العدد 2846 - الإثنين 21 يونيو 2010م الموافق 08 رجب 1431هـ

المثقفون العرب والصعود التركي: الخيال والحقيقة (2-2)

عياد أحمد البطنيجي - كاتب فلسطيني، والمقال ينشر بالتعاون مع «مشروع منبر الحرية www.minbaralhurriyya. 

21 يونيو 2010

لكن السؤال هنا: هل توافق تركيا على هذه القراءات الساذجة؟ بعبارة أخرى: كيف ترى تركيا نفسها؟.

إذا كانت تركيا بهذه القوة، كما يصورها هؤلاء، لماذا لم توفق حتى الآن في الانضمام إلى الاتحاد الأوروبي؟!، ولو كانت تركيا بهذا «السحر» لكان الأولى أن يستجدي الاتحاد الأوروبي لكي تمن عليه وتقبل تركيا الدخول في الاتحاد بدلاً من العكس!. ولو كانت تركيا كذلك لما شعرت بأنها مهملة، وتم تجاوزها في عملية تشكيل الصرح الأمني للقارة الأوروبية، بعد سقوط الاتحاد السوفياتي، على رغم أنها تعتبر نفسها داخله بعمق وفي نسيج الصرح الأمني الأوروبي، ولما انحاز الاتحاد الأوروبي إلى اليونان، خصم تركيا اللدود، ولما فضلها على تركيا في مجالات الأمن والدفاع وغيرهما من المجالات الأخرى. ولو كانت بهذه القوة لحسبت واشنطن لتركيا ألف حساب قبل أن تستخدم «قضية الأرمن» ضدّ تركيا، عندما قررت لجنة الشئون الخارجية بالكونغرس الأميركي وصف المجازر التي وقعت العام 1915، وراح ضحيتها آلاف من الأرمن، بـ «الإبادة الجماعية»، ولما صوت البرلمان السويدي أيضا على قرار يعتبر ما جرى مع الأرمن هو إبادة، بل ذهب البرلمان السويدي إلى أبعد من ذلك حيث نص القرار على أن «السويد تعترف بإبادة العام 1915 ضد الأرمن، والآشوريين، والسريان، والكلدانيين، واليونانيين، الذين كانوا مقيمين» في أراضي السلطنة العثمانية، وبالتالي كل الأقليات المسيحية التي كانت مقيمة هناك. وذلك من دون أن تعير العلاقات التركية - السويدية أي اهتمام. والغريب أن من الكتاب من اعتبر أن هذين القرارين يعدان في الحقيقة «انتصاراً لتركيا»، على رغم أن تركيا سارعت إلى التنديد بهذا التصويت، وعبرت عن استيائها وامتعاضها. وقام الرئيس التركي، عبدالله غول، بالاتصال بالرئيس الأميركي، باراك أوباما، وطلب منه التدخل للحيلولة دون تصديق الكونغرس على توصية اللجنة. كما طالبت السويد بأن «تتخذ خطوات للتعويض» عن قرارها الذي «لن يفيد العلاقات الثنائية وقد يلحق بها الضرر». بأي عقل قرأ كاتبنا هذا «الانتصار»؟ بالطبع لا ندري، على رغم أن تركيا لا تعتبره كذلك. وهكذا يتبين أن تركيا لا تشكل قيمة كبرى للاتحاد الأوروبي وبخاصة بعد سقوط الاتحاد السوفياتي، الذي قلل من قيمة تركيا الإستراتيجية، ما أثار نقاشات داخلية حامية بشأن دور تركيا الإقليمي، لإعادة تقويم أهميتها الإستراتيجية، وإعادة تحديد مكانتها في المنظومة السياسية الجديدة على الصعيد الدولي. ولكن هذا لا يعني أنها فقدت قيمتها. نحن لا نقلل من قيمة تركيا، فلها مكانتها واحترامها، ولكن نقلل من قيمة المبالغة في الدور التركي، الذي يحاول أن يصوره البعض كـ «قبضاي إقليمي»، وكـ «عودة صلاح الدين». فأي مبتدئ في علم السياسة يدرك أن أية دولة تتبع سياسة ترمي إلى تحقيق مصالحها أينما وجدت. وعليه، فتركيا تعي جيداً دورها ولن تستطيع الذهاب بعيداً عن الخط المرسوم، ولن تتجاوز الخطوط الحمر؛ لأنها تدرك أن السياسة هي انعكاس لموازين القوى. وهذا ما نلمسه في تفكير أحمد داوود أوغلو القائم على الموازنة بين «قوة الأمر الواقع»، و»قوة الحق الأصيل» في ضوء موازين القوى. هذا المبدأ يؤكد أن تركيا بلد يتبع مبادئ النظرية الواقعية في العلاقات الدولية، بلد يؤمن بتوازن القوة وبضرورة السعي إلى تحقيق المصالح القومية حتى لو اقتضت الضرورة تحقيق هذه المصالح على حساب دول أخرى. وفي ظل موازين القوى السائدة، ستتأثر سياسة تركيا تجاه المنطقة العربية بروابطها المصلحية والاقتصادية مع الولايات المتحدة الأميركية، ما يجعلها لا تجرؤ على التعامل مع المنطقة بعيداً عن المشروع الأميركي وسياسته في المنطقة.

وهنا نستطيع أن نقدم فرضية أولية وهي: أن أولوية المشروع التركي في المنطقة ستكون اقتصادية، وسيبتعد قدر الإمكان عن الأبعاد السياسية والإستراتيجية التي تثير حساسية المشاريع الأخرى في المنطقة، وحتى لا يصطدم معها. فقد تبين أن تفاعلات تركيا حتى الآن محصورة فقط بإيران، العراق، سورية، لبنان، والأردن، بهدف تحرير التجارة بين تركيا ودول المشرق العربي خصوصا، بغية تدشين سوق مشتركة. وقد عبر أحمد داوود أوغلو عن تطلعات تركيا إلى تكثيف التفاعلات التجارية والاقتصادية والمالية بينها ودول المشرق العربي في العديد من محادثاته مع الجانب العربي. وعليه، فتركيا لن تضيف لنا نحن العرب إضافة إستراتيجية، ولن تقوم بأي دور بدلاً عنا نحن معشر العرب.

تأسيساً على ما تقدم فإن الزعم، الذي يكثر ترديده، عن الدور الإقليمي والعالمي لتركيا، زعم يقوم على قدر هائل من المبالغة، فإن المرء لا يستطيع أن ينفي حقيقة أن تركيا لها مكانتها الخاصة في السياق الإقليمي والدولي، ولكن ما نقره نحن أن تركيا تواجه مخاطر أمنية لن تستطيع مواجهتها وتعزيز استقرارها الأمني لوحدها ومن دون مساعدة واشنطن والغرب وحتى إسرائيل. كما أن تحقيق تطلعاتها الاقتصادية بحاجة إلى إسناد أميركي وغربي. لذلك فإن سياستها ستأخذ في الاعتبار مصالح هؤلاء أكثر من غيرهم، حتى لو تطلب الأمر ضرب مصالح العرب بعرض الحائط، طالما بقي العرب غير مؤثرين في لعبة التوازنات السياسية، وبقاءهم أحد مكونات اللعبة السياسية، لكنهم ليسوا المؤثرين الوحيدين أو اللاعبين الرئيسين، فقط هم قطعة شطرنج تمارس الضغوط عليهم من اللاعبين الرئيسيين.

وما يكشف عن القدرة المحدودة لتركيا هي المبادئ التي تقوم عليها سياستها الخارجية، أي «الموازنة» و»المسالك المتعددة». هذان المبدآن صكا بفعل الموقع الجغرافي الحساس لتركيا، وسنتحدث عن ذلك في مقال آخر، ولكن المهم في هذا السياق، أن هذين المبدأين يكشفان عن ضعف بنيوي في تركيب السياسة التركية. إن التركيز على مبدأ «المسالك المتعددة» وعدم القدرة على انتهاج سياسة ذات حد واحد، وإضفاء صفة التعددية على سياستها الخارجية، هذا يشي بأن تركيا عاجزة عن العمل بمفردها، وبذا لا تستطيع أن تفرض نفوذها، ونجاح سياستها مرهون بقبول الآخرين بها، وألا تكون على حساب مصالحهم، واجتراح سياسات تحظى بموافقة الجميع. ولا أعرف دولة استطاعت أن تبني علاقات متوازنة ومتكافئة مع الجميع، إلا الدول الضعيفة التي ليس لديها مشروع أو فلسفة سياسية خاصة، أو رؤية واضحة تسعى إلى تطبيقها، فالدول التي تسعى إلى التورط الإقليمي والدولي يجب أن تأخذ مواقف محددة وواضحة. كل ذلك يظهر مدى التحديات والمأزق الذي تواجهه تركيا، ومدى التحديات التي تظهر مدى صعوبة تحقيق هذه المبادئ؛ لأن تركيا ستضطر في النهاية إلى أن تُقدِم على خيارات واضحة، هذا من جهة، ومن جهة أخرى لن تقبل الدول المنخرطة معها في تفاعلات ومصالح متبادلة بأن تستمر بسياسة الموازنة هذه، وتدهور علاقاتها مع إسرائيل دليل على ذلك.

وعلى رغم ما فعلته إسرائيل بتركيا، عن سابق دراية وتخطيط، بإهانة سفيرها، فإن الأزمة تم تجاوزها «فكان الاستقبال التركي الحافل لإيهود باراك وتجديد الالتزامات الإستراتيجية تجاه إسرائيل» على حد قول أحد الكتاب النابهين. هذه هي لعبة التوازنات التي لا يدركها الكثيرون من المثقفين هؤلاء.

العدد 2846 - الإثنين 21 يونيو 2010م الموافق 08 رجب 1431هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً