العدد 2806 - الأربعاء 12 مايو 2010م الموافق 27 جمادى الأولى 1431هـ

فيدوح: رومانسية العريض نأت به عن القوالب الجاهزة

في محاضرته عن المرأة في شعره

إن التفاني في وصف المرأة بالنسبة إلى إبراهيم العريض تعلَّة للخلاص من العبء اليومي، وتعرية ما تتوجسه مشاعره، وفي كلتا الحالين يتسلل الشعر ليسكن عالم الشاعر، فتمتزج الرؤى بما يمكن للشبه أن يبلغ بينها مبلغه، إلى الحد الذي يمكن أن تتماهى صورة الخلاص بالمرأة مع عالمه المشرئب. ومن ثم تصبح المرأة هي البديل الافتراضي الذي تمكِّن الشاعر من تحقيق خلود ذاته، على الأقل من الناحية الإبداعية عبر جسر تواصل الأجيال، وهو إذ يسعى إلى خلوده، يحقق انتصار تحرر إبداعه من كل قيد زماني أو مكاني»... هذا ما ذهب إليه الأستاذ الأكاديمي بجامعة البحرين عبدالقادر فيدوح في محاضرته عن المرأة في شعر إبراهيم العريض.

ألقى أستاذ الأدب والنقد بجامعة البحرين عبدالقادر فيدوح محاضرة - في مدرسة أم سلمة الإعدادية للبنات في يوم الثلثاء الرابع من مايو/ أيار عن الشاعر الكبير إبراهيم العريض وقسم فيدوح محاضرته إلى ثلاثة محاور هي: الرؤية الشعرية عند إبراهيم العريض، والتحام الطبيعة مع المرأة في شعر العريض، ثم دلالة المرأة في شعره.

في البداية تطرق فيدوح إلى أهمية شعر إبراهيم العريض في الأدب العربي الحديث، ومكانته المرموقة، ثم تعرض إلى الرؤية الشعرية في شعره معتبرا أنها تعنى بالذات وهمومها، غير أن الذات الشاعرة بهذه الهموم تنأى بنفسها عن صورة مرآوية تنكأ جروحه فحسب، ولكنها صورة أراد لها الشاعر أن تجهر بالتمرد على القوالب الفنية الجاهزة، وتتخطى ذلك إلى الوعي الرومانسي، هذه الصورة التي لايزال صداها ذائعا، ونهجها ممتدا، على حسب رأي كثير من الباحثين.

وأضاف فيدوح لقد كان للسليقة في شعر إبراهيم العريض ميدان خصب، ونبع ثرٌّ، وإحساس متدفق، ينبض بالحياة والطبع الوهاج، الممتلئ الوقاد؛ لأن الشعر الذي يقال على السجية والفطرة الطبيعية من دون تصنع هو ما يوصف بالشعر المحمود، والأسمى، كونه مستمدا من فيض العالم؛ لأنه يتجلى في الشكل الأكثر براءة وحميمية مع الذات.

وعن الرؤية الرومانسية في شعر العريض أشار فيدوح إلى تميز أعمال إبراهيم العريض بالمثول للفلسفة العاطفية التي قامت على أساسها الرؤية الرومانسية، فكانت أشعاره محورا للطبيعة التي عكست العواطف الذاتية، وعبّرت عن التجارب الجديدة، وعمقت نظرته في أسرار الكون، على عكس ما كان سائدا من قريض الشعر الذي لم يكن له نصيب من الفعل الشعري غير الكلام المطنب، ونقل الصورة الحسية إلى معانٍ مجردة، خاضعة للنظر العقلي، والنظم في التقفية، وفي هذا توافق مع الحقيقة الواقعة، واختلاف مع الإبداع الكشفي الذي يتعاطى مع الشعر كالحلم، يتخيل ما ليس موجودا، في صورة تقذف به خارج المكان والزمان، وهذه هي مهمة الشعر ودافعه الأول؛ وذلك ليتأمل في إمكانية خلق وجود غير الوجود العياني. ولعل الشاعر أكثر الناس تأملا في إخضاع قوانين الكون والطبيعة إلى المشاعر الذاتية، وأكثرهم تساؤلا عن معنى أسرارها، وهذا ما نهجه إبراهيم العريض الذي خالف معاصريه في ما كان سائدا من قيود وقوالب جاهزة، مقابل ما كانت تنادي به الرومانسية بنبراسها الوهاج عندما احتضنت الوجدانية الذاتية في رؤيا شاعرنا الذي فرضت عليه الرومانسية التحدي الأكبر في جل قصائده، وأخضعت سلطان مشاعره إلى عالمها الفياض بواسطة القلب، فاحتوته وسيطرت عليه كما احتوت قصائده أجواءنا وسيطرت علينا.

وعن دور العريض في الحركة الرومانسية أشار فيدوح إلى أن إبراهيم العريض أدى دورا فاعلاً في تطوير الحركة الرومانسية في الوطن العربي، على وجه العموم، وكان له إسهاماته المبكرة في الخليج العربي، وتحديث رؤيتها في البحرين على وجه الخصوص، وربط صلات القصيدة الرومانسية بالأحاسيس القلبية الرقيقة، فامتلأ شعره بفيض من الأجواء النفسية، رقة، وعذوبة، وخيالا. وشكل إبداعه شذوا في تذوق صوره، وشدوا في نبرات إيقاعه. ولعل ربط العلاقة بين هذه الثيمات في نبع شعره، وبالمستوى المميز الذي جاءت به قصائده، لابد وأن يكون صاحب هذا الشعر مدركا وشائج العلاقة بين الشعري والتشكيلي، وكأنك تقرأ قصيدة بظلال اللوحة التشكيلية؛ أو كأن القصيدة كتبت بالريشة الملهمة، فتغلفت الصورة بالظلال الوارفة، واللحن بالشجن، فدعت المتلقي إلى أن يحاور ما يقرأ، وكأن القصيدة تحكي الغائر بالمسبار على الرغم مما يبدو عليها من جمال خارجي يجعل القارئ يتذوق ما يبصر فيما يقرأ ظاهرا. وما كان لذلك أن يتحقق لولا خبرته الجمالية التي يؤسس التشكيلي أحد أبعادها، وربما لهذا الأمر نفسه تأخذ طبيعة الشعر مسافة بين الرؤيا والتعرف إلى مدركات الجمال.

وأضاف فيدوح لا أتصور أننا بحاجة إلى كثير من الجهد لاكتشاف معالم المنحى الذاتي في شعر إبراهيم العريض، وبقدر يسير من تحديد «المخاطب» في نصوصه ندرك انغماس الشاعر في الأشجان والسهاد كما يتجسد ذلك في جل قصائده التي عبّرت عن وجدانه وجسّدت صدق تصوير جوهر الأشياء. أضف إلى ذلك أنه استطاع أن يسبر غور ذاته من خلال تأمله في اكتناه عالم الطبيعة وتفريعاتها.

وقد بين فيدوح أن الشاعر يبني وجوده على الأمل، حيث المتوقع ممتلئ بكل ما في آفاقه من إشراق في صورة «أمل» التي حوّلته من الأرضي إلى السماوي، أو من الوارد إلى المحتمل، وهي صورة مستقاة من عالم الطبيعة بتفاصيلها الداعية إلى كل ما هو جميل، وباسق، وزاهٍ، وقد اتجه الشاعر نحو صورة الأمل، بوصفها تشكّل رمز نقاء مستقبل الوجود الإنساني بكل عنفوانه وكمال نضجه لتحقيق الرغبة المقصودة، والعمل الدؤوب لمعرفة العمق الملازم لوجودنا المنتظر، وإذا كان إبراهيم العريض يناشد الأمل فلأنه في جميع دواوينه يناشد بعمق الكلمة الصادقة فلسفة الحياة وحكمتها المتعالية بما يستوجبه وجودنا في تحقيق أسمى القيم الإنسانية.

وأكد فيدوح أن العريض كان شغله الشاغل الرغبة في اكتشاف المعنى الحقيقي للواقع الآخر المثال، عالم تدب فيه الحياة الطافحة بمذاق همس نبرات قصائده. هذا هو إيمان الشاعر الذي أراد أن يطرق ناصية الحقيقة عبر جسر عبق الشعر، وبما أنه يدرك أكثر من غيره ما يشكله الزمن في حياة المرء من متاعب كان عليه أن يتوجه إلى قناعة تقوده إلى أوبة الطفولة، حيث عالم الخيال المأمون، حين رأى فيه الحل الأنجع لتخطي الآني إلى الآتي، إلى حيث اللامحظور.

وعن محور المرأة في شعر العريض أكد فيدوح أن المرأة في شعر ابراهيم العريض هي الكون المتأمَّل، وإشراقة الحلم التي تبهج ملاذ الشاعر في لحظة الانتشاء، بينما تكون محاسن هذه الحبيبة الفاتنة، في المنظور المقابل، هي عري الكينونة في صفائها من رحيق أزهارها، يتضوَّع المسك منها طلبا للانتشاء. وليس غريبا من شاعر متمكن من نبرات إيقاع أوتاره الموسيقية أن يرسم صورة حبيبته المثال؛ ليلوح فِي الأُفُقِ قَوْس قُزحٍ أحلامه الوردية. وكلما تعمقنا في قصائد ابراهيم العريض اكتشفنا رغبته في تجاوز محن الواقع المعمول، إلى الكون المأمول، وتألق صفات هذا الكون في روح هذه المرأة المثال، لتعطي شهية أكثر لفعل إيقاع القصيدة من أجل أن يعلي من شأن الوجود في فوح نسيمه المشرئب. وليس أدل على ذلك من إغراق الشاعر في وصف الحبيبة في قرائنها الدالة لسمات محاسن الطبيعة الخلاقة، والمتوالية في أشكال متنوعة، لتعكس «أناه» في جنوح خياله إلى دفء السعادة المأمولة، حيث يوجد الأمل والتوحد المطلق مع شرايين الحب في جوهره.

وختم فيدوح محاضرته هكذا تتحول المرأة إلى الحلم الموعود، وإلى خلاص تتلهى به روح الشاعر، وتطلع إلى المستقبل حيث الانعتاق واللاتناهي إلى صهوة الرابية لينعم بما هو آت

هذا الوجود إطار لا كِفاء له

وغاية الفن فيه رسم حواء

إن التفاني في وصف المرأة بالنسبة إلى إبراهيم العريض تعلَّة للخلاص من عبء اليومي، وتعرية ما تتوجسه مشاعره، وفي كلتا الحالين يتسلل الشعر ليسكن عالم الشاعر، فتمتزج الرؤى بما يمكن للشبه أن يبلغ بينها مبلغه، إلى الحد الذي يمكن أن تتماهى صورة الخلاص بالمرأة مع عالمه المشرئب. ومن ثم تصبح المرأة هي البديل الافتراضي الذي تمكِّن الشاعر من تحقيق خلود ذاته، على الأقل من الناحية الإبداعية عبر جسر تواصل الأجيال، وهو إذ يسعى إلى خلوده، يحقق انتصار تحرر إبداعه من كل قيد زماني أو مكاني، وهو إذ يهتك أسرار البوح يجعل من أوتاره الموسيقية في قصائده متحررة كتحرر العصافير في تحليقها عبر فضاء الفيافي والأنهار؛ لذلك عبر الشاعر عما يعتقده مفقودا في ذاته من خارج ذاته؛ ليجده في المتخيل، في روح المرأة النموذج التي لا يشبهها شبه، ولا يعلو عليها قدّ.

العدد 2806 - الأربعاء 12 مايو 2010م الموافق 27 جمادى الأولى 1431هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً