العدد 740 - الثلثاء 14 سبتمبر 2004م الموافق 29 رجب 1425هـ

صراع على المستقبل

وليد نويهض walid.noueihed [at] alwasatnews.com

كاتب ومفكر عربي لبناني

قررت الإدارة الأميركية تحويل المبلغ الذي وعدت به العراق لإعادة ترميم ما دمرته الحرب إلى موازنة الدفاع واستخدامه في معالجة الموضوع الأمني. فالإدارة لاتزال ترى أن الأولوية للأمن وتعزيز قدرات الاحتلال، بينما يمكن تأجيل تلك المشروعات التي لها علاقة بقطاعات الخدمات والكهرباء والمياه والاتصالات والمواصلات والصحة والتعليم.

هذا القرار يؤكد من جديد أن جوهر الأهداف الأميركية في العراق وجواره حتى الآن لايزال يغلب المصالح الأمنية على كل تلك الوعود التي أعلنتها واشنطن لحظة الغزو وإسقاط النظام المستبد. فالأهداف الحقيقية لا صلة لها بالتحديث والتطوير وإعادة بناء الثقة وتدريب الناس على الديمقراطية وتشكيل دولة نموذجية تُحتذى من دول الجوار. والقرار الأخير الذي قضى بتحويل مليار و800 مليون دولار من المساعدات لترميم القطاعات المدنية إلى تعزيز موازنة الأمن وتشديد القبضة العسكرية ومواصلة عمليات العقاب الجماعية ضد المدن والقرى يؤكد أن السياسة الأمنية تحتل الموقع الأمامي في الاستراتيجية الأميركية المقبلة. فواشنطن من الناحية الاقتصادية لم تستفد مباشرة من حروب بوش. فهي دفعت الكثير لتمويل أدوات الحرب وتعزيز الصناعات العسكرية، إلا أن المردود المالي لتغطية النفقات كان أقل بكثير من التوقعات.

إلا أن السياسة الأميركية لا تشتغل على الدوام القصير ولا تنظر إلى المستقبل من خلال نتائج الأسابيع والشهور. فالاستراتيجية الحالية تعتمد سياسة التقويض من خلال شن حروب السيطرة على المواقع واحتلالها وتأمين قواعد انطلاق لمواجهة كل الاحتمالات التي يمكن أن تحصل في المستقبل.

حروب بوش الآن هي أشبه بالاستثمار السياسي الطويل الأجل في المستقبل. وهي تهدف إلى تأمين السيطرة لمنع غيرها من القوى الكبرى النامية اقتصادياً من المشاركة في الثروات الطبيعية والمواد الأولية والخامات. وعلى أساس هذا القياس أنفقت إدارة بوش عشرات مليارات الدولارات على الحروب بقصد حماية مستقبل الاقتصاد الأميركي وتطويق أو احتلال كل مصادر الثروة العالمية (وتحديداً النفط) التي تحتاجها اقتصادات الدول الكبرى وخصوصاً الاتحاد الأوروبي والصين وربما الهند. فهذه المواد تمس الأمن الاقتصادي، والسيطرة عليها تمنع حدوث فجوات سياسية في المجتمع الأميركي في حال تقلصت أو خفت وارداتها في السنوات المقبلة.

إدارة بوش الآن تنفذ ضربات استباقية تنفق عليها مليارات الدولارات بقصد توفير الاحتياط الكافي لاستمرار قدرات الاقتصاد الأميركي على التطور والمنافسة العالمية. وبرأيها أن هذه الضمانات لا تحصل الآن إلا أنها قد تتوافر في المستقبل. وحتى تضمن المستقبل لابد من تحطيم الدول العربية والإسلامية الغنية بالنفط أو التي تتمتع بالمواقع الاستراتيجية وتتوافر لديها إمكانات مراكمة التطور بسبب وجود عناصر داخلية للقوة. وهذه الاستراتيجية البعيدة المدى تفسر إصرار الإدارة الأميركية على اختلاق أزمات مع دول تعتبر صديقة تقليدياً للولايات المتحدة والاتجاه نحو زرع الفوضى ودفع المنطقة إلى حال عدم الاستقرار في وقت تبدي الأنظمة استعدادها للتفاهم معها. فهذه السياسة التقويضية تخطط للمستقبل بذريعة تأمين أمن النفط والأمن السياسي وبالتالي ضمان أمن «إسرائيل». وفي المجموع تظن واشنطن أنها تستطيع ضمان مستقبلها من خلال الرهان على الحروب وضبط الدول مباشرة ومن دون وساطة أطراف إقليمية أو حليفة.

حروب بوش خاسرة اقتصادياً حتى الآن، لأن كلفة تمويلها بلغت عشرات أضعاف مردودها المالي وخصوصاً في تلك القطاعات التي لها صلة مباشرة بالنفط وتسويقه وخطوط إمداداته. إلا أن حسابات بوش هي الآن سياسية في الدرجة الأولى، وتهدف إلى تحقيق مكتسبات اقتصادية في المستقبل من طريق بناء قواعد للدفاع عن سيطرتها في مواجهات محتملة مع قوى دولية اقتصادية تنمو بسرعة في أيامنا ويرجح أن تزداد قوة في المستقبل.

قرار الإدارة الأميركية بتحويل المبالغ المالية من الاقتصاد العراقي إلى الحرب على العراق يشير إلى نوعية جديدة من الولايات المتحدة وهي تختلف في طبعتها الجديدة عن تلك التي عرفناها في سنوات مضت.

إنه صراع على المستقبل، وهذا الصراع تحاول الدول الكبرى تدفيع الدول الصغيرة والضعيفة ثمنه من الآن. الضعيف يدفع ثمن صراع الأقوياء. فالقوي يطمع بالضعيف وخصوصاً عندما يجد أن الضعيف يملك الإمكانات ولا يستخدمها والثروات ولا يعرف قيمتها

إقرأ أيضا لـ "وليد نويهض"

العدد 740 - الثلثاء 14 سبتمبر 2004م الموافق 29 رجب 1425هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً