العدد 2393 - الأربعاء 25 مارس 2009م الموافق 28 ربيع الاول 1430هـ

السعداوي ينسج من الغبار حكايات متناثزة

في فيلمه الاخير

في فيلم «غبار ثمة» محطات ولقطات متقافزة هي التي تصنع الحدث إذ يبدأ الفيلم برجل عجوز، رجل قد أخذ الزمن منه مأخذا، حيث تركز الكاميرا على وجهه المملوء بتجاعيد الزمن، وربما هناك اتصال ما بين عنوان الفيلم غبار وما أوحى به وما بين هذا الرجل الذي هو كالغبار فعلا من أثر الزمن في وجهه حيث يشي كل منهما «الفيلم والرجل» بالغبار.

وها هو السعداوي في سيارته الصغيرة في رفقه صاحبه محمد جناحي في جولة بين أزقة المنامة، يتنقلان من حارة إلى أخرى، ومن شارع لآخر، ربما هي لفتة تسجيلية توثيقية، كمن يريد أن يمسك بالمكان وقد مر عليه الزمان فنحته أشكالا وأبنية خلّف فيها الإنسان البحريني الكثير من أثره حتى ما عدنا ندرك أيا منهما أشبه بالآخر، هل نحن نشبه هذه الأماكن أم أن هذه الأماكن هي التي تشبهنا ولذلك فحن في حنين دائم لها.

وفي قفزة أخرى يدلف بنا المخرج إلى البحر «شايف هذا المكان ممكن يتحول إلى مشهد في فيلم» هكذا بكل بساطة يتم كسر الحاجز بين الواقع والتمثيل فثمة إشارة إلى أن كل ما سبق من مقاطع فلميّة قصيرة لوجوه الناس وللأماكن إنما هي مشاهد لصناعة فيلم، والسعداوي هو مخرج هذا الفيلم وهكذا تتلاحق المشاهد بين حكايات الفيلم المتعددة، وحكاية جمع مادة الفيلم حيث تلاحق الكاميرا السعداوي في رحلته لصناعة فيلمه فلا هو قادر على أن يخرج من ذاته، ولا هو قادر على الدخول للحكاية مباشرة لحكاية الفيلم، نعم إنه ذلك الرجل العالق بين الواقع والتمثيل فلا هو رجل فعلا من لحم ودم ولا هو كائن تمثيلي تصنعه المخيلة بل لعله هو «السعداوي» نفسه أقرب لهذه الحالة التي يجسدها الفليم.

هكذا يأخذ الفيلم في التشكل لقطة بعد لقطة وتترسم خطوطه الكبرى شيئا فشيئا من حكايات متعددة بين خيطٍ تسجيلي وخيطٍ إبداعي، فها هو السعداوي في سيارته الصغيرة يقطع الشوارع ويجوب الحارات مع زميل يبحث عن حكاية هنا أو حكاية هناك ليضمّها في فيلمه ليقول من خلالها ما يريد أو ما تريده الحكاية أو ما نراه ونريده نحن فنحسب أن السعداوي قد قاله عنا وهو ليس له سوى شرف أن جمعنا مع هذه الحكايات الصغيرة، وفعل بالمعنى ما فعله، فثمة إنسان ما من الناس، تشاهده وهو يقطع الصخور ويدوي بصوته كمن يبحث عن شيء، وما هو إلا كائن فيلمي بحت يعترض على مؤلفه يكسر الشاشة فيخرج منها فلا يستطيع السعداوي بعد ذلك التحكم فيه، إنه جائع يريد الأكل، يريد اللباس، يريد عملا في ظل أزمة بطالة تراوح محلها، يجيبه السعداوي ليس لي عندك شيء أنت كائن فلمي فقط وهمي بنظرة محايدة تماما أنت اخترت الخروج إلى الواقع، وأنا لا أستطيع التحّكم في الواقع لتتحمل مسئولية اختيارك، إنها حالة أشبه ببطلة مسرحية «بجماليون» لتوفيق الحكيم، وقد خرجت لعالم العيان بعد أن كانت مجرد تمثال جميل ولكنه ميت إلا من الأحاسيس التي نلبسها إياه فثمة فرق بين الواقع والخيال وهو نفسه الفرق بين عوالم الوهم الجميلة التي يتحكم فيها المؤلف وبين صخور الحقيقة التي نسقط عليها متعثرين عند أولى الخطوات، لعل هذا بعض من المعنى، وماذا سيفعل هذا الخارج للواقع في ظل عولمة تأكل كل شيء كما هو حلم السعداوي «شفت العمارات اللي شفناها قبل قليل حلمت أنها تحوّلت إلى ديناصورات التهمتنا وستلتهم كل شيء»، هذه ليست نبوءة بقدر ما هي نبرة تحذير فثمة فقراء لهم حكاياتهم الصغير التي تسهم في نسج الحكاية الكبرى للفيلم، إنهم يفترشون الشوارع يأكلون من بقاياها، وثمة عالم استهلاكي قاتل أو قل ثقافة استهلاكية قاتلة ترمي بكل شيء من مادة أو من قيم جميلة، لعل هذا ما أوحى به مشهد ركام الصرف الصحي خلف المدينة الجميلة والعمارات الباسقة.

وفي مشهد آخر ثمة عامل فقير هو إنسان ما قد نشهده كل يوم يبحث عن رزقه بعرق شيخوخته المثخنة بغضون زمن بائس، يغسل السيارات في حوار سريع غير مفهوم جيدا إلا من تأوهات من زمن تعيس ومعيشة ضيقة ضنكة، نكتشف بعدها أنه مات بعد أيام فقط من هذا الحوار فتنتسج الحكاية خيوطها بنفسها ليوهمنا السعداوي أنه لم يتحكم بها فانطلق يعد هذا الفيلم من غير سيناريو كما يشير. وإذا كان المثل الإنجليزي يقول: إن الموتى لا يروون الحكايات فإن السعداوي في فليمه هذا كذب هذا المثل فسمح لهم برواية الحكايات فهذا ميت رويت حكايته، وها هم الميتون من تغول عولمة تدهسهم كل يوم يروون حكاياتهم عبر هذه اللقطات المتقافزة من مشهد لآخر ومن محطة لأخرى.

العدد 2393 - الأربعاء 25 مارس 2009م الموافق 28 ربيع الاول 1430هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً