ضمن سلسلة نكباتنا وانتكاساتنا منذ وعد اللورد جيمس بلفور العام 1917 مروراً بالنكبة الكبرى العام 1948 وحتى نكسة 1967، ومع الحوادث الجسام التي تجرعنا مرارتها خلال السنين الماضية، انتهى الأمر بنا إلى نكسة جديدة في العام 2004، إذ يبني الإسرائيليون جدارا فاصلا، لا يفصل بين الفلسطينيين والإسرائيليين فحسب، بل إنه يتغلغل داخل العمق الفلسطيني ويبتلع عشرات الأراضي ويقسم القرى والمنازل ذاتها. وبذلك يحاصر الجدار ويطوق الكثير من الفلسطينيين ويعزلهم عن مناطقهم ومدنهم.
وبعد أن اكتمل بناء قرابة 160 كلم من الجدار الذي يرتفع إلى ثمانية أمتار، أصدرت محكمة العدل الدولية في لاهاي رأياً استشارياً يقضي بعدم قانونية بناء هذا الجدار وضرورة إزالته آخذين في الاعتبار حق «إسرائيل» في الدفاع عن نفسها. ولم يعترض على القرار غير القاضي الأميركي في المحكمة الدولية، واعتبرته واشنطن أمرا سياسيا لا يدخل بالأساس في اختصاصات المحكمة. وليست تلك إلا محاولة للتهرب من قرار المحكمة ومحاولة للالتفاف عليه على رغم وجود نص صريح في النظام الأساسي للمحكمة يقضي بأنه في حال وجود نزاع أو خلاف بشأن اختصاص المحكمة فستنظر هي في ذلك، وعندما فصلت في قضية الجدار فبالتأكيد ان ذلك يدخل ضمن اختصاصاتها، لكن واشنطن تحاول بهيمنتها رسم الطريق الذي ينبغي للمحكمة أن تسلكه كما هو حالها في كثير من علاقاتها الدولية. إذاً يجب على الولايات المتحدة، قانونا، أن تحترم إرادة المحكمة والهيئة القضائية العليا في العالم.
ومثل رأي المحكمة نصرا معنويا كبيرا للفلسطينيين على رغم كونه استشاريا، وهو أيضا يعد صفعة قوية لواشنطن وتل أبيب اللتين تعتقدان أنهما فوق القانون والمعارضة الدولية. إلا أننا نعتقد أن الإسرائيليين لن يلتزموا بتنفيذ شيء من هذا القرار وخصوصا مع عدم وجود سلطة عليا تجبرها على ذلك. وشأن القرار شأن الكثير من الاتفاقات الموقعة بين الجانبين التي لم يبق منها إلا أسماء ترددت في وسائل الإعلام، بينما يقر شارون ويفتخر بإلقائها خلف ظهره وعدم التزامه بها.
وقد لا يكون يوم صدور القرار أكثر من يوم تاريخي فقط، لاسيما مع عدم بذل العرب والفلسطينيون منهم تحديدا جهودا كافية لاستثمار ذلك القرار سياسيا، إذ إنه ليس كافيا أخذه لمجلس الأمن، فالفيتو الأميركي يقف دائما بالمرصاد لصالح «إسرائيل». على الدول العربية أن تتكاتف لعزل «إسرائيل» دوليا وكشف الصورة الحقيقية للاحتلال الذي أقرت المحكمة الدولية عدم شرعيته. ولا يبدو أن الدول العربية ستفعل ذلك أو غيره، نظرا إلى التاريخ العربي الحافل بإضاعة الفرص في القضية الفلسطينية خصوصا، إذ استمر العرب باتباع سياسة خفض سقف مطالبهم أو حقوقهم بالأحرى، ونذكر مثلا المطالبة بالانسحاب إلى ما قبل الخامس من يونيو/ حزيران العام 67، أما اليوم فنحن نطالب بالانسحاب إلى ما قبل اندلاع انتفاضة الأقصى العام 2000. وبعد أن بذلت السلطة الفلسطينية جهدا حثيثا لإيقاف العمليات الاستشهادية داخل الخط الأخضر، ها نحن نسمعها اليوم تطالب بعدم إطلاق الصواريخ على المستوطنات الإسرائيلية بغزة، وفي الوقت نفسه لا يوقف شارون أيا من حماقاته ويغتال الشيخ أحمد ياسين وعبدالعزيز الرنتيسي من دون أن نجد أحدا يردعه أو يقر بعدم شرعية تلك الأعمال. وهذا الصمت العربي والدولي على المستوى الرسمي والشعبي أحد الأسباب التي تدفع شارون إلى بناء الجدار وغيره من التجاوزات والاعتداءات، فرئيس الوزراء الإسرائيلي جس نبض الشارع العربي، ولم يكن ذلك النبض أكثر من عواطف جياشة سرعان ما تذهب أدراج الرياح، وكيف لا يفعل شارون ذلك وقد أسهبنا في تقديم التنازلات الواحد تلو الآخر؟! وكيف لا يفعل ذلك إن كانت بعض الدول العربية تخلت عن برامجها لإنتاج الأسلحة النووية ومحمد البرادعي يزور تل أبيب ويتفهم المشاعر الحساسة للمواطنين الإسرائيليين وحاجتهم إلى الأمن والدفاع عن النفس؟
حميدة القيسي
العدد 699 - الأربعاء 04 أغسطس 2004م الموافق 17 جمادى الآخرة 1425هـ