العدد 2848 - الأربعاء 23 يونيو 2010م الموافق 10 رجب 1431هـ

رجال من نار ورجال من نور

ياسر حارب comments [at] alwasatnews.com

في بحثه الطويل والمضني عما يسعد الأمم والشعوب، تحدث أفلاطون كثيراً عن المجتمع ورجاله، وحاول معالجة مشكلاته من جوانب مختلفة، سياسية واجتماعية واقتصادية وغيرها، ولقد كانت فلسفته تلك أساساً للفلسفة الأوروبية، حيث يقول البعض إن فلسفة الغرب ما هي إلا حواشٍ لفلسفة أفلاطون. عاش ذلك العظيم في عصر التنوير الإغريقي، عصر تكالبت على دويلاته إرهاصات فكرية وسياسية واجتماعية، مازالت بعضها تقض مضاجع المخلصين في مختلف أصقاع العالم حتى اليوم، أولئك الذين يرفضون أن تقاد شعوبهم إلى الهاوية، باسم القداسة، وباسم التضحية، وباسم الوفاء.

وفي خضم تجلياته الفكرية، حدد أفلاطون ثلاثة منابع رئيسية للسلوك الإنساني، الرغبة، والعاطفة، والمعرفة. ولا يهم أين يقع مكان الرجل (أو الإنسان بشكل عام) في مجتمعه، فهو يحمل هذه السلوكيات معه ولكن بتفاوت. فهناك من تطغى رغبته على كل شيء، فيتحول إلى صورة مجسّدة للرغبة، منهمكة في المنافسة والنزاع المادي، تحرقها شهوة الترف والمظهر، فتكون أرباحها ضئيلة مقارنة مع أهدافها.

هذه الفئة تتكاثر في المجتمعات المخملية، وخصوصاً عندما يزداد البذخ، أياً كان نوعه، حقيقياً أم شكلياً. لم أجد وصفاً لهؤلاء أجمل من وصف الروائي «باولو كويلو» لهم في روايته «الزّهير»، حيث تحدث في جزء منها عمن يرتادون التجمعات الفكرية والمناسبات الرسمية ووصفهم بشكل دقيق جداً. تسمع هؤلاء يتذمّرون من حياتهم، كما يقول، لكي يضيفون بعض النكهة إلى الأمسيات الخاصة والعامة.

في تلك الأمسيات، ترتدي النساء ملابس ضيقة وفاضحة، ويجب على الضيوف ألا ينظروا إليهن حتى لا يكونوا وقحين! تسمع مجاملات من الحضور، كقولهم: تبدين في منتهى الأناقة... تبدو بشرتك رائعة... وإذا ما عادوا إلى بيوتهم يقولون: كم كانت ملابس الجميع رديئة. يقول باولو: «ثمّة مدمنون على العمل، وثمّة مدمنون على الملذات. أفراد كلا الفريقين تعساء، وهم على قناعة بأنهم يفوّتون فرصة ما، لكنهم يعجزون عن تلافي ذلك».

المنبع الثاني للسلوكيات الإنسانية كما صنّفها أفلاطون هي العاطفة، ومحلها القلب، وتسري في الإنسان مسرى الدم. العاطفة، بالنسبة لي، هي العنصر المسيطر على الروح، وعندما تسيّر الإنسان فإنها تحيل المجتمعات إلى عرس جماعي، أو نواح منظّم. يمكننا أن نرى تجليّات هذه الصفة في دول مثل إيران ومصر، ففي إيران، تتلوّى العاطفة «الدينية» على أفراد المجتمع كما تتلوّى الحية على فريستها، وتتغلغل في جميع تفاصيل الحياة، حتى في بيوت أولئك الذين يرفضون الانزلاق إلى مثل تلك المفاهيم والأفكار، تجد ديكور منازلهم وألوانها متّشحة بالسواد، تماشياً مع عواطف الحزن أحياناً، وعواطف القهر والشعور بالظلم من دول العالم في أحيانٍ أخرى.

وفي بعض مدن مصر تشعر بأنك تمشي في عرس جماعي مفتوح، يَطرَب الناس فجأة حتى وإن كان المغني من نفس الحي، مخالفين بذلك المثل الذي يقول: مغنّي الحي لا يطرب. فالكل يبحث عن التسلية للهروب من شظف العيش ولهيب الفقر، والكل يبحث عن نكتة أو شيء ينسيه، جدلاً، بأنه يعيش على أرض إحدى أعظم الحضارات على الإطلاق. في مصر وإيران تقود المجتمع عواطف جيّاشة، تتقدم الرأي والمنطق أحياناً، مثلما تتقدّم العربة الحصان وتفسد القافلة. فيفسح المجال لنوع جديد من الرجال، لا يبالون بالعواطف ولا يحملون أياً منها، يُنظر إليهم في تلك المجتمعات على أنهم «فرسان» مخضرمون، يعتقدون بأن النصر الوحيد للأمة يكمن في الانتصارات العسكرية، وفي الثورات على الملكية، وفي كلتا الحالتين، فإنهم يعزفون على أوتار قلوب الشعوب المسكينة، التي ترقص على أنغام جنائزية دون أن تشعر. عندما يبرز هؤلاء المناهضون لكل العواطف في مجتمع يزخر بها، يعاد تعريف «النصر» ليصبح مرادفاً للـ «المشاكسة»، ويتحول إلى «كسب» في ميدان المعركة، لا في الأسواق التجارية.

كل من سبق وصفهم هم رجال إرادتهم من نار، يحرقون كل ما يأتون عليه، حتى وهم يعتقدون بأنهم يفعلون الصواب. أما رجال النور فهم رجال الحكمة، حياتهم يغمرها الصفاء، وينابيعهم هي الفكر والتأمل، هم من يقول عنهم أفلاطون بأنهم أولئك الذين يقفون جانباً لا يعرف العالم كيف يستفيد منهم، ولا يعرف قدرهم وقيمتهم.

رجال النور هم الفلاسفة الذين تكون رغباتهم صافية، وعواطفهم دافئة بحيث لا تحتاج إلى نار؛ لأن المعرفة هي صمام الأمان عندهم. رجال النور هم كالنجوم التي تضفي قداسة على الليل.

يقول أفلاطون: «إن الشعب بغير هدي المعرفة، هو جمهور بغير نظام، وقطيع بغير راعٍ». الفلسفة تعني الحكمة، وتعني الثقافة، وتعني المعرفة... هكذا فهمناها من معلّمينا الأوائل. لن تنجو المدن والجنس البشري من الفساد والشرور، كما يقول أفلاطون، إلا إذا أصبح الفلاسفة ملوكاً أو الملوك فلاسفة... المخلصون الصادقون هم الذين تكون إرادتهم من نور وليست من نار، هم الذين يحبّون أن تشعّ حياتهم لا أن تفرقع، وأن تكون كأحد الكواكب السماوية، لا كأحد الشهب النارية. باختصار، هم الذين انتصروا على أنفسهم، قبل أن ينتصروا على الآخرين.

إقرأ أيضا لـ "ياسر حارب"

العدد 2848 - الأربعاء 23 يونيو 2010م الموافق 10 رجب 1431هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان
    • زائر 2 | 6:21 ص

      "لو تكون حقيقة تُلمس"

      لطالما كان النور ضياءاً وكانت النار حرارة وإحراقاً ،فلو درسنا طبيعة النور لرأيناه يتسلل إلى بيوتاتنا بإستئذان، ورقة، واندماج، وبسلام وإمان ،ولكن النار لطالما أحرقت بيوتاً وأعشاشاً بغير مودة ولا استئذان ،بلا وجود للإمان ولا السلام ،إلا الجبَر والطغيان بالظلم والاستسلام ،،
      فالنور لونه الابيض ويحمل السلام ،لكن النار حمراء تحب الحرب والاشتعال .
      تُشكر أخي الكريم على الطرح الجميل.

    • زائر 1 | 12:42 م

      حلم الجميع .. حي الله استاذ ياسر..

      كلنا نحلم احلام افلاطون الذي لم يتحقق و لن يتحقق .. وهو ان يجد مدينه تخلو من الظلم والاجحاف في حقوق الناس والقسوة على الكبير قبل الصغير ويحلم ان لايوجد فقر وليس هناك الم بشتى انواع الالم وكان يسعى ان يجد سكان بتلك المواصفات الصعبه .

اقرأ ايضاً