العدد 728 - الخميس 02 سبتمبر 2004م الموافق 17 رجب 1425هـ

موادعة اليهود وتنظيم العلاقات بين المؤمنين والمسلمين

قراءة في دستور المدينة (4)

وليد نويهض walid.noueihed [at] alwasatnews.com

كاتب ومفكر عربي لبناني

تبدأ الصحيفة بموادعة اليهود، وهي الجزء الثاني منها، ويتعلق بتنظيم العلاقات بين المؤمنين والمسلمين بعد ان حدد الإطار العام للعلاقات بين أهل مكة (المهاجرون) وأهل المدينة (الأنصار وغيرهم من العشائر وغير المؤمنين). فالصحيفة اعترفت بكل أهل المدينة من مهاجرين وأنصار وغيرهم وحددت لهم حقوقهم وواجباتهم كمواطنين، لكنها عادت وميزت بين المسلم الذي فرض عليه القتال وغير المسلم الذي تركت له حرية الاختيار «وان اليهود ينفقون مع المؤمنين ماداموا محاربين». لكن من واجبه كمواطن المشاركة في النفقات في حال عدم مشاركته في القتال، وله حصة من توزيع الأسهم (الغنائم) في حال اشترك في الغزوات والسرايا. فالكتاب (الصحيفة) كتب قبل ان تفرض الجزية، لذلك كان لليهود نصيبهم في المغنم إذا اشتركوا مع المسلمين في القتال، لذلك شرط عليهم المساهمة في النفقات، خصوصاً في الحالات الدفاعية عندما تتعرض المدينة لهجوم من الخارج.

وتبدأ الصحيفة بتوضيح حقوق كل فئة بالاسم وتعترف بديانة الآخر وحقه في الاختلاف والتمايز. فلكل فريق دينه. ولكل جماعة التزاماتها، وعليه تحاول الصحيفة (الدستور) تنظيم العلاقات مع كل فئة ضمن إطار القانون المشترك. فاليهود جماعة دينية لكنها في الآن ليست موحدة قبلياً ولكل قبيلة تحالفاتها الخاصة مع قبائل يثرب (الأوس والخزرج) قبل نزول دعوة الإسلام وقبل دخول المهاجرين من مكة الى المدينة. فهناك يهود أو متهودون من عشائر الأوس والخزرج تنطبق عليهم الصفتان، فهم يهود (جماعة مؤمنة) وأيضاً فئات تنتمي أساساً الى عشائر عربية. لذلك وافق البند الثامن عشر على استمرار حلفهم مع المسلمين بالصفتين المذكورتين (دين وعشيرة) وكفل لهم حريتهم العقائدية كجماعة، ومسئوليتهم الفردية كأشخاص، في حال ارتكابهم الجرائم. فاليهود أمة والمسلمون أمة تجمعهما دولة واحدة ودستور واحد (الصحيفة). لذلك على يهود بني عوف نصر المؤمنين ودعمهم من دون ان يتخلوا عن دينهم، فهم «أمة مع المؤمنين» فعليهم واجب الوقوف الى جانب المسلمين وعدم التآمر عليهم، كذلك من حقهم الاحتفاظ بدينهم كمواطنين مستقلين بعقيدتهم. ومن أراد الالتحاق بأمة المسلمين فالباب مفتوح من دون إكراه. ولا يتوقف البند على تخصيص يهود بني عوف (الخزرج)، بل يشمل التخصيص تعداد أسماء كل العشائر وتحديدها لمنع أي لبس في الموضوع. فتذكر الصحيفة يهود بني النجار (من الخزرج) ويهود بني الحارث (الخزرج) ويهود بني ساعدة (الخزرج) ويهود بني جشم (الخزرج) ويهود بني الأوس (الأوس).

الانقسامات القبلية

ويخصص البند التاسع عشر يهود بني ثعلبة بالاسم لأنهم عشيرة لا تنتمي الى قبائل الأوس والخزرج العربية ولا الى قبائل قريظة والنضير وقينقاع. فالقبائل العربية نزحت الى يثرب من اليمن ويرجح انتماؤها الى قبائل الأزد العربية، أما القبائل اليهودية فيرجح انها نزحت الى يثرب من بلاد الشام إثر سقوط القدس في عهد الرومان (سنة 70 ميلادية) فلجأت الى الجزيرة العربية هرباً وخوفاً.

الى جانب الانقسام القبلي الكبير (عرب ويهود) هناك انقسامات صغيرة (عشائر عربية يهودية أو وثنية) فتوجهت الصحيفة لهم ببند واضح في التزاماته وشروطه، كما هو أمر بني عوف وغيرها من العشائر، إذ انها تنتمي عشائرياً الى قبيلة الخزرج لكن هناك بعض أفرادها ينتمي الى الجماعة اليهودية دينياً. كذلك بنو ثعلبة العرب فهم منقسمون بين وثنيين ويهود. ولا يكتفي البند التاسع عشر بذكر بني ثعلبة بل يسمي جفنة بصفتها متحالفة مع ثعلبة فيذكر «وإن جفنة بطن من ثعلبة كأنفسهم». ويذكر أيضاً بني شطيبة و«إن البرّ دون الإثم» أي على الوفاء ان يمنع الإثم. كذلك يذكر موالي ثعلبة، ويحتمل ان يكونوا من المشركين الذين حالفوا بني ثعلبة. وأخيراً يأتي على ذكر «بطانة يهود» ويقصد بهم تلك الفئات التي ارتبطت بصداقات ومصالح مع يهود يثرب قبل الهجرة، وينطبق عليها أيضاً ما نصّت عليه الصحيفة من حقوق وواجبات والتزامات. فالبند التاسع عشر مثل البند الثامن عشر شامل وفي الآن يخصص كل قبيلة وعشيرة وفئة بالاسم حتى يكون العهد أو الميثاق واضحاً في بنوده الأولى والبند الذي يلي.

وترتبط بالبند العشرين كل البنود من السابع عشر الى التاسع عشر لأنها بنود تلزم الطرفين بالتعاقد (الميثاق). فلكل جماعة دينها ولكل قبيلة وعشيرة وفئة خصوصيتها وحقوقها شرط الالتزام ببنود الصحيفة (دستور المدينة) التي تشمل كل الجماعات من مسلمة وغير مسلمة ومؤمنة وغير مؤمنة وعربية وغير عربية. فالبند يوضح بشكل قاطع منع أي اتصال خارجي (خروج أو دخول) من دون إذن ومعرفة وتفاهم مع صاحب السلطة ومصدرها. كذلك يعترف بكل ما سبق نزول الدعوة وحصول الهجرة الى المدينة من تفاهمات وتحالفات وعلاقات مصالح وصداقات، لكنه يشرطها أو يعيد إدراجها في سياق مشترك وإعادة دمجها تحت سقف مصالح الدولة العليا. فالبند العشرون تدبير احترازي يراد منه تحصين المدينة من الداخل وعدم اختراق وحدتها بتحالفات خارجية تفكك لحمتها السياسية كما نصت بنود التعاقد (الصحيفة).

ويلغي البند الواحد والعشرون فكرة الثأر ويفرض على كل صاحب حق ان يعود الى القضاء لإصدار الحكم. وكرّس البند مسئولية الفرد الشخصية عن الجريمة التي يرتكبها، كذلك الحكم الصادر بحقه. فالمسئولية فردية وليست عشائرية والشخص مسئول عن أفعاله وليس «أهل بيته». واستثنى من الحكم المظلوم الذي له حق المطالبة بظلامته.

الوفاء وعدم الغدر

ثم تعود الصحيفة في البند الثاني والعشرين الى تخصيص اليهود وتذكير المواطن بالوفاء وعدم الغدر. فبنود الصحيفة عموماً تشمل الجميع، وفي الآن هناك تحديدات لأطر العلاقة حتى لا تختلط واجبات وحقوق أطراف التعاقد. لذلك اعترف البند باستقلال نفقة اليهود عن نفقة المسلمين إلا في حالات معينة مثل تعرض المدينة لهجوم خارجي أو خروج المدينة للقتال في الخارج دفاعاً عنها. فهنا من واجب أبناء المدينة المساهمة في نفقة الحرب حتى تلك الفئات التي لم يفرض عليها القتال، لأن نصر المدينة هو نصر لكل الفئات وعليها جميعاً الاشتراك في النفقة حتى لو لم تشارك في القتال أو الدفاع. فالصحيفة كُتبت قبل فرض الجزية لذلك أعطَت اليهود نصيبهم في المغنم إذا قاتلوا واشترطت عليهم المشاركة في دفع نفقات الحرب.

ويعود البند الثالث والعشرون الى ما سبق تأكيده في بنود الصحيفة. فهو يخصص مسألة العقوبة الفردية. فالشخص يتحمل مسئولية أفعاله ولا تؤخذ عشيرته أو أهل بيته بجريرته. والنصاب القانوني أو حكم القضاء هو دائماً لمصلحة المظلوم ضد الآثم.

ويكرر البند الرابع والعشرون ما سبق ذكره بشأن ضرورة مساهمة اليهود في الإنفاق على الحرب ودعم المؤمنين في حربهم ضد المشركين.

وجاء في البند الخامس والعشرين «وأن يثرب حَرَامٌ جَوْفُها لأهل هذه الصحيفة». والحرام تعني هنا ما لا يحلّ انتهاكه، وهو إعادة التذكير بسيادة أهل المدينة على أرضها وجوفها. فالبند يقطع في تحريم الاقتتال الأهلي ويمنع الخارج (والمقصود قريش وأعداء الدعوة من المشركين) من دخول يثرب. فالبند ينص على السيادة ويعطي لأهل الصحيفة الذين وقّعوا على العهد (التعاقد) الحق السيادي في منع كل من هو خارج الصحيفة من التدخل في شئون المدينة.

ويعطي البند السادس والعشرون الحقوق نفسها للجار والحليف في سياق نظام التكافل والتكامل الذي حددته صحيفة المدينة لأهلها.

ثم يتكفل البند السابع والعشرون في إعطاء حق اللجوء السياسي لكل حرمة (ذمة) للمدينة بشرط موافقة أهلها كما نصّ دستورها (صحيفتها) وصاحب السلطة ومصدرها الرسول (ص). فالبند تطوير للحال السابقة عندما كان اللجوء يحصل من عشيرة الى أخرى أو من قبيلة الى غيرها، فتقوم العشيرة او القبيلة بإجارة اللاجئ بعد إذن شيخ العشيرة. اختلفت الصيغة في المدينة فلم تعد صلاحية إعطاء اللجوء من حق القبيلة أو العشيرة، بل يعود أمر بتّ الموضوع الى أهل الصحيفة. فالبند صَادرَ صلاحيات اللجوء في شكليه الداخلي والخارجي من رؤساء القبائل والعشائر ووحّدها في إطار قانوني مشترك.

مرجعية واحدة

ثم يؤكد البند الثامن والعشرون على مرجعية واحدة لحل المنازعات الداخلية من سياسية واجتماعية واقتصادية وأمنية. فكل حدث أو اشتجار (اختلاف) يمكن أن يتطور ويتحول الى فتنة داخلية يجب طرحه على رسول الله (ص) لمعالجته بالعدل والقسطاس حتى لا تكون فتنة بين المتخاصمين. فالبند يعطي صلاحية الإشراف المركزي على ضبط الخلافات التي قد تنشأ بين أهل المدينة أو بين أطراف الصحيفة.

ويستثني البند التالي (التاسع والعشرون) قريشاً ومناصريها من نظام الإجارة (اللجوء) والحماية وحتى إقامة علاقات مصلحية أو صداقات. فالصحيفة فرضت حظراً شاملاً على قريش ومقاطعة حياتية اجتماعية واقتصادية وسياسية. فالبند أكد فكرة الحظر الشامل لقطع الطريق على كل من يفكر أو يحاول الاتصال بها أو إنشاء تحالفات معها. لذلك أشار بضرورة عزلها وإخراجها من كل البنود التي شملتها الصحيفة بهدف إضعافها ومنعها من استغلال قوتها أو نفوذها السابق للتأثير في أهل المدينة.

ويشير البند الثلاثون الى مسألة التناصر (التعاضد) للدفاع عن المدينة ضد كل من أراد اقتحام يثرب، فالبنود السابقة نصت على ضمان الأمن الداخلي من خلال توحيد القانون وتحديد مصدر القضاء. ويأتي هذا البند ليؤكد المسئولية المشتركة للدفاع عن المدينة في حال تعرضها لخطر خارجي مفاجئ.

كما تدعو بنود الصحيفة الى الدفاع والأمن والقتال وغيرها. مثلاً يؤكد البند الواحد والثلاثون على السلم والصلح لكل من رغب في ذلك ويستثني «من حارب في الدين». ويتضح منه ان دعوة المصالحة والمسالمة مفتوحة للجميع في داخل المدينة وخارجها، ولم تخصص لفئة من دون الناس إذ لكل «أناس حصتهم من جانبهم الذي قِبلهم» شرط أن يكون قرار المصالحة بيد أهل المدينة ومرجعها الأعلى.

وأخيراً تأتي الصحيفة الى القول «وإن يهود الأوس مواليَهُم وأنفُسهم على مثل ما لأهل هذه الصحيفة مع البرّ الحسن من أهل هذه الصحيفة. وإن البرّ دون الإثم، لا يكسب كاسب إلا على نفسه، وإن الله على أصدق ما في هذه الصحيفة وأبرّه». (1)

وتنتهي الى القول «وإنه لا يحول هذا الكتاب دون ظالم وآثم، وإنه من خرج آمن، ومن قعد آمنٌ بالمدينة، إلا من ظلم وأثم، وإن الله جارٌ لمن برَّ واتَّقى، ومحمد رسول الله (ص)». (2)

هوامش

(1) حذف ابن كثير في كتابه عن السيرة كل الفقرة من دون ايضاح السبب. ويلاحظ ان البند الثامن عشر تناول يهود بني الأوس بينما يتناول البند الثاني والثلاثون يهود الأوس، ويبدو ان «بني الأوس» هم حلفاء الأوس وينتمون الى عشيرة غير الأوس. لذلك عادت الصحيفة لذكرهم بالاسم نظراً لقوتهم وتحالفهم مع بني قريظة وهي مجموعة يهودية ذات شأن في يثرب. فالبند يحدد مسئولية كل فرد وواجباته، وأنه يجني ما كسبت يداه ولا يتحمّل نتاج أعماله إلا نفسه كما نصت الصحيفة في كل بنودها. ويذكر ابن هشام ان المقصود البرّ الحسن من أهل هذه الصحيفة.

(2) يحذف ابن كثير فقرة و«محمد رسول الله (ص)»، من دون ان يوضّح السبب. يعتبر البند الثالث والثلاثون خاتمة للصحيفة فهو يقرّ الاتفاقات السابقة بين قبائل يثرب لكنه يشرطها بالنظام الجديد. كما أنه يعيد التذكير بمسئولية كل فرد عن أفعاله تجاه القانون الذي لا يميز بين هوية القبائل. فكل القبائل توحدت هويتها في دولة المدينة. وكل من دخل المدينة فهو آمن شرط أن لا يظلم أو يأثم. وكل من خرج منها فهو آمن شرط أن لا يحارب في الدين وبعد نيله الإذن وموافقة المرجع الأعلى. كذلك من يقعد في المدينة فهو آمن له ما لأهلها وعليه ما عليهم من تسديد نفقات الدفاع والقتال، فالبند ينص على التعايش وينال كل من يقعد جنسية المدينة في حال حصل على حق اللجوء السياسي

إقرأ أيضا لـ "وليد نويهض"

العدد 728 - الخميس 02 سبتمبر 2004م الموافق 17 رجب 1425هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً