العدد 2855 - الأربعاء 30 يونيو 2010م الموافق 17 رجب 1431هـ

الجزائري مسعود صحراوي يرصـد التداولية عند العلماء العرب

في دراسة لنظرية «أفعال الكلام» في التراث العربي

صدر للباحث الأكاديمي مسعود صحراوي كتاب التداولية عند العلماء العرب «دراسة تداولية لظاهرة الأفعال الكلامية في التراث اللساني العربي» وذلك عن دار الطليعة - بيروت وقد احتوى الكتاب على خمسة فصول في 240 صفحة من الحجم المتوسط وقد درس المؤلف في الفصل الأول الجهاز المفاهيمي للدرس التداولي المعاصر، أما الفصل الثاني: فقد درس معايير التمييز بين الخبر والإنشاء في التراث العربي وفي الفصل الثالث: «تقسيمات العلماء العرب للخبر والإنشاء» أما الفصل الرابع: «فقد أفرده للأفعال الكلامية عند الأصوليين، وخصص الفصل الخامس: «لرصد الأفعال الكلامية عند النحاة».

التداولية ليست علماً لغوياً محضاً، علماً يكتفي بوصف وتفسير البنى اللغوية ويتوقف عند حدودها وأشكالها الظاهرة، بل هي علم جديد للتواصل الإنساني، يدرس الظواهر اللغوية في مجال الاستعمال، ويتعرف على القدرات الإنسانية للتواصل اللغوي، ومن هنا تسميتها: «علم الاستعمال اللغوي».

يسعى المؤلف إلى أن يوضح، لطلاب اللسانيات خصوصاً وللقراء عموماً، كيف جرى استثمار أبرز مفاهيم التداولية - ألا وهو مفهوم «الفعل الكلامي»- في قراءة الموروث اللساني العربي عبر حقول معرفية متعددة، كعلم البلاغة وعلم أصول الفقه وعلم النحو... الخ.

ولذلك فهو يقوم بتحليل هذا الجهد التجديدي في البحث اللغوي، وفي ظاهرة «الأفعال الكلامية» تحديداً، محاولاً تأصيله وإثراء الرؤية الغربية المعاصرة وتعميقها من خلال مزاوجتها بالجهد الذي بذله أسلافنا القدامى كالجرجاني والقزويني والسكاكي والآمدي والاستراباذي والجويني وابن الحاجب...

وخلص الباحث في كتابه إلى أن اعتماد «المنهج التداولي» وتوظيفه في قراءة التراث العربي، ولاسيما مفهوم «الأفعال الكلامية»، كفيل بأن يفتح نافذة جديدة على هذا التراث العظيم ويوسع من آفاق رؤيتنا له وإدراكنا لخصائصه الإبستيمولوجية والمنهجية، والتي تجعل منه منظومة مستقلة ومتكاملة في سياق تاريخي معين. ويتمثل «المنهج التداولي»، في تصورنا، في تلك الأسس والمبادئ والمفاهيم الإجرائية التي اعتمدها كثير من علمائنا القدامى ونحاتنا وبلاغيينا - صراحة أو ضمناً - في دراسة اللغة العربية ورصد خصائصها، ونذكر منها على الخصوص: مفهوم «الفعل الكلامي»، وما يتعلق به من مبادئ ومفاهيم إجرائية أهمها: مراعاة سياق الحال، والغرض الذي يريده المتكلم من كلامه، والفائدة التي يجنيها المخاطب من الخطاب.

إن العمل الذي أنجزه الفيلسوف أوستين يعد عملاً فلسفياً ذا فائدة لسانية مهمة، بالنظر إلى أنه نجح في بلورة فكرة «أن وظيفة اللغة هي التأثير في العالم وصناعته، وليست مجرد أداة للتفكير أو لوصف الأنشطة الإنسانية المختلفة». وهذا التحديد الجديد لوظيفة اللغة هو أبسط معنى لما سماه: الفعل الكلامي.

- إن جهر»الأفعال الكلامية» هو القسم المسمى: «الأفعال المتضمنة في القول»، وعليه فهو الذي يستحق عناء الدراسة والتصنيف - كما فعل سيرك - إلى الأصناف الكلامية المعروفة.

- إن من فوائد بحث أوستين أنه لا ينبغي الاعتداد كثيراً بالتمييز بين الخبر والإنشاء ما دام كلاهما يحمل فعلاً كلامياً إنجازياً.

وخلص الباحث إلى إن الجهد الذي بذله سيرل في عرض الأفعال الكلامية باعتباره هو العرض النموذجي للنظرية في أيامنا، بوصفه يبين القيمة الفلسفية والتداولية للنظرية، ولا سيما تحليله للمكونات والأسس التصنيفية لعناصر «القوى المتضمنة في القول».

إن هذا الجهد الكبير الذي بذله سيرل قد يكون بحاجة إلى أن يعاد فيه النظر، ومن أهم ما رأينا أن النقد ينبغي أن يتركز عليه: مبدأ «اتجاهات المطابقة» ومما اقتضاه منا هذا النقد أن نعيد النظر في التصنيف الذي أتى به سيرل فاقترحنا بعض التعديلات الخاصة باتجاهات المطابقة والإيقاعيات. كما اقترحنا أن يضاف صنف جديد هو «الاستفهاميات»، وأن تعتمد أداة تصنيفية معينة لتأطير الجهد التصنيفي الذي بذله سيرل.

أما في التراث اللغوي العربي فقد بحثت ظاهرة «الأفعال الكلامية» ضمن نظرية الخبر والإنشاء، وقد احتفي بهذه الظاهرة - في هذا التراث - احتفاء خاصاً؛ فقد اشتغلت بها طوائف متعددة العلماء في فروع علمية كثيرة متنوعة، مما يدل على حضورها القوي في المنظومة المعرفية العربية.

إن المعاير التي اعتمدها العلماء العرب للتمييز بين الخبر والإنشاء متعددة ومختلفة باختلاف المراحل وتطورها، وأنه كان يسود في كل مرحلة منها معيار تصنيفي معين. فكان أن اعتمد العلماء العرب في مرحلة أولى معيار «قبول الصدق والكذب»، ثم اعتمدوا في مرحلة لاحقة معيار «مطابقة النسبة الخارجية»، واعتمدوا في مرحلة ثالثة معيار «إيجاد النسبة الخارجية»؛ فالإنشاء يوجد نسبته الخارجية دون الخبر، والخبر يصف نسبته دون الإنشاء. ومن علمائنا من ركز على معيار»القصد»، باعتباره معياراً تصنيفياً أساسياً كالسبكي في شرحه لتلخيص الخطيب القزويني، و»الشبرازي» في شرح اللمع، والقرافي في الفروق. وقد كانت أطوار هذه الرحلة التاريخية الطويلة متسمة، في الأغلب، بطغيان أدوات التحليل المنطقية التي أثرت بقوة في البحث اللغوي العربي (ولا سيما البلاغي)، فتركت آثارها العميقة في جهازه المفاهيمي والمقولاتي.

لقد تمخض عن تلك المعايير التمييزية عدة تقسيمات للخبر والإنشاء، وهي مختلفة في أسسها المعرفية وأدواتها الإجرائية بين تقسيمات منطقية وأخرى تداولية، وقد نتجت عنها ثلاثة أصناف كبرى هي: الخبر، الإنشاء الطلبي، الإنشاء غير الطلبي.

ومن نتائج المقارنة بين ما توصلت إليه التداولية المعاصرة وما كان قد قرره العلماء العرب من قبل، أن الفعل الكلامي يشعب إلى أربع شعب أساسية، لا إلى ثلاث كما فعل أوستين وتلميذه سيرل، وأن تلك الشعب هي: فعل القول، والفعل المتضمن في القول، والفعل المستدعى بالقول، والفعل الناتج عن القول. ويندرج في شعبة الفعل المستدعى بالقول: الأمر والنهي... ويندرج في شعبة الفعل المتضمن في القول: ألفاظ العقود والمعاهدات (كالبيع والشراء، والإدلاء بالشهادة).

ومن النتائج التي يمكن التذكير بها هنا أن علماء أصول الفقه كانوا من أحسن المستثمرين لظاهرة الخبر والإنشاء في إطارها التداولي، معتمدين مقولات ومبادئ: سياق الحال، ووضع المتكلم وموقعه من العملية التواصلية وغرضه من الخطاب... وطبقوها على نصوص القرآن والسنة، بغرض دراسة المعاني الوظيفية لتلك النصوص، وهي المعاني التي تطرأ على القول وتتغير من مقام إلى آخر، وعلاقة تلك المعاني بقائلها، وعلاقة ذلك كله بظروف القول وملابسات الخطاب. ودرسوا أيضاً «ألفاظ العقود والمعاهدات» وما تقتضيه من تشريعات اجتماعية سياسية، والقوى الإنجازية لتلك المواضعات القولية وشروطها وأحكامها... وكانت نتيجة ذلك أنهم استنبطوا «أفعالاً كلامية» جديدة، ضمن بحثهم لمعاني الخبر والإنشاء، كـ: الإذن، والوجوب، والتحريم، والإباحة. وكاعتمادهم مقولة: القصد أو الغرض... وقد أثبتنا أهمها في الفصل الخاص بهم.

ومن مراعاة البعد التداولي في النحو العربي أن كثيراً من النحاة العرب كانوا غير بعيدين عن هذا التصور التداولي في تطبيقهم لظواهر الخبر والإنشاء على موضوع بحثهم الخاص، ومن ثم في مراعاتهم لأهم «الأفعال الكلامية» المنبثقة عن تلك المبادئ التداولية، ويتجلى ذلك فيما يلي:

يبدي جمهور النحاة العرب منذ عصر سيبويه، ولا سيما النحويين الكبيرين عبدالقاهر الجرجاني والرضي الاستراباذي، عناية كبيرة بالارتباط التداولي بين الأسلوب - خبراً كان أم إنشاء - وبين معناه الإبلاغي ووظيفته التواصلية، مع حرصهما القوي والمتكرر على الاهتمام بـ «المعاني» و»الأغراض» الإبلاغية المتوخاة من «الخطاب»، وإصرارهما على أن البنى التركيبية تابعة للوظيفة التواصلية وليس العكس. فسلكا منهجاً تداولياً في تحليل الظواهر المبنوية التركيبية، كظواهر التقديم والتأخير، والتعيين، والإثبات والنفي... والتي لا تعدو أن تكون أغراضاً وغايات تواصلية يسعى المتكلم إلى تحقيقها. وأما بلغة المعاصرين فهي «أفعال كلامية» طالما أنه يراد بها تخصيص الخطاب، أو الحرص على تضمين الخطاب فائدة تواصلية معينة، أو تنبيه المخاطب، أو تأكيد الرسالة الإبلاغية له، أو نداءه، أو إغراءه، أو تحذيره، أو توبيخه... وهذه «الأفعال الكلامية» تؤدى إما عن طريق لفظ مفرد، كمعاني الأدوات، أو عن طريق تركيب كامل، كبعض معاني التأكيد، والتخصيص، والتعيين.

* يحظى طرفا الخطاب (المتكلم والمخاطب) باهتمام بالغ في تحليلات العلماء العرب القدامى، وخصوصاً عند عبدالقاهر الجرجاني والرضي الاستراباذي، فلم يغفلا عن العلاقة القائمة بين المتكلم والمخاطب. ويتمثل اهتمامهما بالمتكلم في العناية بـ «غرضه وقصده» من الكلام، أما اهتمامهما بالمخاطب فيتمثل في الاحتفاء بـ «الإفادة»، وهي «الفائدة» التي يجنيها السامع من الخطاب، ويتجلى ذلك أيضاً مما عبر عنه الرضي: بدفع المتكلم ظن السامع به الاحتمالية والتجوز، ومنع غفلته عنه، إزالة الشك والتوهم... وبينما يفعل عبدالقاهر والرضي ذلك، نجد البحث النحوي غير الوظيفي يركز على أواخر الكلمات في الجملة ومطاردة حركاتها الإعرابية بسبب اهتمامه الشديد بـ «نظرية العامل».

لا يخلو البحث النحوي في تراثنا من اهتمام بـ «الأفعال الكلامية» ضمن تطبيق معاني الخبر والإنشاء على بعض الظواهر النحوية. ومن ثم فقد ناقش نحاتنا القدامى كثيراً من المعاني المتعلقة بإنجازية الأساليب العربية المختلفة بخلفية تداولية، فتطرقوا إلى كثير من «الأفعال الكلامية» كـ «فعل التأكيد» و»فعل الإغراء» و»فعل التحذير» و»فعل النداء» و»فعل الاستغاثة والندبة»...

ومما يؤكد اهتمام النحاة بالبعد التداولي للظاهرة اللغوية، إشارة بعضهم إلى «المعاني والأغراض» العميقة الكامنة وراء الألفاظ والمباني، ومن ذلك إشارة سيبويه إلى أن «القسم» لا يعدو أن يكون «تأكيداً» للكلام، وأن لـ «الاستفهام» عدة وظائف تواصلية منها «التنبيه»... ومن ذلك إشارة كل من الخليل بن أحمد الفراهيدي ورضي الدين الاستراباذي إلى أن «القسم» لا يراد لذاته، وإنما يراد به إما «الإلحاح في الطلب» وإما «تأكيد الخبر».

وخلص الباحث بقوله « إننا نرى أن التداولية - بمقولاتها ومفاهيمها الأساسية: كسياق الحال، وغرض المتكلم، وإفادة السامع، ومراعاة العلاقة بين أطراف الخطاب، ومفهوم «الأفعال الكلامية»- يمكن أن تكون أداة من أدوات قراءة التراث العربي في شتى مناحية ومفتاحاً من مفاتيح فهمه، كما ذكرنا آنفاً، بشرط أن نختبر مفاهيمها حتى نتأكد من كفايتها الوصفية والتفسيرية لدراسة ظواهر اللغة العربية».

العدد 2855 - الأربعاء 30 يونيو 2010م الموافق 17 رجب 1431هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً