العدد 2795 - السبت 01 مايو 2010م الموافق 16 جمادى الأولى 1431هـ

ليس دفاعاً عن النقاب

وليد نويهض walid.noueihed [at] alwasatnews.com

كاتب ومفكر عربي لبناني

القرارات والمواد القانونية التي بدأت بالصدور عن السلطات التشريعية في فرنسا وبلجيكا بشأن النقاب خطيرة جداً. وخطورتها المضاعفة ناجمة عن أنها تصدر بعد قراءات معمقة يفترض أنها درست خلالها كل الاحتمالات والتداعيات وما يتأتى عنها من ردود فعل قد تنعكس سلباً على منظومة القيم التي تنادي بها أوروبا وتطالب شعوب العالم الأخذ بها أو على الأقل الاقتداء بمثالياتها.

القرارات القانونية ضد النقاب لا يمكن تصنيفها تحت خانة ما يقال عن «زلة لسان» أطلقها تصريح منفعل لرئيس وزراء إيطاليا مثلاً أو وزيرة فرنسية أو سفير بريطاني أو مستشار ألماني أو نائب برلماني أو قائد حزب سياسي أو مفكر هولندي أو باحث أميركي. فهذه القرارات ليست «زلة لسان» يمكن الاعتذار أو التراجع عنها وتبريرها وسحبها من التداول بعد أن تكون حققت وظيفتها الآنية.

الخطورة التي تكمن في مثل هذه الخطوات أنها تأتي بعد دراسة وتمحيص وإعادة تفكير عميق بأسبابها ونتائجها قبل رفعها إلى مجلس النواب والتصويت عليها لتأخذ مكان القانون بصفتها تصدر عن أعلى سلطة تشريعية.

تحويل الاختلاف على الطعام والشراب والمأكل والملبس من نقاط خلافية بسيطة ناتجة عن تنوع عادات الشعوب وتقاليد الثقافات إلى حدود فاصلة تمنع الاختلاف وتجرّم الآخر قانونياً بتهمة ارتداء نقاب أو بناء مأذنة أو الصلاة جماعة مسألة لا قيمة اعتبارية لها سوى التشجيع على الارتداد إلى القرون الوسطى حين سادت أوروبا عقلية الانغلاق والتخويف من «الغريب» وعدم التسامح مع الأقليات ورفض التعدد والتعامل مع المختلف انطلاقاً من نزعة التشكيك بهويته وتخوينه بعدم الولاء للجماعة الأهلية.

الارتداد إلى القرون الوسطى أخطر بكثير من ارتداء النساء النقاب، لأن اللباس عادة ولا يمكن قصره على شعب من الشعوب ودين من الديانات وثقافة من الثقافات بينما القانون الذي يجرّم الآخر بتهمة الاختلاف في نمط الحياة وأسلوب العيش فهو يشكل خطوة سيئة بحق ما أنجزته البشرية من تقدم على مسار الانفتاح والتسامح والتعايش مع المختلف خلال القرون الخمسة الأخيرة. والكلام التشريعي الذي يصدر عن هذا البرلمان الأوروبي أو ذلك بشأن النقاب أو الحجاب أو المآذن يعتبر إنسانياً من الأمور المردودة لأنه أساساً لا يقدم أو يؤخر في المسار الزمني بينما يشكل في جوهره ضربة مؤلمة للحرية والإخاء والمساواة وعدم التمييز العنصري أو الثقافي.

هذه القوانين السيئة الصيت هي عنصرية في جوهرها وإشاراتها ودلالاتها مهما حاولت الاختفاء وراء السلطات التشريعية. والعنصرية الجديدة التي بدأت تنمو في بعض المناطق والمدن الأوروبية أخذت ترتدي لباس الثقافة لا اللون بعد أن أصبحت التفرقة اللونية مسألة مخجلة ومرفوضة. نمو ظاهرة العنصرية الثقافية لا تقل خطورة في أبعادها الإنسانية عن العنصرية اللونية والعرقية بل يمكن اعتبارها نوعاً من الاحتيال على القانون وكل ما أنتجته الحضارات البشرية من أفكار وهيئات ومنظومات تحث على الانفتاح والتسامح وتقبل الآخر والتعايش مع المختلف.

المنقبات في أوروبا أقلية صغيرة وبسيطة ولا يتجاوز عددها الآلاف مقابل عشرات الملايين. وهذا يعني أن المسألة ليست خطرة على الأمن القومي والسيادة والانسجام الثقافي حتى تتحول إلى قضية أولى وتستدعي الأحزاب والجمعيات السياسية إلى الاحتجاج ومطالبة الكتل البرلمانية باتخاذ خطوات قانونية متسرعة لحماية الأمة والدولة من مخاطر تقضّ الاستقرار والتوازن.

ما يحصل ضد القانون أساساً باعتبار أن المسألة ليست خطيرة حتى تأخذ أولوية في جدول أعمال بعض برلمانات أوروبا. كذلك ما يصدر من تشريعات تجرّم النقاب وتتعامل معه بوصفه ذاك الشيء المرعب الذي يزعزع حياة الناس يحتاج إلى قراءة ثقافية تضع المسألة في إطار عنصرية جديدة بدأت تنمو في أوروبا؛ ويحتمل إذا تواصلت تباعاً أن تحدث انقلاباً ضد نظام القيم الذي تتفاخر الدول على إنتاجه ورعايته وتصديره كنموذج إلى شعوب العالم للاحتذاء به. فهذه التشريعات هي في النهاية مخالفة لكل الأفكار الأوروبية عن الليبرالية والديمقراطية والتعددية المدنية والاعتراف بالآخر ومبادئ التسامح والتعايش والتعاون الإنساني، وبالتالي فإن ضررها الأقوى سيقع على الثقافات الأوروبية وليس على النقاب. وخطورة مثل هذه القرارات القانونية (التشريعية) المدروسة بعمق وعناية أنها قد تشكل خطوة في سياق استدراكات قد تحصل في المستقبل وتتجاوز تباعاً مسألة النقاب إلى نقاط خلافية أخرى.

كل الشعوب عندها أشكال مختلفة في ارتداء الملابس. فالثقافات الإفريقية غنية بألوانها وأنواعها. والثقافات الآسيوية (اليابان، الصين، الهند) غنية أيضاً بكل تلك الأشكال المختلفة في اللباس والعادات والتقاليد. حتى أوروبا تتعايش في إطاراتها الثقافية الكثير من الاختلافات في العادات والتقاليد واللباس والعيش وأنماط الحياة (الرداء السكوتلندي مثالاً).

الشعوب مختلفة في ألوانها وأعراقها ولغاتها وتقاليدها وعاداتها وأديانها. وهذا الاختلاف يعطي البشرية ذلك الغنى في التنوع والتعدد والارتقاء تدرجاً نحو وحدة إنسانية متسامحة ومنفتحة وقابلة للتعايش والانسجام تحت قبة مشتركة.

إلغاء الاختلاف ومطاردته وملاحقته مسألة غير قانونية وضد الإنسانية وضربة مؤلمة للثقافات الأوروبية، وهي فعلاً تحرج منظمات حقوق الإنسان وكل الهيئات التي تدعو للأخذ بأسباب التقدم وما تنتجه «العولمة» من تقارب وتدافع وتواصل بالإنترنت وتطور في المواصلات.

خطورة القرارات والتشريعات والمواد القانونية أنها لا تصنف تحت بند «زلة لسان» وإنما خطوة ارتدادية إلى الوراء تدفع بالناس نحو الكراهية والتمييز كما كانت عليه القارة في القرون الوسطى. وبهذا المعنى التاريخي فإن تلك القوانين لا تشرِّف برلمانات أوروبا ولا تقلل من احترام النقاب. وهذا ليس دفاعاً عن النقاب وإنما تحذير من سلبيات الانتكاس إلى العنصرية الجديدة المتمثلة الآن بالثقافة واختلاف أنماط الحياة.

إقرأ أيضا لـ "وليد نويهض"

العدد 2795 - السبت 01 مايو 2010م الموافق 16 جمادى الأولى 1431هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان
    • زائر 1 | 4:10 ص

      ليس دفاعاً عن النقاب...!

      "ولا تقلل من احترام النقاب"
      طبعاً و أكيد وباين بوضوح !

اقرأ ايضاً