العدد 825 - الأربعاء 08 ديسمبر 2004م الموافق 25 شوال 1425هـ

أي اعتدال فلسطيني هو المطلوب؟

صلاح الدين حافظ comments [at] alwasatnews.com

عَلَت الاصوات الكثيرة أخيرا تطالب الفلسطينيين بالاعتدال، وتحضهم على المرونة، بعد التغير الرئيسي الذي حدث، وهو غياب الزعيم الفلسطيني ياسر عرفات، الذي كان متهما بالتصلب والعناد واختلاق العقبات أمام السلام!

ومن دون أن يطالب أحد الطرف الآخر وهو الاسرائيلي باعتدال مقابل ومرونة موازنة فإنني أخشى ان يكون الاعتدال المطلوب من الفلسطينيين هو التفريط في جوهر قضيتهم، وهو التسليم بالسلام الاسرائيلي الأميركي المفروض عليهم، وهو أمر لا تقبله الغالبية الساحقة من الفلسطينيين والعرب وأنصار الحرية في العالم كله!

والواضح ان غياب عرفات قد ترجم في الدوائر الاسرائيلية والأميركية خصوصاً، على انه انتقال من التصلب الى الاعتدال، ذلك أن هذه الدوائر وضعت عرفات دوماً داخل اطار واحد ضيق من التوصيف، بما في ذلك وصفه بالقاتل والارهابي، المعرقل لمسار التسوية السلمية «التاريخية» الذي أجهد جهود رئيسين أميركيين متتاليين، هما كلينتون ثم بوش، من أجل تحقيق مصالحة تاريخية بين الفلسطينيين والاسرائيليين!

وعلى هذا الاساس انطلق الوحش الاسرائيلي بكل عنفوانه العدواني يقتل ويغتال ويذبح ويدمر الشعب الفلسطيني تحت سمع وبصر العالم، وبمباركة وتشجيع أميركي صريح، وصمت عربي مخجل، بينما فرض الرئيس الاميركي بوش خصومة شخصية وعزلاً سياسيّاً على عرفات، فوق العزل والحصار الاسرائيلي له في مكتبه برام الله... والنتيجة المأسوية معروفة، فقد مات الرجل كمداً أو مات مسموماً لا فرق!

وعلى رغم أنني دوما من تيار الاعتدال في كل شيء في الحياة فان مفهوم الاعتدال المطلوب الآن من القيادة الفلسطينية الجديدة أصبح تحديده مطلوباً وبالحاح، حتى لا تختلط المفاهيم وتضيع المعاني، ويسير الاعتدال في طريق التسليم والتفريط في صلب القضية الوطنية والقومية وجوهرها.

هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى فإن مطالبة الفلسطينيين بالاعتدال والمرونة حتى بأحسن المعاني، وترك الاسرائيليين على جنونهم الدموي الظاهر لكل عين، يعني اخضاع «المعتدلين» لقهر «المعتدين» المتطرفين، ويعني فرض الهزيمة على أصحاب قضية وطنية شامخة، لصالح منطق العدوان بقوة السلاح الغاشم.

ومن ناحية ثالثة، فإن مطالبة الفلسطينيين بالقاء السلاح ووقف الانتفاضة، واسقاط خيار المقاومة نهائيا من أجندة كفاحهم الوطني، بحجة الاعتدال، «ونبذ الارهاب» وتفكيك المنظمات المسلحة المتطرفة، وفق المفهوم الاسرائيلي الأميركي شرطاً مسبقاً لقبول الاسرائيليين بالجلاء المشروط عن غزة، وربما بتخفيف الحصار والاحتلال للضفة الغربية المحاصرة كاملة فيما بعد العام 2000، إنما يعني أيضا تعرية هذا الشعب المقهور من آخر أسلحته في الدفاع عن قضيته وعن حياته اليومية، من دون الحصول على حقوقه المشروعة التي نصت عليها قرارات الأمم المتحدة، وخصوصا اقامة دولته على كامل الأرض التي احتلتها «إسرائيل» بعد عدوان 1967 بما فيها القدس.

وأظن ايضا ان هذا أمر يدخل في باب التعجيز والتعسف، فضلاً عن القهر والعدوان وفرض القوة المسلحة المفرطة، على الحق القانوني الانساني.

ولذلك فإن طلب الاعتدال، يجب أولا أن يحدد معناه ومفهومه بدقة، ويجب ثانياً ان ينطبق على طرف الصراع بالدقة نفسها وبالمعايير ذاتها، حتى لا يتصور أحد أن بإمكانه فرض إرادة الأقوى على الأضعف، بمباركة دولية شرعية أو قانونية أو سياسية وحتى لا ينساق تيار من داخلنا وراء تصور كاذب بأن الوقت الراهن بمتغيراته فرصة ذهبية لتسوية الصراع بأي شكل وبأي ثمن!

ولعل هذه هي المعادلة الصعبة بل المعضلة الكبرى التي تطوق أعناق القيادة الفلسطينية الجديدة، المكلفة حمل اثقال القضية الوطنية، في مرحلة ما بعد عرفات... معادلة ومعضلة لأنها تتراوح ما بين الاعتدال المؤدي الى التفريط والتسليم أو التمسك بالمرونة المؤدية الى حلول وسط يقبل بها الطرفان المتصارعان، فتكتسب شرعية واستمرارية.

ومن السابق لأوانه ان نصدر أحكاما، على سياسات القيادة الفلسطينية الجديدة، لسبب جوهري وهو ان انتخاب رئيس السلطة الوطنية الفلسطينية سيتم بعد شهر بالضبط من اليوم في التاسع من يناير/ كانون الثاني 2005، وان هناك عشرة مرشحين للمنصب لكل منهم توجهه وفكره، وان غياب الزعيم التاريخي عرفات، الذي ظل ممسكا بكل الخيوط على مدى 40 عاماً قد ترك فراغاً هائلاً أتاح لأطراف عدة اللعب فيه بحرية لم تكن متاحة، ومن ثم سيخلق أوضاعا وتوازنات وقوى جديدة في المجتمع الفلسطيني تسعى كل منها إلى ركوب السلطة وإدارة الصراع وفق مفاهيمها المختلفة.

لكن القراءة الأولية للخريطة الفلسطينية، تظهر ان حركة «فتح» كبرى المنظمات الفلسطينية مازالت الأقوى، ومرشحها محمود عباس «أبومازن» هو الاوفر حظا، على رغم انها تواجه تحديات كبرى، سواء من داخلها عبر الاجيال الفتحاوية الجديدة، ومروان البرغوثي احد رموزها أو من خارجها من خلال الصعود الكبير للتيارات الاسلامية، ممثلة في حركتي حماس والجهاد، ولكل من هؤلاء المتحدين الصاعدين سياسات لا تتفق كثيرا مع السياسات التقليدية لفتح، وخصوصا في إدارة المجتمع الفلسطيني من ناحية، وفي إدارة الصراع على «إسرائيل» من ناحية ثانية، فضلا عن خلافاتها الشديدة على «أبومازن» شخصيّاً.

ولكي لا نتجنى على هذا الطرف الفلسطيني أو ذاك فإننا يجب ان ندرك اولا ان الانتخابات الرئاسية في يناير المقبل ثم البرلمانية والبلدية في منتصف العام المقبل، تجرى وسط عوامل شديدة التأثير أهمها باختصار:

1- أنها انتخابات تتم تحت عدوان الاحتلال الاسرائيلي المقيم الذي يتفنن في وضع العراقيل واختلاق الصعوبات والعقبات مثلما يتلذذ بالقتل والتدمير والتشتيت للشعب الفلسطيني.

2- انها تتم في مجتمع ممزق بشريا وجغرافيا بفعل الاحتلال وفي كيان لم يكتمل الى مرحلة الدولة، التي تضع البنية الاساسية والسياج السياسي والقانوني الشرعي، لاجراء انتخابات حرة، ووسط حال السيولة وربما الفوضى، التي تغيب فيها السلطة الحقيقية للدولة، المنظمة والمسئولة، يصبح لحرية الانتخابات ونزاهتها معنى مختلف.

3- انها تتم في ظل مقاطعة نحو نصف الشعب الفلسطيني، سواء الذين يحرمهم الاحتلال من حرية الحركة والتنقل، أو من جانب المعارضة الفلسطينية، وخصوصا حماس والجهاد، المراهنين على المقاومة المسلحة المصرين على استمرار الانتفاضة، خيارا رئيسيا لاجبار المحتل على الانسحاب وقبول السلام العادل.

4- انها تتم في ظل ضغوط اسرائيلية اميركية طاغية تريد اجبار القيادة الفلسطينية الجديدة على القبول بالسلام الاسرائيلي، على حساب السلام الفلسطيني، وهي ضغوط للأسف تجد قبولا من بعض الاطراف العربية، التي تلتقي مع التوجهات الاميركية من ناحية، والتي طالما انتقدت «تصلب» عرفات متهمة اياه بأنه استاذ اضاعة الفرص، من ناحية أخرى.

واستنتاجا من هذه العوامل الأربعة السابقة، نستطيع القول ان الانتخابات الفلسطينية، ستجرى في مناخ غير طبيعي، وفي غياب ضمانات مستقيمة تكفل لها الحرية وتسمها بالديمقراطية، «هل هناك حرية وديمقراطية تحت قهر الاحتلال وعدوانه اليومي؟»، ولكنها على كل حال «انتخابات الضرورة» التي فرضتها المتغيرات الجديدة، ونعني ضرورة انتخاب رأس للسلطة الفلسطينية، يتحمل المسئولية ويدير الصراع على العدو الاسرائيلي سواء عبر المقاومة والانتفاضة، أو عبر المفاوضات أو بهما معاً.

ولا شك ان الرئيس الجديد المنتخب في ظل كل الظروف المعقدة هذه، سيعاني ارباكات شديدة وربما يدخل في صدامات عنيفة، كانت دوافعها وأسبابها مكتومة تحت «الغطاء العرفاتي» في الماضي لكنها ستجد الآن فرصة التبلور والظهور فما كان مكتوماً في ظل القبضة الحديد لعرفات، أصبح الآن طليقا في الوضع الجديد مهما كان اسم الرئيس الجديد.

ولا شك ايضا ان وضع محمود عباس «أبومازن» اذا نجح في الوصول الى رأس السلطة، سيكون اشد حرجا، لسببين متناقضين، أولهما ان «إسرائيل» وأميركا وكثيراً من العرب، يراهنون على «اعتداله» نقيضا «لتصلب» عرفات، ولذلك سيضغطون عليه ويبتزونه حتى يدخل بيت الطاعة.

وثانيهما ان المعارضة الفلسطينية سواء من داخل فتح أو من حماس والجهاد وغيرها من المنظمات الفلسطينية المعارضة، ستراهن على احراجه بالاختبارات المتتالية وارباك خطواته نحو «الاعتدال - التسوية المعروضة» وهو أحد مهندسي اتفاق اوسلو 1993 ليروا هل ينجح في الاختبار أو يسقط!

بقي ان نذكر ان اتهام «إسرائيل» وأميركا لعرفات بالتصلب - الارهاب، كان قائما على اساس انه متمسك بالثوابت الرئيسية لقضيته الوطنية، وهي اقامة الدولة الفلسطينية المستقلة على غزة والضفة الغربية التي احتلتها «إسرائيل» العام 1967 والتمسك بحق عودة اللاجئين المشردين وعدم التفريط في القدس عاصمة مقدسة للفلسطينيين والعرب مسلمين ومسيحيين والاصرار على حق الشعب في المقاومة والانتفاضة دفاعا عن حقوقه المشروعة التي كفلتها القرارات الدولية، وعدم قبول السلام الاسرائيلي وخصوصاً الذي عرضه شارون، باقامة كيان فلسطيني على 11 في المئة فقط من فلسطين، تستبعد منه القدس تماماً، وتمزقه المستوطنات والمعسكرات الصهيونية. فان كان ذلك هو تصلب عرفات في الماضي، فما هو يا ترى الاعتدال المطلوب من القيادة الفلسطينية الجديدة في المستقبل؟

وأخيراً... نقول ان لم تكن لدينا كلمة حق شجاعة نقولها في وجه سلطان جائر وعدوان غادر، فلنرفع كل الأيدي عن الشعب الفلسطيني حتى يدير صراعه بإرادته القوية ومقاومته الحديد، بعيداً عن المواعظ الكلامية!

خير الكلام

يقول الإمام علي:

احذروا صولة الكريم إذا جاع واللئيم إذا شبع

إقرأ أيضا لـ "صلاح الدين حافظ"

العدد 825 - الأربعاء 08 ديسمبر 2004م الموافق 25 شوال 1425هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً