العدد 762 - الأربعاء 06 أكتوبر 2004م الموافق 21 شعبان 1425هـ

هل هي «نسخة منقحة» من قانون أمن الدولة؟

«ماذا تغازلون في قاعة الكلية؟»

قاسم حسين Kassim.Hussain [at] alwasatnews.com

كاتب بحريني

في العام 1979، في أول سنة جامعية بكلية الخليج الصناعية، وقبل أن تتحوّل إلى «جامعة البحرين»، استضاف مجلس الطلبة عدداً من المحامين أذكر منهم المحامي حميد صنقور. كانت منطقة الخليج تموج، وكانت الندوة باكورة عمل المجلس الجديد المنتخب، وتمحوّرت أكثر أسئلة الطلبة والطالبات حول نقطة واحدة: «قانون أمن الدولة». عشرات الأسئلة عكست الهاجس الأكبر الذي كان يختلج في نفوس الحضور. ولأن القانون كان جاثماً على أنفاس الجميع، أراد صنقور الإفلات من الإحراج بقوله: «ويش فيكم الليلة جالسين تغازلون قانون أمن الدولة؟» صنقور أفلت من الحصار بعد أن أغرق الجميع في الضحك، ولكنه لم يروِ غليلهم بإجاباته.

طبعاً أولئك الحضور، منهم من كان ينتمي لتنظيمات سياسية أصبحت مسمياتها في عهد الإصلاح «جمعيات»، فهذا الشعب المكافح خمسين عاماً من أجل حقوقه لم يبلغ الحلم بعدُ في أعراف البعض. كما كان من بين الحضور من له قريبٌ أو صديقٌ أو جارٌ في المعتقل، فضلاً عن الباقين الذين يسمعون عن هذا الأخطبوط الذي يبتلع ضحاياه دون رحمة كالبعبع الوحشي.

لم نكن نعي ونحن نضحك على إجابة المحامي صنقور، ان «قانون أمن الدولة» المفروض بقوة الحديد والنار سيكون عنواناً لمرحلة ستطول وستستحكم حلقاتها، حتى لم يكد الناس يصدّقون بأنها ستفرج ويرتفع عن هذه الأرض الطيبة وأهلها البلاء.

لم نكن نتصور أن القبضة الأمنية ستشتدّ في ظرف عامٍ واحدٍ فقط، حتى تسهل إدانتك بأسرع الطرق، فقط لأنك تطيل شعرات ذقنك سنتيمتراً واحداً، أو لأنك تقتني كتاباً فيه «رائحةٌ سياسية»، أو تصلّي وراء إمامٍ يحدّث الناس عن العدالة في الإسلام. هذه هي الأدلة القطعية التي تدينك وتبرر إيداعك السجن، أما «الادلة الظنية» فيكفي وشاية مخبرٍ متبلدِ الاحساس لتقبع في السجن ثلاث سنوات، يتم تجديدها ثلاث سنوات أخرى، ثم تجدّد ثلاث سنوات أخرى. وبعد تسع سنين، يمكن أن يفرج عنك احتراماً لـ «روح القانون» لتعود في اليوم التالي إلى السجن لتتقلب تسع سنوات أخرى في نعيم «أمن الدولة» من جديد!

قصصٌ كثيرةٌ وحكايات، يؤسفني أن أقول انه لو دوّنت في مجلّدات لخرجت لنا موسوعة أكبر من موسوعة ويل ديورانت عن الحضارة. هذا هو قانون أمن الدولة، وهذه هي تبعاته المنكرة، فـ «لا يعرف النار إلاّ من يكابدها، ولا الصبابةَ إلاّ من يقاسيها».

45 يوماً في الجحيم

هذا القانون ذهب ضحية فرضه بالقوة الآلاف من أبناء هذا الوطن الصغير، على مدار ثلاثة عقود من الزمان، من مختلف التوجهات الفكرية والسياسية الحيّة. بل إنها في إحدى أكثر مراحل النضال الوطني احتداماً، في حركة التسعينات المطلبية، وصل عدد المعتقلين السياسيين إلى 3 آلاف معتقل، وهي نسبة كبيرةٌ جداً إذا ما قيست بعدد السكان، لن تجدوا مثلها حتى في فلسطين المحتلة.

لو تكلّمنا عن تلك الحقبة الماضية لاتُهمنا بالمبالغة والتزييف، مع ان كل ما سنقوله لا يعبّر عن عذاب سجينٍ حرٍ شريفٍ ليومٍ واحدٍ وراء القضبان، في زنزانات من دون كهرباء ولا ماء بارد. كم تمنيت لو تخضع مرحلة «قانون أمن الدولة» للتشريح على يد أي مؤرخ مستقل ليرصد آثاره المدمرة على البحرين الوطن، مما ندفع حتى الآن كلفته الباهظة.

لا تنسوا أن كل تلك الملهاة الوطنية العابثة، بدأت صغيرةً كما تبدأ كل المآسي الأخرى، اعتقالٌ لأنك تقتني شريط أشعار «مظفّر نواب»، أو لقراءتك مجلة «فلسطين الثورة» أو «الشهيد»، وانتهت باكتظاظ السجون لمدة عشرين عاماً، حتى جاء عهد الإصلاح وتم تبييضها من «المتهمين» بالانشغال بالسياسة!

اليوم، نخشى أن تعود الكرّة من جديد: اعتقال دون محاكمة، أدلةٌ أوهن من جناح البعوض، انتهاكٌ لحرية الناس واستسهال رميهم وراء القضبان قبل أن تثبت التهم عليهم... فترةٌ طويلةٌ بانتظار البراءة التي لا تأتي إلا بعد شهور من العذاب، والأغلب انها لن تأتي، لأن الظن وحده دليلُ إدانةٍ لا يرد. تشهير بالأسماء في الصحف التي لا تراعي للإنسان حرمة ولا كرامة. هل انتم بحاجةٍ فعلاً إلى أن أذكّركم لكيلا تتكرّر الفواجع؟

معتقلو حوادث المعارض، حفل نانسي عجرم، مطعم لاتريسا، المعتقلون الستة، الكواري، رؤوف الشايب، فهل ننتظر المزيد؟ هل يكفي استبدال ثلاث سنوات بخمسة وأربعين يوماً؟ وهل الوطن بحاجةٍ إلى نسخة جديدة من «قانون أمن الدولة»؟

قبل ربع قرن، استطاع صنقور الإفلات من حصار الطلبة في قاعة كلية الخليج الصناعية، فهل تفلت بحرين الإصلاح من الأسئلة المحرجة... فتنجو من البعبع الجديد؟

إقرأ أيضا لـ "قاسم حسين"

العدد 762 - الأربعاء 06 أكتوبر 2004م الموافق 21 شعبان 1425هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً