أنا مواطن بحريني أبعث برسالتي هذه إلى المعنيين في وزارة التربية والتعليم... علماً بأني بعثت بعدة رسائل إلى الوزارة من أجل لقمة العيش الكريم، والبعد عن آفة الفاقة والعوز، وكانت الرسائل كلها تنعى ظروفي القاسية التي أمر بها وجميع أفراد أسرتي... طرقت أبواب جهات عدة في الدولة بعضها يباع فيها ماء الوجه، وبعضها ألاقي منها السخرية... لماذا؟ لأني معوق!
وإذ إن هذه الرسائل - على ما أظن - لم تلامس أيدي المعنيين الكريمة، وإن لامستها فإنها لم تحرك مشاعرهم الصافية، لذلك قررت انتظار الوقت المناسب لإرسال رسالة تصف حالي البائسة علّني أجد من يتكرم علي بالعطف ومساعدتي في حل معضلتي، ولذلك لم أجد أنسب من هذه الأيام الكريمة التي انصرمت، ففي صبحها جوع وعطش يذكر بالفقير الذي يقضي معظم أيام سنته جائعاً، وفي ليله ذكر وقرآن يهز مشاعر المؤمن ويرجعه إلى رب العباد.
قصتي أن والدتي أنجبت طفلاً معوقاً بضعف في البصر... وكبر هذا الغلام الذي رافقته الإعاقة طيلة سنوات عمره، فتعايش معها صابراً محتسباً، فتلقى العلم مثابراً وتخطى المرحلة الإعدادية مع زملائه في معهد النور، ثم انطلق مسرعاً نحو المملكة العربية السعودية كي يكمل دراسته الثانوية العامة... ولحصوله على معدل اختارته وزارة التربية والتعليم مع نخبة من زملائه لابتعاثهم إلى الجامعة، وبدوره أنهى دراسته الجامعية بتخصص في الدراسات الإسلامية، ودرس الحاسوب والبدالة كي يكون له نصيب من الكعكة في هذه الدنيا. وكان متفائلاً، يرى أن العلم هو المنقذ من الفقر الجاثم على صدور أفراد أسرته ولكنه مع الأسف الشديد تفاجأ بعزم وزارة التربية (إدارة شئون التوظيف) على تهميشه، واعتباره عالة ممقوتة بليت بها أسرته المعدمة، ويجب أن يقضي حياته المريرة بالقهر الحرمان، ولا تشفع له شهاداته أو قراطيسه التي لا تغني ولا تسمن من جوع. ومادام حرم من نعمة حدة البصر فليحرم من حقوق العمل الشريف، وأكل اللقمة النظيفة، والإنتاجية لخدمة وطنه، وكأنه هو المبتدع لهذه الإعاقة الممقوتة! فلا يحسن القراءة بكلتا عينيه، ولا يجيد الكتابة كما يفعل المبصرون.
إن هذا المشهد المأسوي يدعو للغرابة فعلاً، لأنه يتعارض مع القيم الإنسانية، والمواقف التعليمية النيرة التي تغرسها الوزارة في النشء منذ نعومة أظفارهم... المثابرة «يا طلاب» والطموح «يا طلاب» وغير ذلك. أو بدعوتهم إلى النهل من سِيَر العظماء الذين كان لهم قصب السبق، أو التأمل في حس الإنسان ومكانته الأدبية كالشاعر بشار بن برد وأبي العلاء المعري الكفيفين، وما أشد غرابتي من دعوة ذلك النشء الغض عبر منهجنا إلى أخذ سيرة العلم والمثابرة من «كتاب الأيام» للأديب طه حسين الذي بجده تبوء مكانة وشرفا رفيعا فأصبح وزيراً للمعارف في جمهورية مصر العربية، كيف؟! لأن المسئولين في ذلك البلد العربي لم يتنصلوا من تشجيع ذلك الإنسان!
وأتيهُ في الاستغراب عندما أجد دولاً تقدر عادة الإنسان بما يحمل من علم و ثقافة، فنجد على سبيل المثال وزير الداخلية البريطاني الكفيف أو أجد معلميّ الأفاضل في المعهد السعودي معظمهم من المكفوفين، كما أجد مدير المعهد الديني الذي ابتلي بهذه الإعاقة.
تلك هي مأساتي التي أثقلتني بهموم البطالة والدونية في التعامل والقهر. نعم، فأنا كنت في دراستي مثابراً طموحاً، واليوم بعد إنهاء دراستي الجامعية أصبحت عالة على أسرتي الفقيرة، وعبئا على والدي المتهالك المتقاعد!
ألم أكن مثل من ضحك القدر والعطف في وجهه، وهو أحد زملائي الذي ابتلي بإعاقة في البصر أشد مني إذ لا يرى النور اطلاقا، لكنه وظف في المعهد السعودي البحريني مطلع شهر رمضان الكريم المبارك!
ماذا أفعل؟! إن الجوع والحرمان والتنكر هو ما دفعني لكتابة هذه الرسالة لعل الشفقة والعطف ترفع من قدري وتبث البسمة في قلبي المحطم، فأنا صورة إنسان مكلوم يخيم القهر على كل حياته البائسة، ولا يشفع له المؤهل الجامعي الذي حصل عليه من جامعة بلاده ولا جنسيته، لأنه ضعيف بصر!
نعم، أنا أخاطب المعنيين في الوزارة كي يتكرموا بأية وظيفة مناسبة مثل معلم في الثانوية العامة لقلة اعتماد تلاميذها على المحسوسات وانتقالهم إلى مرحلة المجردات، أو أن تجدوا لي مكاناً شاغراً في مركز مصادر التعلم أو تجعلوني مشغلاً للبدالة أو حتى مراسلاً في الوزارة أو فراشاً، لكي لا أمد يدي في شوارع بلادي وأنا أرفع على صدري مؤهلي أو بيع ماء وجهي لأتقوت وتتقوت أسرتي.
إني في مملكة الكرماء والمكارم! ولا أخجل في التعبير لكم عن مأساتي بأن أقول إن المسكين الذي لا ذنب له في الإعاقة هو أنا!
(الاسم والعنوان لدى المحرر
العدد 822 - الأحد 05 ديسمبر 2004م الموافق 22 شوال 1425هـ