«روي أن شيخاً كان يمشي في أحد الطرق، فرأى طفلاً جالساً يبكي، فسأله مِمَّ بكاؤك؟
فقال: إن أمي أخرجتني من البيت، وكلما استجير بالبيوت الأخرى لا يُفتح لي الباب.
فجلس الشيخ عند الطفل بعد أن رقّ قلبه لحاله، ثم أخذ يبكي مع الطفل ويقول: لو أن طفلاً نهرته أمه وطردته من البيت لا يفتح له باب آخر ويجلس متحيراً يبكي لا يعرف أين يُولي، فمن ينهره الله (سبحانه وتعالى) عن بابه إلى أين يذهب، وكيف ينفتح له باب آخر؟!
ثم قام الشيخ لكي يذهب في طريقه، فتعلق به الطفل، وطلب منه أن يشفعه لدى أمه، فوافق الشيخ على ذلك، وأخذ بيد الطفل إلى بيت أمه وشفعه عندها. فبكت الأم، وقالت: يا شيخ، نِعْم الشفيع أنت، وقد شفعه عندي قبلك قانون (أولادنا أكبادنا)، ولكنه يا شيخ كلما امنعه عن اللعب لا ينْزَجِر، فاعلم أيها الشيخ: لو خرج مرة أخرى من دون إذني من البيت ليلعب قطعت عنه علاقة الأمومة والبنوّة (...) فوافق الشيخ وطلب من الطفل عدم الخروج من البيت إلا بإذن من أمه.
نقض العهد... وتكرار الذنب
ما مضت إلا سويعة وإذا بالطفل يخرج مرّة أخرى وينشغل باللعب مع الأطفال. غضبت الأم وسدت عليه الباب إلى أن انتهوا من اللعب، وذهب كل واحد منهم إلى بيته، وبقي وحده، فجاء إلى البيت، ولكن كلما دقّ الباب لم تفتح له الباب، فالتجأ مرة أخرى إلى بيوت الجيران واحداً واحداً ولكنهم لم يفتحوا له أبوابهم، فاحتار في أمره، ورجع مرة أخرى إلى بيت أمه وكلما دَقّ الباب لم يفتح له، فقال: يا أمّ، إن لم ينفتح ليّ أيّ باب فليس لي وجه للرجوع سوى إلى هذا الباب، ولكن لو لم ينفتح عليّ هذا الباب فإنه ليس لي وجه للرجوع إلى باب آخر.
أخذ الطفل يبكي ويئن، وجعل وجهه على التراب إلى أن أخذه النوم، وأمه تراقب حاله من على السطح، فحينما رأت الطفل قد نام بكمال الذل والانكسار في التراب رمت بنفسها، ورفعت رأس طفلها من على تراب الذل، وأخذت تمسح الغبار عن وجهه وهو نائم. ولما استيقظ الطفل ونظر إلى وجه أمه قال: يا أم لو تقطعي عني الماء والخبز فذلك مقبول، ولو تجري أذني فأنا مستحق لذلك، ولو تركتيني بالبكاء والحنين أتحمل ذلك، ولكن الذي أطلبه منك ألا ترسليني من باب بيتك إلى أبواب الآخرين».
العِبْرة...
كنت أتصفح كتاب «المنهج العبادي... للأنبياء والأئمة والعرفاء» لمؤلفه السيدحسين نجيب، فوقع نظري على هذه القصة العجيبة التي نقلتني إلى رحاب هذا الشهر الكريم ، فاستشعرت الحاجة الملحة إلى الرجوع في هذه الأيام العظيمة التي تُفتح فيها أبواب الرحمة على مصراعيها إلى المولى (عز وجل).
هكذا يعيش المرء متذبذباً، تسيطر عليه هواجس الهرب من الساحة الإلهية واللجوء الى أوكار المعاصي والرذائل، رغبة في «التحرر» المزعوم. لكن الى أين المفر؟ يعبث ويلهو مثل ذلك الطفل بل اشد تيهاً وضياعاً، وبعد ان تذهب تلك النشوة يُفاجأ بأن ابواب الدنيا جميعها مغلقة امامه، والدنيا قد اسودت في عينيه. لا ملجأ له سوى مولاه الذي خلقه، ولا مفر منه إلا إليه.
هذه الذلة والمسكنة هي ما نحتاج جميعنا لأن نستشعرها في هذه الايام الرحمانية، ولابد لنا بعد كل ذلك التيه والضياع ان نعود الى حضرة القدس الربانية خاشعين. ولا شك اننا سنجد الابواب مُشرعة امامنا مهما ارتكبنا من ذنوب وآثام، فالفيض الالهي يغمر جميع العباد بشتى مشاربهم اذا وقفوا تلك اللحظات... لحظات التوبة والإنابة.
الخلوة مع المحبوب...
آن لنا ان نجلس في خلوة مع الله تعالى، خلوة المحبوب مع حبيبه، وان نقيّم اخطاءنا بأنفسنا وان نحاسب الذات... كم ارتكبت من غيبة او من كذب؟ وكم نظرت من نظر محرّم اواستماع الى غناء؟ وكم تهاونت في اداء واجب او قصرت في اداء الصلوات وغيرها وغيرها من الذنوب الكبيرة والصغيرة التي لا نستشعر خطرها على النفس.
فما دمنا في ظلال شهر التوبة سنرى قلوبنا توّاقة الى الرشد والهداية. وهذه الفرصة السانحة التي لا ندري ان كنا سنعود عليها ام لا.
تلك القصة جعلتني استحضر شيئا من دعاء الامام زين العابدين (ع) الذي علمه ابي حمزة الثمالي ليقرأه في اوقات السحر من شهر رمضان، ولا يخفى علينا انه دعاء عظيم المعاني وطوبى لمن وفقه الله لقراءته بتدبر. فهو يقول فيه:
فَوَعزَّتِك لو انْتَهرْتَني ما برِحْتُ مِنْ بابك ولا كفَفْتُ عن تَملُّقَك، لما أُلهم قلبي من المعرفة بكرَمك وسعَةِ رحْمَتك. إلى مَنْ يذهَب العَبْد إلا إلى مولاه، وإلى مَنْ يَلْتجئُ المخْلوقُ إلا إلى خالِقِه.
إلهي لو قَرَنْتَني بالأصْفَادِ ومَنَعْتَني سَيْبك من بين الأشهادَ ودَلَّلت على فضائحي عُيون العِبَاد وأمَرْتَ بي إلى النار وحُلتَ بَيني وبين الأبْرارِ ما قَطعتُ رجَائي منك وما صَرفتُ وجه تأميلي للعَفْو عَنْكَ ولا خَرجَ حُبُّك من قلبي.
أنا لا أنسى أياديك عندي وستْرك عليَّ في دار الدنيا. سيدي أَخْرِجْ حبّ الدنيا مِنْ قَلبي واجْمعَ بيني وبين المصطفى وآله خِيرتك من خَلْقك (صلواتك عليهم أجمعين)
العدد 783 - الأربعاء 27 أكتوبر 2004م الموافق 13 رمضان 1425هـ