالسودان هكذا منذ تأسيسه والنظام ورث الدولة عن عهود سابقة ورثتها بدورها عن عهد الاستعمار القديم وما خلفته صراعات الدول الأوروبية (فرنسا، بريطانيا، إيطاليا وبلجيكا) لغايات لها صلة بالسيطرة على ثروات ومياه هذا القسم الاستراتيجي من إفريقيا.

أزمة إقليم دارفور معقدة فعلا وقراءة جوانبها تتطلب رؤية عامة تكشف العناصر المركبة للمشكلات وتداخلها وانكشافها على أكثر من باب. فهناك فعلا الجانب الإنساني وهناك أيضا الجانب الدولي والتآمر على سيادة الشعوب وثرواتهم

إقرأ أيضا لـ "وليد نويهض"

العدد 690 - الإثنين 26 يوليو 2004م الموافق 08 جمادى الآخرة 1425هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً