العدد 793 - السبت 06 نوفمبر 2004م الموافق 23 رمضان 1425هـ

حرب «الحريات» الأهلية بين «الوطني» والدولي

محمد صادق الحسيني comments [at] alwasatnews.com

تعيش أقطارنا العربية والإسلامية ما يمكن الاصطلاح عليه مجازاً بـ «حرب أهلية فكرية» محورها الرئيسي هو موضوع الحريات.

فالنخب السياسية تخوض صراعات عميقة وقوية فيما بينها بشأن محور حرية الرأي والتعبير والعمل السياسي الحر وحق الاختلاف.

والقوى أو المنظمات أو الأحزاب الدينية تخوض جدلاً حاداً وواسعاً بشأن نوع أو شكل الدين أو الإسلام - تحديداً - الذي ينبغي عرضه على الناس في الداخل وعلى العالم الخارجي. وجمهور الرأي العام يتجاذب أطراف الحديث أو يتفاوت في السلوك والتعامل فيما بينه بطرق وأساليب ولغة خطاب لم تعد تقتصر على التعدد والتنوع بل باتت تقترب في كثير من الأحيان بانقسام حاد يقترب من القطيعة أحياناً بين الأجيال وأحياناً أخرى بين الفئات والطبقات الاجتماعية المختلفة إلى درجة القطيعة القاتلة.

في مواجهة هذه الحال المتوترة وغير المستقرة بل والمضطربة أشد الاضطراب كيف يمكن تجاوز تداعياتها العامة والتي غالباً ما تعتبر خطيرة على مستقبل مجتمعاتنا ووحدتها وأمنها واستقرارها؟

ثمة من يعتقد أن الظاهرة بحد ذاتها طبيعية وغير مقلقة ولا ينبغي التشاؤم بشأنها بل اعتبارها فرصة تاريخية يجب استثمارها في إطار تجربة الخطأ والصواب وعلى مدى زمني طويل إلى حين نضوج مجمل المجتمع ورسوه على شاطئ الأمان والاستقرار المؤسساتي القائم على مبدأ صيانة الحريات وأصلها الثابت الذي لا ينبغي التفريط به أو قمعه بحجة الدفاع عن الوحدة والأمن العام واستقرار المجتمع!

في المقابل ثمة من يرى في الظاهرة السالفة الذكر مؤشراً خطيراً على فساد المجتمع ووجود اخطار إضافية داهمة تهدد مجموع الأنظمة الاجتماعية التقليدية والنظام العام، ما يتطلب «قمع» هذه الحريات تحت شعار أو في إطار ضرورة وقف التدهور الحاصل في العملية التنموية العامة وانحرافها عن أهدافها المرسومة لها بحسب المقولات الدينية والثقافية المتوارثة!

ازعم بالمقابل أن هناك تياراً متنامياً في صفوف العامة والنخب الوطنية والإسلامية في أقطارنا المختلفة بأن المسألة في جوهرها إنما هي مشكلة حادة ومعقدة ومركبة أعمق من أن تُبسط بالطريقة الاستقطابية التقليدية المشروحة أعلاه.

أي اما أن تترك الأمور هكذا على عواهنها من دون أي رادع أو «ضابط» أو توجيه مسئول أو يتم التعامل معها بقسوة وجفاء وعدم انصاف تصل إلى حد القمع العاري. وتالياً اما أن تضيع القيم والمقولات الدينية والإسلامية الإيجابية التي توارثناها جيلاً اثر جيل بحجة الدفاع عن مبدأ الحريات أياً كانت وكيفما كانت تاركين قانون الخطأ والصواب والتجريبية المطلقة تتحكم في مستقبل مجتمعاتنا العربية والإسلامية.

أو أن تضيع الحريات وتغلق الأبواب على مجتمعاتنا ونخسر كل إمكانات الإبداع والاجتهاد وتفعيل العقل وهي صفات أساسية من صفات المؤمن والمتدين أصلاً خلافاً لما يشاع بوجود تناقض بين الدين والعقل أو الشرع والتفكير الحر، وكل ذلك بحجة الدفاع عن أصل الدين ونصوص الشرع أو المقولات والأعراف والتقاليد الوطنية والإسلامية.

هذا الطريق الثالث الذي ازعم أنه حبل النجاة لمنظومتنا العربية والإسلامية في التعامل مع موضوع الحريات العامة التي لم تعد تقبل التعريف المبسط لا من قبل غير المتدينين ولا من قبل المتدينين، ألخصه مجازاً بشعار «الحريات المسئولة» أو الحريات المنضبطة.

صحيح أن الحرية هي الحرية، وأن الدين هو الدين وأن الديمقراطية هي الديمقراطية، وأن حرية التعبير هي حرية التعبير وسائر المقولات الأخرى المتشعبة عن موضوع الحرية أو المرتبطة بها لكن الصحيح أيضاً وهنا بيت القصيد هو اننا لسنا أو لا نعيش في ظروف أو محيط أو فضاء نقي أو منسجم أو مثالي بحيث يمكن تناول أو تطبيق هذه المقولات في إطار «مختبري» تتوافر فيه كل الظروف النظرية المجردة المرتبطة بهذه المقولات.

نحن لسنا في مجتمعات إسلامية أو دينية تماماً. كما نحن لسنا في مجتمعات حداثية أو غربية تماماً.

إضافة إلى اننا لا نعيش في مجتمعات معزولة تستطيع أن تحمي نفسها أو تحصن نفسها بالطريقة التي تشاء ومتى تشاء أو تفتح أبوابها متى تشاء وبالقدر الذي تشاء!

من مجموع ما تقدم يظهر اننا نعيش في مجتمعات متداخلة أشبه بالمرايا المتكسرة. ولما كان الوضع العام أو المحيط العام الذي تنضوي تحت سقفه مجتمعاتنا العربية والإسلامية هو وضع تظهر فيه المعادلة العامة - الدولية - مختلة تماماً لغير إرادتنا أو قدراتنا الوطنية سواء الخاصة بكل قطر من أقطارنا أو حتى مجموع أقطارنا العربية والإسلامية، ما يعني إمكان توظيف أي شعار أو أي إجراء أو أية ممارسة مهما تكن «نقية» ومهما تكن صحية أو صحيحة في إطار ما هو متعارف أو مقبول أو مطلوب لدى الطرف الآخر من المعادلة صاحب الوزن القوي والمقتدر والتعسفي في طبيعته أصلاً، فإن ذلك يدفعني إلى ضرورة الانتخاب الحذر والمحسوب والواعي منذ البداية لكل مقولاتي وفي مقدمتها مقولة الحرية أو الحريات العامة أو الحريات السياسية الخاصة حتى لا يتم سرقها أو اختطافها أو توظيفها من قبل الطرف الآخر المختلف عني في نشأته وطبيعة مجتمعه وأهدافه العامة والتي غالباً ما كانت حتى الآن «عدوانية» أو كحد أدنى استعلائية وهيمنية.

من لا يصدق هذا الكلام فلينظر إلى أي مثال جزئي أو كلي يعجبه ويقارن بين ما بدأت به النخب المحلية والوطنية من مهمات وأهداف للإصلاح والتغيير في بلادها وبين ما وصلت إليه! ومجال الخيال هنا واسع بسعة خريطة الوطن العربي والإسلامي.

لست من دعاة السكون والانتظار السلبي والدعة والركون إلى الظروف الاستثنائية والحساسة والخطيرة التي غالباً ما تستند إليها نخبنا الحاكمة لمنع التغيير والإصلاح. كما لست في المقابل من دعاة القفز فوق كل ما هو متعارف عليه وحرق المراحل والقطع مع كل ما هو قائم من أجل نيل الحرية أية حرية كانت حتى لو تمزق المجتمع وذهب إلى جهنم وبئس المصير! كما يفضل بعض الغلاة والمتطرفون! بل انني مع التغير والإصلاح المسئول

إقرأ أيضا لـ "محمد صادق الحسيني"

العدد 793 - السبت 06 نوفمبر 2004م الموافق 23 رمضان 1425هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً