العدد 2392 - الثلثاء 24 مارس 2009م الموافق 27 ربيع الاول 1430هـ

مبادرات البسطاء تستنهض ضمير المجتمع

منصور القطري comments [at] alwasatnews.com

كاتب سعودي

تمر بعض الأمم في مرحلة من تاريخها بلحظات انكسار وشعور بالانهزام، والأمة العربية تمر بأيام عصيبة حيث الاختفاء لعدد من القيم الأصيلة التي عملت على النخر في جسدها فعاش أفرادها التيهان وضعف الإرادة فأصبحت الأمة تعيش على هامش الخريطة البشرية أو لنقل خارج الفعل والتأثير الحضاري.

في تقديري مشكلتنا ثقافية قبل أن تكون سياسية حيث الجميع يحدق في قرارات الساسة تحت قناعة لا شعورية بأن التغيير لن يتم إلا من القمة ويتغافل هؤلاء عن الأرضية الثقافية التي يقف عليها الناس ابتداء من حركة المثقف المدجن (تحدث القرآن عن كتمان الحق ولبس الحق بالباطل وهم يعلمون) الذي جعل أعلى طموحاته الصعود إلى المنصة الرسمية وانتهاء بالمواطن الأمي المسحوق الذي تآكلت إرادته تحت طاحونة حياة المسغبة فأصبح المشهد كالتالي: سياسي متربع في عليائه بفضل ثقافة التزلف (نافق) وثقافة الركوع (وافق) هنا نرغب التذكير بأن لدينا في الوطن العربي 70 مليون أمي يعيشون تحت سطوة إعلام مسموع ومرئي موجه.

لا شك إن مواجهة وضع خطير حاد من هذا القبيل وتحت وطأة المثلث الرسمي (نافق، أو وافق، أو فارق) طبعا خارج البلاد.

هذا المناخ الموبوء لا ينفع فيه الحزن (ثقافة الفجيعة) أو جلد الذات أو بث فكر اليأس كما يحلو لبعض المثقفين التيئسيين إشاعته وإدخال الناس في راحة نفسية مؤقتة من خلال التأوه وندب الحظ والتهكم على الوضع القائم والمدهش أن الكثير من الأفراد يأنس بذلك وكأنهم يجسدون قول مالك بن نبي: إن وراء كل قصة استعمار قصة شعب قابل للاستعمار.

الوضع إذا يستوجب مسئولية ومهمة ذات طبيعة خاصة تتجسد في تقديري إطلاق أو التبشير بمشروع أو مبادرة شعبية ذات ثلاثة أضلاع مغايرة وبديلة للمثلث الرسمي (نافق، وافق، فارق) وهي على النحو التالي: (ضخ لقاحات ثقافية معنوية إيجابية في مختلف مفاصل المجتمع إعداد كفاءات بشرية مؤثرة بناء مؤسسات محايدة) نرحب بكل من يضيف تحت قناعة لا تضع العربة أمام الحصان.

قبل الحديث عن المبادرة الشعبية ثلاثية المحاور أرغب التأكيد على أن الأنظمة الشمولية بحاجة إلى مشروع تغيير سلمي وبعيد كل البعد عن جميع مناهج وأساليب العنف وأن يتم العمل لتأهيل العقل العربي على استخدام الكفاح السلمي والعصيان المدني ومن دون إراقة للدماء أو اللجوء إلى القتل أو الأحزمة الناسفة.

الله عز وجل خاطب كليمه موسى وأخيه هارون عليهما السلام في قوله تعالى «اذهبا إلى فرعون إنه طغى، فقولا له قولا لينا لعله يتذكر أو يخشى»، أي اذهبا إلى فرعون الطاغية الذي جاوز الحد في كفره وطغيانه وظلمه وعدوانه «فقولا له قولا لينا» أي: سهلا مشبع بالرفق واللين والأدب.

وعودا على المحور الأول في المثلث الشعبي (الفت انتباه القارئ إلى أنني لن أتحدث في هذه المحطة عن المحور الثاني المتعلق بإعداد الكفاءات البشرية لكنني أبعث تحية إلى المدربين في جميع المؤسسات التطوعية والحقوقية والثقافية والتعليمية لمحاولتهم تعليم المقهورين وإخفاء التفاوت بين أفراد المجتمع).

في تقديري أن هذا المحور يتصل ببث اللقحات المعنوية في المجتمع وينطلق عبر الاستشهاد بقوة الفعل وليس بعظمة المهنة. وسوف نتوقف عند مهنة متواضعة هي (مهنة الخياطة) ونقصد عدم حصر الأدوار على العلماء والمثقفين نقول: الكل يمكنه المبادرة بالفعل من موقعه ويمكننا ملاحظة أن مهن الأنبياء والصالحين كانت مهن بسيطة ومتنوعة لكنها تختزن عظمة الإرادة وصلابة الموقف، فنبي الله آدم كان مزارعا ونوح كان نجارا وإبراهيم كان بزازا (تاجر أقمشة) وإسماعيل كان قناصا وداود كان حدادا (يصنع الدروع من الحديد) وإسحاق ويعقوب وشعيب وموسى عليهم السلام كانوا يعملون في الرعي، والياس كان نساجا ورسول الله محمد (ص) كان راعيا للغنم ثم تاجرا، أما نبي الله إدريس فقد كان خياطا.

يذكر التاريخ أنه في عهد المعتضد العباسي حدث أن اقترض أحد قادة الجند مالا من عجوز في بغداد ورفض القائد فيما بعد أن يرد المال لصاحبه العجوز.

حاول العجوز استرجاع حقه مرات كثيرة ولم يستطع، عندها إرشده أحد الناس إلى خياط بسيط، حيث قيل له: إنه الوحيد الذي يستطيع أن يحصل لك على مالك.

ذهب العجوز للخياط وأدهشه أنه بلا حراسة ولا خدم أو حشم فقال له اجلس هنا فسرعان ما سأخذ لك بحقك ثم بعث الخياط إلى بيت الضابط، واعلمه بأن يأتي إليه، ومعه نقود الرجل. وبعد لحظات جاء القائد وسلم الرجل العجوز دينه الذي عليه واعتذر له، وبعد إن ذهب الضابط قال العجوز للخياط: كيف أصبحت لك سلطة على هؤلاء؟

فأجابه الخياط: إن لي قصة مفادها إنني كنت جالسا في شرفة بيتي ذات ليلة وإذا بي أرى إن أحد القادة يمر وهو على فرسه من أمام بيتنا، وفي الوقت نفسه كانت هناك امرأة جميلة تمر بهدوء وحشمة، وفجأة ترجل القائد من على ظهر جواده، وامسك بالمرأة، واركبها بالقوة على الجواد وانطلق بها نحو بيته بينما كانت المرأة تصرخ مستغيثة ولكن القائد لم يهتم لذلك كله. فنزلت من الشرفة، وجمعت بعض الرجال، وذهبنا نتشفع في قضيتها، ولكن الضابط أمر الشرطة فضربونا ضربا مبرحا فجئت إلى البيت، لكني لم أذق طعم النوم كنت أفكر في المرأة، وفيما أنا أفكر في ذلك، جاءتني فكرة أن أذهب اإى مئذنة الجامع وأؤذن للصبح، وبالطبع فإن الضابط سيظن أن الصبح قد حان، فيتركها لشأنها وبذلك نفك أسر الفتاة.

وهكذا ذهبت إلى الجامع، وصعدت المئذنة وبدأت أؤذن بصوت عال وما أن أنهيت الأذان حتى رأيت الشرطة وقد أحدقوا بالجامع، وطلبوا مني أن أذهب معهم إلى قصر الخليفة (المعتضد) وأفادوني أنه بانتظاري فذهبت إليه، وكان ممتلئا بالغضب فبادرني قائلا: ما هذا بوقت أذان؟ أليس للبلد أحكام؟.

فقلت له: أطال الله عمر الخليفة أن أحكام البلد قد ديست بالأقدام يوم ترك للكبير أن يفتك بإعراض النساء ولا من رادع. ثم قصصت عليه ما جرى. فأمر بإحضار الضابط والمرأة وبعد أن تأكد من أمرها، أمر بالقائد فقتل، ثم أفرج عن المرأة وأكرمها ثم طلب مني أن أؤذن كلما رأيت انتهاكا لحقوق الناس. وبما أن الخبر شاع بين الضباط والرؤساء فإنهم يهابونني ولهذا كانت لي عليهم سلطة.

نعم يقول بيتريو بيروث «تمنح السلطة بنسبة 20 في المئة وتؤخذ بنسبة 80 في المئة لذا خذها».

إن ثقافة انسحاق الفرد وانعدام ثقته بنفسه وبالآخرين وخوفه من البطش وتفرج الجماعة عليه (ثقافة الفرجة) وعدم نصرته تدفع إلى تجنب المبادرات وتشجع الناس على اللجوء للحلول الآنية والملتوية وتتكئ على ذكاء الفرد الشخصي في حل قضاياه مما يرسم في الأفق معالم إبقاء الديكتاتورية شامخة منيعة والبعد عن التفكير في المصالح العامة وتحمل المسئوليات الدينية والوطنية، بل إن أول من يلومك عند المبادرة هم الأشخاص الذين ضحيت من أجلهم.

من هنا يسود في المجتمعات العربية عبارة تتردد أكثر من غيرها «خير لك ألا تبادر لفعل شئ على أن تفعل فتلام»، وهي ثقافة تحتية تؤطر سلوكيات واتجاهات عامة الناس. ومعلوم أنه يوجد في البلدان العربية عشرات الآلاف من المؤذنين يتقاضون رواتب مجزية ويتنقلون في السيارات الفاخرة لكنها وظيفة وليست رسالة.

الدرس الثاني نتوقف فيه مع روزا باركس - Rosa Parks مع الخياطة البسيطة، حيث تجمع قصتها بين إرادة الأفراد البسطاء وبين دعم المجتمع لقضاياه العادلة فقد كانت قوانين المرور العنصرية في مقاطعة «الأباما» الجنوبية في الولايات المتحدة الأميركية العام 1955 تنص على أن يدفع السود ثمن التذكرة من الباب الأمامي، ثم يصعدون الحافلة من الباب الخلفي كما كان أيضا محظورا على السود وفقا لهذا القانون الجلوس في المقعد المجاور لمرور الركاب بالإضافة إلى أنه يتوجب على الأسود التخلي عن مقعده لصالح الأبيض في حال الزحام.

في ذلك اليوم العظيم قررت الخياطة البسيطة كسر قانون الطاعة ورفضت روزا باركس أن تقوم من مقعدها وتتركه بكل مذلة للرجل الأبيض. هذا الرفض البطولي جعل شرطة مدينة «مونتغري» تفزع لاعتقال هذه المرأة التي كسرت القانون العنصري وتنتزعها بالقوة من مقعدها وتجبرها على دفع غرامة.

موقف هذه الإنسانة البسيطة (الخياطة) كان الشرارة التي أيقضت ضمير المجتمع ضد الظلم والتمييز، وأن لا يقبل بعض الناس العيش في أوطانهم ليكونوا مواطنين من الدرجة الثانية أو الثالثة.

الناقد الياباني نوبوا كي نوتوهارا في كتابه «العرب وجهة نظر يابانية» يرصد بمهارة عالم الاجتماع المثقف: في المجتمعات العربية تغيب المسئولية تجاه أفراد المجتمع «فالسجناء السياسيون ضحوا من أجل المجتمع، ولكن المجتمع نفسه يضحي بأولئك الرجال الشجعان» الناس في البلاد العربية تتعامل مع قضية السجين السياسي على أنها قضية فردية على أسرة السجين أن تواجه أعباءها.

الجميل في حادثة روزا باركس ذلك الدعم من قبل مجتمع السود وبعض الأحرار البيض، حيث تمت مقاطعة الركوب في الحافلات لمدة عام كامل وأصر المجتمع على متابعة القضية في المحكمة التي استمرت مدة 381 يوما وبعدها كسبت روزا باركس القضية وانهزم القانون العنصري إلى غير رجعة حتى شاهدنا اليوم رئيسا أسودا باراك أوباما يقود أميركا بفضل كفاح ونضال البسطاء من الناس.

وزيرة الخارجية الأميركية السابقة كوندوليزا رايس في مراسيم تشييع جنازة روزا باركس العام 2005 علقت بالقول «بأمانة أقول لكم من دون روزا باركس ما كنت سأقف بينكم اليوم كوزيرة للخارجية».

هذا الأسلوب السلمي والبسيط في كسر قانون «وافق» من خلال رفض الطاعة للظلم والمسكنة في اتوبيس الحرية Bus of the Freedom يتوج مقولة «لا يستطيع أحد أن يركب على ظهرك إلا إذا كنت منحنيا».

إن بلورة برنامج ثقافي يخترق حدود الأقلية المثقفة الحساسة لمسألة الكرامة والحرية الفردية بحاجة إلى ضخ لقاحات معنوية تشجع شراكة الجميع في التغيير وكأنه يلوح لي في الأفق القريب ملامح لروزا باركس عربية بسيطة في مهنتها وفي طبقتها الاجتماعية لكنها تملك إرادة فولاذية تكسر حاجز التمييز بين المواطنين.

يقول مارتن لوثر كينج الابن: «اخط الخطوة الأولى بيقين ليس عليك أن ترى الطريق بأكمله فقط اخط الخطوة الأولى».

إقرأ أيضا لـ "منصور القطري"

العدد 2392 - الثلثاء 24 مارس 2009م الموافق 27 ربيع الاول 1430هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً