العدد 810 - الثلثاء 23 نوفمبر 2004م الموافق 10 شوال 1425هـ

غربة الدار والوطن

عبير إبراهيم abeer.ahmed [at] alwasatnews.com

سافرت إلى بلاد عدة، واستقر بها المقام في إحدى الدول العربية إذ أتمت دراستها ونالت أعلى الشهادات... كونت عدة صداقات وعلاقات حميمة مع أناس لا تجمعها بهم إلا صلة العروبة والدين، ومع ذلك كانت دوما تكرر «معكم لا أشعر بالغربة، أنا هنا وكأني في دياري بين أهلي وإخوتي، وقبل كل ذلك كأني في وطني، فأنا أشعر بالانتماء إلى هذه الأرض التي يعدها زائروها غريبة انتماء المواطن إلى وطنه»... أنهت الدراسة وكم فرحت بما نالته من مكانة علمية عالية جعلت تلك الدولة المستضيفة تعرض عليها أرقى الوظائف وبأعلى راتب، ولكنها وفي لحظة الغيرة على الوطن ونزعة الانتماء إليه أبت إلا أن تفرغ كل طاقاتها وتوظف كل ما تزودت به أكاديميا في خدمة وطنها الأم الذي وإن سافرت ورحلت عنه سنوات وسنوات تبقى منتمية إليه قلبا وقالبا فهي ما رحلت عنه إلا لتعود إليه وهي رافعة الرأس مزودة بأعتى الأسلحة التي قد ترقى بوطنها إلى مصاف الدول المتقدمة.

حزمت حقائبها وعادت أدراجها إلى الوطن الذي استقبلته بكل شوق وأمل ببدء العمل على تفريغ تلك الطاقات التي خزنتها بداخلها لسنوات وأبت إلا أن يكون الوطن موضع تفجيرها... في صباح اليوم الثاني من وصولها جهزت حصيلة سنين الغربة وبدأت رحلة أخرى لا تتعدى حدود الوطن.

في البداية سجلت قائمة بأرقى الشركات التي من المفترض أن تحوي وظائف تتناسب مع ما درسته... وكم رحب بها في تلك الشركات وخصوصا بعد الاطلاع على أوراقها التي تمثل شهادة العبور لكل وظيفة مناسبة ومن دون عميق تفكير، ولكن للأسف إذ يبدو أنها قدمت متأخرة بعض الشيء فلم تجد ولا وظيفة واحدة شاغرة وكل ما تردد على مسامعها «ما شاء الله، هذا فعلا ما كنا نبحث عنه من زمان ولكن اصبري قليلا إلى حين إيجاد شاغر وظيفي يليق بإمكاناتك»... (ويا طول الصبر مع انتظار الوظائف)... لم تيأس، ولم تركن في البيت لتقبر معها شهاداتها وإنما قالت لأسعى للحصول على أيتها وظيفة وفي أية شركة كانت... بحثت وبحثت وأتاها الجواب «نحن نفخر بأن ينضم إلينا شخص ذو مؤهلات مثلك ولكن يؤسفنا أنه لا توجد لدينا وظائف تتناسب مع مؤهلاتك ولا يمكننا منحك راتبا يتوافق مع ما تحملين من شهادات»... حينها قررت أن تقتحم الشركات بمختلف المستويات لترى السر وراء صفوف العاطلين الذين تفاجأت بأعدادهم الهائلة فور عودتها إلى الوطن وأملت أن تشفع لها شهاداتها في الحصول على وظيفة تبعدها عن الانضمام إلى تلك الصفوف المرعبة... ولكن هيهات.

تنكرت صاحبتنا بمختلف الشخصيات لكي تكشف عن السر... وبعد رحلة ليست بمضنية كشفت عن المخفي وراء حيطان غالبية الشركات إن لم يكن كلها... فتلك الشركات ازدحمت بجنسيات مختلفة هذا انجليزي وذاك عربي والآخر ياباني وصيني والغالب الأعم هندي! وفي وسط ذلك الزحام بحثت عن مواطنيها فلم تجد إلا قلة تحتل المراتب الدنيا وقد ارتسمت على وجوهها علامات البؤس والشقاء والإحباط... راحت تبحث في أوراق هؤلاء العاطلين ليس لشيء إلا للوقوف على الحقيقة وإيجاد مجال للإنصاف... فرأت العجب العجاب هذا يحمل الماجستير وذاك الدكتوراه وذاك البكالوريوس... وهذا تخرج مهندسا وذاك فنيا وغيره طبيبا ووو... حتى أنها لم تجد تخصصا واحدا يفتقد شهادته أحد هؤلاء العاطلين... فكل ما هو مطلوب موجود ولكن الوظائف تذهب إلى أناس آخرين غرباء قد يكونون أقل موهبة ومهارة وربما خبرة من المواطنين.

حينها لم تجد صاحبتنا بداً من رفع الراية البيضاء، وتغليف شهاداتها بغلاف من البلاستيك حتى لا تجور عليها عوامل الزمن وانضمت إلى صف أبت بداية الانضمام إليه... ولكنها مع مرور الوقت ضاقت بها الدنيا وسئمت اللف في الشوارع، فكل شيء وكل مكان يجعلها تشعر بأنها في غربة ما كانت لتشعر بها فترة سفرها عن الوطن فعلا... في الشركات... في الأسواق... في المدارس... في الشارع... وحتى في البيت... وما فتئت تتساءل: أينني والغربة؟ غربة السفر... أم غربة الدار والوطن؟ ومن الغريب: أأنا - المواطن - أم هؤلاء الذين يسمون بأجانب؟ عندها فقط قررت حزم حقائبها من جديد ورحلت من وطن كان يسمى وطنها وعادت أدراجها إلى وطن احتضنها فترة وسيكون وطنها بعد الانسلاخ من غربة الدار والوطن الأول

إقرأ أيضا لـ "عبير إبراهيم"

العدد 810 - الثلثاء 23 نوفمبر 2004م الموافق 10 شوال 1425هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً