العدد 2829 - الجمعة 04 يونيو 2010م الموافق 21 جمادى الآخرة 1431هـ

هل تَشِيْخُ الدّول ثم تموت؟!

محمد عبدالله محمد Mohd.Abdulla [at] alwasatnews.com

كاتب بحريني

هل للدول أعمَارٌ كالبشر؟ سؤال مهم لكنه يخدش صفاء الحالِمين. فالدول الرأسمالية وسطوتها وقوّتها وعلومها وحضورها الدولي تمنح المُعجبِين بها «استغراقاً» في الخيال إلى أبعد الحدود.

والدول الريعية وما تفرضه من نظام «رفاهي غير ضريبي» لا يعرف العجز في ميزان المدفوعات ولا التضخّم المُوجِع يُعطي القارئين لنموذجها مزيداً من اليقين على استحالة التغيير في النمط القائم، بل وبالقدرة على تصدير النموذج.

قد لا يتصوّر أحد من أولئك الحالمين أن دولةً (رأسمالية أو ريعية أو غيرها من الدول)، قد يجرفها الزّمن إلى الشيخوخة، ثم إلى الموت كهلة مُنَكَّسَة في الخَلْق. أو كما كان يقول آرنولد توينبي إن الحضارات تنعقد نطفتها ثم ثُولد ثم تنمو ثم تزدهر ثم تأفل وتتحجّر. لكن ذلك يحصل.

عندما تنظر إلى خارطة أوروبا في العام 1789 سترى دولاً غربية ليس لها وجود في عصرنا الحاضر. جمهورية البندقيّة. إمبراطورية أسرة هابيسبيرغ التي تشمل مملكة هنغاريا والنمسا وبوهيميا وبلجيكا. كما سترى مملكة باسم «سردينيا» ودولة أخرى باسم «ياديسان».

وعندما تلحظ نفس الخارطة في العام 1810 ترى دولاً أخرى جديدة. سترى «كونفدراليّة الرّاين» و»مملكة في إيطاليا»، و»مملكة صقليّة». وبعد ثلاثين سنة تظهر «الكونفدرالية الجرمانية»، و»ممالك الكنيسة». وبعد عشرين عاماً تمتحي مدينة سوتشي العاصمة بدولة شركيسيا التي لم يعد لها وجود بعد احتلالها من قِبَل الروس.

ما يهمّ من كلّ ذلك هو إعادة طرح السؤال: هل أن «منتظم» الدولة (وليس الدولة ذاتها) لا يعتريه التصحّر السياسي؟ أصِلُ هذا السؤال بحاضِرٍ مُر. وهو ما يتعلّق بمستقبل القضية الفلسطينية، ومصير الكيان الصهيوني كُمحتل لهذه الأرض.

وللربط بين الأمرين أقول: إن انحسار تلك الدول وهلاكها كان متعلّقاً بانهيارات سياسية دفعت بها الدبلوماسية الصلبة للدول تارة، ولانشطار القوميات (أو تداخلها) بشكل فجّ تارة أخرى.

فحين كان الألمان يعيشون في «جمهوريات ألمانية» متفرقة، وحين كان الفرنسيون يعيشون في «زوايا وحوافّ الدول» غير الفرنسية بات من الضروري إنهاء الأمر بأقلّ الخسائر، ومعرفة مصالح الشعوب. والأهم من كلّ ذلك هو الإقرار بأن هناك قومية ناجزة تتواءم مع التاريخ والمشتركات والأرض.

فكانت عمليّة الضّم في الأراضي الألمانية، وكانت عمليات الاستيطان «الاختياري» في لوكسمبورغ وسويسرا وبلجيكا وغيرها. وربما استوعب الأوروبيون ذلك؛ لأنهم ومن بعد ثورة 1848 أيقنوا بأن جزءاً منهم قد تمثّل في السياسات الليبرالية (وقد تحقّقت)، وآخرين قد وَجَدوا أنفسهم داخل فرو الديمقراطية الراديكالية والقومية (وقد تحقّقت أيضاً) الأمر الذي منعهم من سلخ جلودهم بالنزاعات.

فيما خصّ الكيان الصهيوني، فإن الأمر مختلف تماماً. فمشروعه قائم على افتراضات تاريخية عمرها ألفين وستمئة عام. ثم إن ذلك المشروع قد فَصَلَ التاريخ «المُجرَّب» لليهود في أوروبا، حين كانوا يعيشون في كانتونات تعزلهم عن بقيّة الأوروبيين، وهو ذات التاريخ الذي يُمكن أن يَصِلُوا أنفسهم به، وينسجوا قوميّتهم من خلاله، على اعتبار أن أوروبا نفسها قد صاغَت هويتها عبر ذلك الخط كما هو الحال بالنسبة للبلجيكيين أو الدنماركيين.

وبالتالي، وما أريد أن أخلُص إليه هو أن بقاء أوروبا واستقرارها كان بفعل استقرار قوميتها وتموضع الكنيسة (الكاثوليكية/ البروتستانتية) في أماكن نفوذها في ظلّ سيطرة السياسة عليها، وفي ظل التحام «مُدرَك» و»منظور» للأرض، وليس عبر الأساطير. وماعدا ذلك، فإن الانحسار أو البقاء كان هو المصير الأكيد بالنسبة للدول المنهارة.

إن ذهاب ريح الدول كان سهلاً في ظلّ غياب جزء مهم من الهويّة الناظِمة لشعوب أوروبا من شمالها ومروراً بغربها حتى الجنوب. وكان ذلك الانتباه من الأنظمة السياسية والشعوب معاً قد أعاد وجاهة اللغات الوطنية إلى مهابطها (رومانيا وهنغاريا مثالاً)، وتقدّمت العلوم بشتّى أنواعها (الكيمياء والأنثروبولوجيا مثالاً)، وازدهر التعليم إلى أقصاه في ظلّ الوعي بالانتماء وضرورات التنافس وإثبات الوجود.

إن محاولة الكيان الصهيوني (وليس اليهود) اليوم رسم خارطته على أرض لا تمتّ إليه بِصِلَة لا سياسياً ولا دينياً ولا ثقافياً ما هو إلاّ جولة يدعمها ميزان القوى العالمي لا غير. وهو رهين بذلك الميزان، يميل إذا ما مال ويستقرّ إذا ما استقر.

وهي في مجملها أسيرة مجموعة كبيرة من الظروف والأوضاع المعقّدة، بل وحتى تلك الظروف المتعلقة بالطبيعة ذاتها التي جعلت من دولة كالمالديف تشتري أراضي لها في أستراليا لنقل شعبها إلى هناك في حال غرقت الجزر المالديفية بفعل أمواج المحيط الهندي العاتية.

وبالتالي فهو (الكيان الصهيوني) لا يرتكز على أساس دائم ومتين، بل وغير قادر حتى على المرور بمراحل الدول الطبيعية. وهو ما يجعله يتعاطى مع ظروفه السياسية والأمنية بالسياسات الصلبة وليست الناعمة (حادثة سفينة مرمرة مثالاً)، لخشيته الدائمة على أصل وجوده الذي لايزال بالنسبة إليه غير كامل الاستقرار على مستوى الفكرة فضلاً عن تحقّقه على أرض الواقع.

إقرأ أيضا لـ "محمد عبدالله محمد"

العدد 2829 - الجمعة 04 يونيو 2010م الموافق 21 جمادى الآخرة 1431هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً