العدد 2388 - الجمعة 20 مارس 2009م الموافق 23 ربيع الاول 1430هـ

دور المؤسسات العلمية والدينية في ترسيخ أواصر الحوار الحضاري

غير بعيدٍ عن ذاكرة الإنسان ما تمثلهُ مؤسسات المجتمع المدني العربي والإسلامي على صعيد التواصل الحضاري بين مختلف ثقافات الأرض، تعبيدا لدروب الحوار والالتقاء في وجهات النظر والتحاور القائم على الاحترام المتبادل بين المكونات الثقافية والدينية والحضارية في عالمنا الكبير.

مؤسسات المجتمع المدني مكونٌ حقيقي وفاعل لبلورة هذا الحوار بين الأطراف ذات الصلة، بلحظ ما تحمله تلكم (المؤسسات) الإنسانية بين جنباتها من أجندة عملٍ على خريطة الواقع الاجتماعي، التربوي، الاقتصادي، السياسي، التطوعي، الخيري،...إلخ، وما تندرج ضمن هذه العناوين من مفردات متشعبة.

وبالتالي فهي المعبِّر الحقيقي والواجهة الناصعة لكل هموم الأمة وآمالها، وهي النبض المختزن في ضمير الشعوب بصرف النظرعن مضامين ذلكم الشعور وذلكم الهاجس، بلحظ أنّ مؤسساتنا الإنسانية تُعايش همومنا، وتلامس آلامنا وآمالنا، وتتقاسم معنا مرارة العيش وضنكها، ولا تنفكُ أن تستشعر وتقرأ تقاسيم الأمة و كل ما يجول في ثناياها، ولا أخال عاقلا يُغفل دورها الريادي في تقريب وجهات النظر المتباينة في مجتمعاتنا الصغيرة، فضلا عن المجتمع الإنساني الكبير المشحون بالتجاذبات والتقاطعات العقائدية والدينية والعرقية، ...إلخ. فهي بحق امتداد وأرضية خصبة للتواصل الحضاري واللقاءات الفكرية والحوارية بين نخب الأمة ومثقفيها على المستوى المحلي للمجتمع، وعلى مستوى الحوار الحضاري الشامل.

مؤسسات المجتمع المدني والأهلي و ابتداء بالمؤسسة الدينية، مرورا بمؤسسة الجامعة والمعاهد ومراكز الدراسات والبحوث، وانتهاء إلى الجمعيات السياسية والمراكز الاجتماعية والعلمية، كلها تستطيع إذا ما وضعت ضمن برنامج عملها الآني والمستقبلي أن تؤسس الأرضية الملائمة الصحيحة التي من خلالها يبذر الحوار والتلاقي والتشاور في كل الشئون والقضايا التي تهم الأمة، ونحصد بعد ذلك ثماره مستقبلا، من خلال إقامة ندوات ولقاءات فكرية وثقافية تجمع بين ظهرانيها مختلف التوجهات والتلاوين وإعطاء مساحاتٍ للحوار البّناء بين المفكرين والمثقفين.

بمقدورنا أن نصل إلى نقاط التقاء وقواسم مشتركة، وما أعظم المفردات التي تجمع الشتات الحضاري تدمجه وتقرب من وجهات النظر والأفكار، ولكن لسوء تقدير أو لتقاعسنا عن هذه المهمة في أحايين كثيرة نذهلُ قاصدين عن المشتركات الكثيرة و نتشبث بالسفاسف من القول والفعل.

لماذا لا نؤسس الكادر الواعي المنتج بدل أن نستعديه على فكرٍ أو أيدلوجيا لا نرتضيها بيننا؟ أليس ذلك أجدى من أن تشغلنا المشاحنات و المجادلات، في الوقت الذي فيه غيرنا يبني و يطوّر ويبتكر، لماذا لا نخلق الجيل الذي ينظر للعالم كله من أقصاه إلى أقصاه كـ (وطن) واحد فلا حدود ولا جغرافيا، وكل البشر هم إخوة وأخوات، وكل مقدّرات العالم وثرواته هي ملك للإنسان، لاتسّلط ولاهيمنة على مقدرات الشعوب والأمم من قبل أي دائرةٍ أو قوةٍ تزعم لنفسها الانفراد في القرار وفي المصير لشعوب الأرض.

لماذا لا تعمل مراكزنا العلمية في عالمنا العربي والإسلامي مع الأمم المتحدة و»منظمة اليونسكو» في إعداد خطة عملٍ تقوم على وضع دراسات و بحوثٍ تُعنى بالحوار بين الحضارات و يتم تعميمهُ و تدريسهُ في شتى الجامعات في العالم وهو من أظهر مجالات التواصل الحضاري بين الثقافات الإنسانية، ومن شأن ذلك في المستقبل المنظور أن يؤسس جيلا إنسانيا يفهم بعضه بعضا حتى لو وجدت اختلافات هنا أوهناك، ولكن يلتقون ويتحاورون على الصعيد الإنساني العام.

مؤسسات المجتمع المدني بكل توجهاتها المختلفة تمثل حلقة وصلِ مع العالم الآخر، و باستطاعتها أن تعمل على الجبهة الداخلية و هي (الأمة) في تكريس معنى الحوار الحضاري وماله من مردوداتٍ صحيحةٍ وعقلانيةٍ على مجتمع الإنسان ككل من خلال إقامة ندواتٍ و لقاءاتٍ وحوارات تجمع أولى الشأن، ما يُدعمُ ويعطي الشرعية والصدقية في عملنا على الجبهة الخارجية «الحضارات الأخرى» ويسهم بشكلٍ فعّال في تكريس التقارب الحضاري بين مختلف الثقافات والأمم في قالبٍ موضوعي علمي ينفتح مع الآخر في آفاق رحبة من التلاقي والنقاش البّناء بعيدا عن التصورات المغلوطة والأفكار التي تزعم لنفسها احتكار الحقيقة كاملة وتعرية الطرف المقابل من كامل الحسنات.

لتتلاقى أرواحنا قبل تلاقي الأجساد تحت سقف الحوار، و لنكن متحلين بروحٍ رياضية عالية في تعاطينا مع الآراء المخالفة، هذا هو المؤثر الحقيقي والفعّال الذي يبني ولا يهدم في التأثير على الفكر المقابل والأخذ به للتصورات الصحيحة.

مهمة المراكز العلمية والأكاديمية (الجامعات) اليوم غير محصورة في الجانب النظري والتحصيلي (التلقي) والتمحور حول الذات، والنأي بالنفس ما أمكن عن الجو الخارجي من العالم، فهذا غبش وكدورة تلبدّ سماء المستقبل وتحيله إلى طلاسم يستعصي فهمها أو حتى مجرد تأويلها، ما هو الجديد الذي صنعناه إذن في واقعنا، هل نحن أكثر من مقلدين ومرددين لتلكم الكلمات التي صيغت في عصرها.

أنا لا أغفل دور (الجامعات) أو أتنكر حتى لريادتها للأمم، فالجامعات هي المعبر الواعي عن تقدم الحضارات والشعوب، فبقدر ما تمتلك أمم الأرض من الثقافة والفكر المتحرك غير الجامد بقدر ما تعكسه من تقدم وحضارية، الحقل العلمي وخصوصا الجو الجامعي والمراكز المتخصصة، منطلق خصب لتلاقح الحضارات والتقائها، وتحاورها وتثاقفها، من خلال عقد مؤتمرات فكرية وثقافية واقتصادية، فإذا لم تعش الأجواء العلمية هذا الطقس الرائق، وإذا لم تحمل نخب الأمة من مفكرين وعلماء ومثقفين، في وعيهم وفي جدولة أعمالهم همّ التلاقي والحوار والتواصل الدوري بين الحضارات، فمن يقوم بهذا الدور ويحمل هذه المسئولية الكبيرة ويضطلع بهذا الهم الخطير.

دور النخب المثقفة أن توظف كامل طاقاتها في سبيل خلق البيئة المناسبة التي من خلالها ترعى سنابل الحب والتحاور، التي من خلال آلياتها الحضارية نخاطب الحضارات الإنسانية، نأخذ ونعطي في الآراء والأفكار، نرفض بعقلانية ونقبل بعقلانية، نبنى جسور الحوار والتمازج على أساسٍ من البناء المحكم السليم الذي لا يشعرنا في يومٍ من الأيام أنهُ آهلٌ للسقوط أو معرض للشقوق أو الشروخ، هذا يعتمد على مدى الجهد المبذول في نطاق العمل، ومدى الوعي الذي تتمتع به الكوادر المثقفة في غمار الأطروحات الفكرية المقابلة.

أخيرا وليس آخرا فهذه بعض التوصيات والثمار التي يمكن أن نستند عليها في تقييم الواقع وتوصيف الحال التي تمرُّ بها الأمة والسعي إلى وضع علاجات يمكن من خلالها أن نبني على حلول واقعية لكل الجراح والأمراض علنّا نتلمس طريق الخلاص والنهوض مجددا بأمتنا الإسلامية لتستلم ريادتها الحضارية بعد سني التيه والضياع، وبعد أن مالت عن الجادة القويمة التي أمر بها الدين الإسلامي العظيم، وإليكم بعضا من هذه الإلمامات:

- أضحى من الواجب على الأمة وبالخصوص نخبها المثقفة أن تعمل جاهدة في تخريج طروحات تتسق والواقع الضاغط الذي تكابده الأمة الإسلامية جرّاء التداعيات التي أعقبت الحادي عشر من سبتمبر/أيلول2001 وما تلاه من ويلات وحروب ما زال العالم يكابد شررها وتداعياتها، وأن يُجلوا عن ثوب الأمة ما ألصق بها ظلم وعدوان من قبيل الإرهاب، التطرف ، التخلف... إلخ

- دعوة مثقفي الغرب بالخصوص لحضور فعاليات حوارية ونقاشية والبحث في القضايا المستجدة على الساحة العالمية، وسبر القضايا والهموم التي تمثل الهاجس الحقيقي لحركة الفكر، للوصول إلى نقاط التقاء ومشتركات تكون بمثابة الانطلاق لسيرورتنا في واضح من الطريق والهدى.

- العمل على إشراك الآراء المغايرة (مثال المثقفين الغربيين) وبشكل دوري من خلال منابر مؤسسات المجتمع المدني، في طرح أفكارهم ورؤاهم عن الحوار الإسلامي المسيحي، ومنظورهم عن الحوار والتعايش والاندماج وغيرها من القصايا التي تتناغم مع مشاعر الأمة وهمومها.

- تفعيل دور المؤسسات والمراكز الدينية والعلمية والحوارية، من خلال توعية الناس وتبصيرهم لعظيم الدور والهدف لمشروع الحوار بين ثقافات الأرض، وخصوصا في مثل هذه الظروف الاستثنائية، التي يروّج البعض فيها مسألة «صراع الحضارات» بدل «حوار الحضارات» تمهيدا على ما يبدو لمشاريع هيمنة جديدة تقودها قوى كبرى في العالم.

- العمل على تأهيل شباب الأمة وكوادرها الأكفاء من خلال دورات مكثفة في شأن حوار الحضارات، وآليات التحاور مع الفكر الآخر وهلمّ جرا من مثيل هذه الأسئلة والإشكالات التي يجدر بشبابنا المسلم أن يجعلها متراسا له في حواراته وثقافته، وأن يمتلك رصيدا ثقافيا يؤهّله لكي يُجاري في حواره الفكر المغاير، دون الاكتفاء بثقافتنا الإسلامية فحسب، بل بقراءة نتاج الحضارة الغربية وعلومها، فهو مقرب فعلي نحو التقارب وفهم الطرف المقابل في أي مشروع حواري هادف.

ميثم مسعود

العدد 2388 - الجمعة 20 مارس 2009م الموافق 23 ربيع الاول 1430هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً