العدد 778 - الجمعة 22 أكتوبر 2004م الموافق 08 رمضان 1425هـ

سنة خبرة مكررة 25 مرة

حسن عبدالله comments [at] alwasatnews.com

فرضت علينا الحال التي وصل اليها العالم العربي اعادة انتاج معارفنا القديمة، من دون اي تجدد، وإلباسها عباءة الحداثة، بدءًا من منظوماتنا الاقتصادية ومرورا بذهنيتنا الثقافية ووصولا الى أنظمتنا السياسية، ولم نحاول في أية لحظة من اللحظات النظر في ما نحن فيه، واتبعنا طواعية كل ما يفرض علينا من دون أية ممانعة، حتى اننا تخلينا عن أبسط مقومات الممانعة في سبيل تلبية المطلوب منا، وكأننا فقدنا فجأة كل تراثنا الحضاري الذي يعود الى آلاف السنين.

لقد باتت ثقافتنا أقرب الى المولود المهجن من شخصيات عدة، فلا نحن قادرون على السير حسب واقعنا، ولا قادرون على التحدث بلغتنا، ولا نحن قادرون على التعايش مع ذاتنا الثقافية، هذه الذات الغنية بالتنوع في اطار النسيج الاجتماعي الواحد.

هذه البلبلة التي نحن عليها الآن لا يمكن اصلاحها بقرار أو بمجموعة قوانين ان بقيت الذهنية الثقافية على ما هي عليه، ذلك لأن القانون يعبر عن البيئة التي يولد فيها، واذا كانت هذه البيئة تعاني من خلل ما فإن القانون سيكون مبنيا على خلل وبالتالي لن يستطيع تأدية وظيفته بالكامل، وسيؤدي في نهاية المطاف الى اداة عرقلة في حركة التطور الاجتماعي وقبلها، طبعا، في التطور السياسي، فالمرتشي والأفاق والمدلس لن يثنيه القانون عن ابتكار الاساليب التي من خلالها يقوض القانون ويعطله، ولن تشكل الادوات الديمقراطية مهما تكن نزيهة أداة محفزة على السلوك القويم، لان هذه الادوات ستكون محكومة بالذهنية الفاسدة التي تشرف عليها، ومن هنا نجد ان العالم العربي يسجل اعلى معدلات انتاج القوانين، وفي المقابل يسجل أيضاً أعلى المعدلات في تعطيل القوانين.

اصطدمت مشروعات التنمية والتطوير العربية ومنذ زمن طويل بما يمكن اعتباره الصخور الصلدة في طريق التطوير وهذه الصخور هي الطبقات التي تكلست في مواقعها وباتت ترفض اي تجديد او تطوير، وربما يكون اقرب الامثلة على ذلك ما حدث مع موظف عربي أمضى نحو ربع القرن في وظيفة واحدة، وعندما احيل على التقاعد رغب في العمل في احدى شركات القطاع الخاص، وعند تقديم طلب التوظيف سأله صاحب الشركة كم عدد سنوات خبرتك فأجاب: نحو 25 سنة، وسأله رب العمل ثانية: في الوظيفة ذاتها؟ اجاب الرجل: نعم، عندها قال رب العمل لسكرتيرته: الخبرة سنة واحدة مكررة 25 مرة.

وهؤلاء الذين تكلسوا في مواقعهم يرفضون اي تجديد خوفا من ارتكاب الخطأ، حتى وان اصبح عملهم كله خطأ قياسا على حركة التطور في العالم، وهؤلاء يكونون البطالة المقنعة التي تزيد من الاعباء على الدخل القومي للأمة.

ولهذا لا يمكن لأي حديث عن التطور والتطوير في العالم العربي ان يكون له معنى اذا لم يقترن ذلك بعملية اعادة نظر كاملة في منظوماتنا الثقافية كافة، وذلك لا يبدأ الا من خلال التسليم بحرية التعلم والتعبير والمساواة في الحقوق والواجبات بين افراد المجتمع كافة، فمثلا لا يمكن لأية ديمقراطية ان تستقيم اذا اقتصرت على فئة معينة من المجتمع، وإذا انحصرت في الجانب الشكلي من الممارسة السياسية، لأن الديمقراطية في جوهرها هي سلوك اجتماعي عام، تبدأ من علاقة الرجل بالمرأة، وتنتهي في صندوق الاقتراع، وبينهما تمر في المجالات الاقتصادية والوظيفية وغيرها من مجالات الحياة، فالموظف الذي امضى ربع القرن في وظيفة واحدة وفرضت عليه اساليب عمل معينة، هو في واقع الامر لم يرتكب اي خطأ، انما الخطأ يقع بمجمله على من سن أساليب العمل هذه ولم يطورها.

في الكثير من الدول العربية الان يجرى الحديث عن الحكومات الالكترونية، وتصرف ملايين الدولارات في هذا الشأن، وفي الوقت ذاته نجد ان أية معاملة تحتاج الى نصف كيلو من الاوراق والى عشرات الاختام والتواقيع، على رغم وجود المكننة الادارية، ومرد ذلك الى الشك في المواطن، هذا الشك الناجم عن قصور في ادراك معنى الحقوق والواجبات، وهذا القصور لا يقف عند الحدود الادارية، انما يمتد الى حياتنا الاجتماعية ايضا ويحكم علاقاتنا بمن حولنا بدءًا من زوجاتنا ووصولا الى جيراننا ومرورا بأولادنا.

فالشك الذي أنتجته الذهنية السياسية بات سلوكا اجتماعيا وبالتالي بات جزءًا من ثقافتنا، ولهذا نجد مثلا ان غالبية الجرائم ترتكب على أساس الشك، على رغم أننا نعرف مسبقا أن القانون قد يسر لنا السبل لأخذ حقوقنا من دون الحاجة الى ارتكاب أية جريمة، لكن شكنا بقدرة القانون على الفعل، وشكنا بالمولجين بتنفيذ القانون، يجعلاننا نعمد الى الخروج عليه من اجل اخذ حقوقنا، ونكون بذلك ارتكبنا الجريمة، والجريمة هذه تبدأ من الوساطة وتمر بالرشوة، وتنعطف على التحايل على القانون وتصل الى الجرائم الكبرى.

إن الجريمة الحقيقية التي يرتكبها العرب في حق انفسهم هي شكهم في قدرتهم على الفعل، ولهذا رأينا كيف ان جماعات كثيرة استسهلت اساليب التعبير الارهابي الذات وعادت الى مراحل الازمة واسترشدت بفكر الازمة في خطابها مع الاخر من اجل اثبات ذاتها، وهي في الوقت نفسه كشفت الى أي حد أعجزت الريبة العرب وأقعدتهم عن تطوير ذاتهم، لأنها عندما بدأت بعنفها العبثي كشفت افتقاد مؤسساتنا الخطاب السياسي والثقافي القادر على وقف انتشار هذا العنف الذي لا مبرر له، لا بل ان المضحك المبكي في الامر اننا لجأنا الى اعادة انتاج الخطاب السياسي والثقافي الذي ساد قبل قرون من دون اي تجديد ومن دون الانتباه الى أننا نمنح هذه الفئات الضالة المبرر للاستمرار في غيها

العدد 778 - الجمعة 22 أكتوبر 2004م الموافق 08 رمضان 1425هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً