العدد 763 - الخميس 07 أكتوبر 2004م الموافق 22 شعبان 1425هـ

منهج التأصيل النظري في فكر الإمام الصدر (5 - 5)

عبدالجبار الرفاعي comments [at] alwasatnews,.com

مفكر اسلامي عراقي

لقد استطاع الشهيد الصدر أن يتغلب على عقبة كؤود ارتهن في اطارها التفكير الاسلامي فترة طويلة، فوجهه نحو واقع الحياة الاجتماعية ومتطلباتها، ونزل به من الفضاء الذهني الذي كان محتبساً فيه الى تضاريس الحياة الاجتماعية، وميدان التجربة الحياتية للانسان بكل ما تختزنه من وقائع، وتصدعات، وأخاديد، وما يتجلى عنها من أفكار، واضاءات، وما تفصح عنه وتقوله من مقولات، وما تخفيه ولا تفصح عنه من رؤى واستفهامات (1).

هكذا تحرر الوعي في خطاب الشهيد الصدر، وتخلص من الاستغراق الخيالي في مفاهيم تجريدية ظل الخطاب الاسلامي في أسرها فترات طويلة، يجري ويعوم في حال ذهنية غير واقعية، ويراوح في متاهات نظرية لا تتصل بالحياة الاجتماعية واشكالاتها بشكل مباشر، وانما تغوص في وقائع السماء وأحوال عوالمها، وأحوال عوالم أخرى مفترضة من قبيل عوالم العقول والمثال، فيما تغيّب وقائع الأرض وأحوال حياة الانسان فيها وما يكتنفها من تحديات وارهاصات معرفية وعملية.

ان فكر الشهيد الصدر كان حواراً حافلا مع الواقع، وتحليلا دقيقاً لمشكلات الحياة، واستكشافاً رائداً للنظريات الاسلامية ازاء هذه المشكلات، من خلال استنطاق القرآن الكريم والسنة الشريفة فيما يحمله لهما من أسئلة الواقع، وما يطرحه عليهما من مسائل الاجتماع البشري، فهو يبدأ بالواقع لينتهي الى النص، أي أن فقه النص يتحرر لديه في أفق الواقع، ويستلهم الموقف في فضاء اشعاعاته، وبذلك تدفقت رؤيته للنص، ووعي دلالاته، واستخلص منها ما يقوله النص، في اطار متطلبات الواقع وقضاياه.

وبهذا يتضح أن عملية تأصيل النظريات الاسلامية في فكر الشهيد الصدر، ترتكز بصورة أساسية على هذه الكيفية، التي أفصح هو عنها بصراحة في بداية حديثه عن الاتجاه التوحيدي أو الموضوعي في التفسير، وأبرز ملامح هذا الاتجاه، والأسلوب الذي يعتمده في استلهام مواقف وتوجيهات القران الكريم ازاء الحياة، فقد صرح بأن هذا الاسلوب يتمثل في أن «التفسير يبدأ من الواقع، وينتهي الى القرآن، لا أنه يبدأ من القرآن وينتهي بالقرآن، فتكون عملية منعزلة عن الواقع، منفصلة عن تراث التجربة البشرية، بل هذه العملية تبدأ من الواقع وتنتهي بالقرآن، بوصفه القيّم والمصدر الذي يحدد على ضوئه الاتجاهات الربانية بالنسبة الى ذلك الواقع (2).

كما أكد أن ما يعنيه بالموضوعية في استخدام هذا المنهج، هي «بمعنى أن يبدأ من الموضوع وينتهي الى القرآن هذا الأمر الأول، والأمر الثاني أن يختار مجموعة من الآيات تشترك في موضوع واحد، ويقوم بعملية توحيد بين مدلولاتها، من أجل أن يستخرج نظرية قرآنية شاملة بالنسبة الى ذلك الموضوع»(3).

هذه هي الطريقة الرائدة في استخلاص النظرية، وتجاوز المشاغل التقليدية للعقل الاسلامي، اذ أعاد هذا المنهج ترتيب نظام التفكير، وأسلوب وعي العقل للنص بنحو آخر، بعد ان استنفذ الاسلوب التجزيئي أغراضه، ولم ينجز معطيات كبيرة مع تقادم الزمان، سواء في حقل الدراسات القرآنية او غيرها، «حتى نكاد نقول - والقول للشهيد الصدر - ان قروناً من الزمن متراكمة مرت بعد تفاسير الطبري والرازي والشيخ الطوسي، لم يحقق فيها الفكر الاسلامي مكاسب حقيقية جديدة، وظل التفسير ثابتاً لا يتغير الا قليلا خلال تلك القرون على رغم ألوان التغيير التي حفلت بها.

الحياة في مختلف الميادين

ان ادراك الشهيد الصدر لتخلف مواقف الفكر الاسلامي، عن التحول والتغير المطرد في انماط حياة الانسان، وطبيعة عيشه، واستغلاله للطبيعة وازدياد سيطرته عليها، من خلال اكتشاف قوانينها، والتعرف على أسرارها، وعدم تمكن هذا الفكر من استيعاب هذه التحولات، ومواكبة حركة التغيير في بنية المجتمعات، وانتاج مفاهيم ومقولات تستجيب للمتطلبات الراهنة للحياة، ان ذلك هو الذي دعاه الى الاعتماد على هذا الاسلوب الجديد في وعي معطيات النص، بالانتقال من الواقع الى النص، والتوحيد بين التجربة البشرية بما تشتمل عليه من أبعاد وتفاصيل متنوعة وما يقوله النص، فان التحام الواقع بالنص بهذه الكيفية، يتيح للمفكر المسلم أن يؤصل رؤى اسلامية جديدة تغاير ما ألفه من رؤى لا تتواصل مع التحولات المختلفة في أنماط الحياة، ولا تتجاوز الأسلوب التجزيئي في التفكير الذي ظل لفترة طويلة من أهم أسباب اعاقة نمو وتطور الفكر الاسلامي، لأنه يجعل التفكير بعيدا عن واقع التجربة البشرية، اذ لا يستطيع في اطاره العقل أن يوحد بين واقع هذه التجربة والنص.

(1) الرفاعي، عبدالجبار، النظام التعليمي في الحوزة العلمية: رؤية تقويمية لدواعي التجديد. (مخطوط) «فيه بيان مفصل لتأثير تطور البحث الفقهي على تطور الفكر الاصولي ونموه التكاملي نحو ما يؤمن للفقه ادواته وقواعده، وتجاوز الفكر الاصولي للحاكة التكرارية، وحالة النمو المترهل نحو آفاق غير عملية لا تخدم عملية الاستنباط».

(2) الصدر، السيد الشهيد محمد باقر، المدرسة القرآنية، ص 22.

(3) المصدر نفسه ص 29

إقرأ أيضا لـ "عبدالجبار الرفاعي"

العدد 763 - الخميس 07 أكتوبر 2004م الموافق 22 شعبان 1425هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً