العدد 2869 - الأربعاء 14 يوليو 2010م الموافق 01 شعبان 1431هـ

الأكاديمي «علي الضو» يقرأ مكونات الـموسيقى السودانية ومريديها

في محاضرة بمركز كانو الثقافي

في أمسية ثقافية بمركز كانو الثقافي ألقى الأكاديمي السوداني علي الضو محاضرة في «المعتقد حول الموسيقى والمزامير والاضطراب النفسي» وذلك بحضور مجموعة من المثقفين والمهتمين ورواد المركز.

وقد تناول علي الضو خلال محاضرته مكونات الثقافة الموسيقية السودانية وما تحتويه من تناقضات، وما يُعتقد حول الموسيقى والمزامير وتأثير ذلك على الأفراد الممارسين للنشاط الموسيقي على وجه العموم ومحترفي ذلك النشاط تحديداً. ثم تحدث عن أثر الموسيقى والزمر على الدماغ وبقية أعضاء جسم الإنسان الأخرى. ليصل في نهاية الأمر إلى معرفة كيف لعب المعتقد في السودان دور المنشط لبعض الإشكالات العضوية الناتجة من الزمر والصفير، ما قاد في نهاية المطاف لاضطراب هذا النفر من ممارسي الموسيقى الآلية. واختتم بالتأكيد على خطورة انتقال المكونات الثقافية للغير إلى الثقافات المحلية دون إلمام ودراية كافية، الأمر الذي يفضي لعدم التوازن النفسي والعلل الجسدية والنفسية.

في بداية محاضرته أشار المحاضر الضو إلى أنه من المعلوم أن الترفيه والعلاج من الوظائف الأساسية للفولكلور عموماً والموسيقى خصوصاً، حيث تُوظف الموسيقى في الترفيه لدى مختلف ثقافات العالم، سواء أكان ذلك مباشراً أو ضمن وظائف أخرى تؤديها الموسيقى للمجتمع المعني. وتُستخدم الموسيقى أيضاً في الاتصال وإثارة الحماسة وسط الحشود. كما يستخدمها كثيرٌ من المعالجين التقليديين في عدة مجتمعات، وبعض الأطباء النفسيين، للمساعدة في علاج بعض المرضى، حيث يُعتقد أن الموسيقى تجعل أجزاء أجسامنا المتباعدة تذوب في بعضها البعض مما يؤدي إلى الاسترخاء والسكينة. ويمثل هذا الأمر الجزء الممتلئ من الكأس فقط. فالموسيقى، وهي أصناف متعددة بتعدد الثقافات، يُعتقد أيضاً في إمكانية إيذائها للإنسان وإحداث اضطرابه.


مكونات الثقافة الموسيقية السودانية

يتميز السودان بالثراء في التنوع الثقافي بما في ذلك الثقافة الموسيقية، والتي تُعرّف بأنها التقاء ما هو موسيقي مع ما هو اجتماعي. فتشتهر المناطق الصحراوية بالغناء، لقلة وجود الآلات الموسيقية الناتج عن ضعف توافر الموارد المادية التي يمكن أن تُصنّع منها تلك الآلات. بينما تتعدد هذه الآلات وتتنوع في مناخي السافنا والاستوائي لتوافر النباتات والحيوانات والتي تعين على إتاحة المواد المستخدمة في صنعها. ويمكن النظر عموماً إلى بعض عناصر الثقافة الموسيقية بالسودان من زاوية أخرى، رغم هذا التعدد والتنوع الثقافي، بحسبانها عوامل توحد بين معظم الشعوب فيه على اختلاف أعراقها. وتظهر درجة هذه الوحدة بصفة خاصة في المنظومة النغمية الخماسية الخالية من نصف البعد الصوتي والتي تميز جل الثقافات الموسيقية للمجموعات السودانية. وتُستثنى من ذلك مجموعات صغيرة نسبياً تسيطر على موسيقاها نظم موسيقية أخرى، كالنظام النغمي الخماسي المحتوي على نصف البعد الصوتي أو النظام النغمي السباعي Diatonic. وأهم هذه المجموعات هي البقارة والرشايدة والمواليد (السواكنية).


المكون الثقافي الإفريقي

وأضاف الضو أن المؤدين للموسيقى وممارسيها أناس تجلهم المجتمعات الإفريقية وتضع لهم مكانة اجتماعية مرموقة. ويقع المسئول عن تنظيم العروض الموسيقية في مجتمع «البرتا» بجنوب النيل الأزرق بالسودان، على سبيل المثال لا الحصر، في مرتبة اجتماعية واحدة، من حيث المسئولية والتقدير، مع شيخ القرية (المسئول الإداري) وشيخ العادة (المسئول الديني أو العقدي). ويستعين في جل هذه المجتمعات كل من: العرّاف أو الكاهن أو «الكجور» أو مسئول العقائد، بالموسيقى لأداء مهامه وواجباته تجاه المجتمع. وبالتالي يمرر كل الأجندة العقدية التي يرغب في إيصالها لجموع المؤمنين عبر هذا السياق. ويتوسط في الديانات الإفريقية هؤلاء الكهنة بين الأرض (القطب المؤنث) والإله المطلق (القطب المذكر) ممثلاً في الآلهة الأساسية، السلف والأبطال، الناس الذين رحلوا، والطبيعة والأرواح الأولية.

وقد استعان بعض المسلمين، كرجالات الطرق الصوفية، بالعروض الموسيقية عند محاولاتهم نشر تعاليم الإسلام وسط هذه المجتمعات الإفريقية. فنما بذلك ما يسميه البعض ب «الإسلام الشعبي» والذي يغض الطرف عن بعض أنماط السلوك، لأسباب تربوية... فيتجنب الصوفية حرمان أي شخص يأتي إليهم للمشاركة في الذكر حتى وإن كان مخموراً. ففي رأي بعضهم أن مثل هذا الشخص يحمل بذرة الإيمان وإن غطتها بعض الآثام الآنية. ونعقتد أنه لولا استخدام الطرق الصوفية للسياق الموسيقي في نشر الدعوة الإسلامية لتعطل انتشار الإسلام في سائر إفريقيا.


المكون العربي - الإسلامي

إن الثقافة الموسيقية العربية والواقع الاجتماعي الذي تبلورت فيه، على النقيض تماماً من ذلك المكون الإفريقي، لاختلاف المفاهيم حول الموسيقى ووظيفتها في المجتمع، واختلاف البيئة الطبيعية والعقدية التي تمارس فيها، حيث لم تسمح البيئة الصحراوية بتوافر كثير من عناصر الثقافة المادية المعينة على صنع الآلات الموسيقية، فكانت الغلبة لاستخدام الصوت البشري كأداة أساسية في الفعل الموسيقي، كالحداء، والاستفادة القصوى من جسم الإنسان كالأرجل (رقصة الدبكة) والأيدي (الصفقة). ولهذا يكثر في الأدب المكتوب، الجدل حول السماع وموقف الإسلام منه واختلاف الآراء حوله بين مؤيد ومعارض.

فقد كان العرب لا يمارسون احتراف الموسيقى بل يستمعون إليها. وترى كرستينا نلسن Kristina Nelson أن وظيفة الترفيه هذه والمرتبطة بالموسيقيين المحترفين هي التي تم اختيارها لتتحمل وطأة عدم السماح بممارسة الموسيقى لدى العرب بصفة عامة. وقد ميز هذا الوضع بين المؤدي والمتلقي وجعل ممارسي الموسيقى ومحترفيها في أسفل السلم الاجتماعي. وذلك لارتباط هذه الممارسة تاريخياً بالخدم والقيان، وابتعاد الأشراف وقادة القوم عن احتراف مثل هذا النشاط. وكان هذا الوضع سائداً في الجاهلية، وعندما جاء الإسلام اهتم العرب فقط بموقف الدين من «السماع» ودار جدل كثير حوله. فقد كان أمر ممارسة الموسيقى لا يعني العرب وقتها في شيء. وكان جل الذين يمارسونها ينتمون إلى أعراق الأعاجم الذين وفدوا إلى جزيرتهم إما بالاسترقاق أو بالنزوح.

وكان العرب ينظرون بدونية لممارسة الغناء وينأون بأنفسهم وأهليهم عن الاقتراب منها. ولعل المبرر الذي أورده جورج فارمر Henry G. Farmer عن ابن خلدون حول عدم ممارسة العرب للغناء ليس كافياً. فقد ذكر أن ابن خلدون قال: «إن العرب شغلتهم الرياسة وما دُفعوا إليه من القيام بالملك عن القيام بالعلم والفن والنظر فيهما واستنكفوا عنهما، ودفعوهما إلى من قام بهما من الموالي الذين كان الشطر الأكبر منهم عجماًَ». صحيح أن الملوك كانوا في ذلك الزمان، وربما لايزالون، يستنكفون عن الاشتغال بالفنون، وأن ذلك الأمر لم يقتصر فقط على العرب والمسلمين. ولكننا نرى أن أمر العرب مع الموسيقى لم يكن انشغالاً، بل موقفاً اجتماعياً متكاملاً. إذ لم يكن كل العرب من الملوك يتولون الرياسة. لقد كان الأمر مرتبطاً بالمكانة الاجتماعية للذين يمارسون الغناء والموسيقى. ففي الماضي، كما ورد في العقد الفريد «كان أصل الغناء ومعدنه في عبيد أمهات القرى من بلاد العرب ظاهراً فاشياً، وهي المدينة والطائف وخيبر ووادي القرى ودومة الجندل واليمامة، وهذه القرى مجامع أسواق العرب».

جعل ماضي الثقافة الموسيقية العربية وإرثها الاجتماعي المسلمين ينظرون إلى الموسيقيين بدونية وكره يصل حد التطرف. فقد اعتبر الاشتغال بالغناء على الدوام سفهاً تردّ به الشهادة. وفي هذا قال الشافعي: «الغناء مكروه يشبه الباطل ومن أكثر منه فهو سفيه ترد شهادته».


المعتقدات حول الموسيقى والمزامير بالسودان

يُعتبر المعتقد حول الموسيقى أحد العناصر الرئيسة المكونة للثقافة الموسيقية والتي تشتمل بجانب ذلك على التنظيم الاجتماعي والمخزون الموسيقي والثقافة المادية. ويُعنى المعتقد حول الموسيقى، كما يرى جيف تيتون Titon، بالإجابة على عدة تساؤلات منها: ماهية الموسيقى، وهل هي من صنع الإنسان أم إلهام؟ هل هي مفيدة للإنسان، أم مضرة؟

وتمنع جل المجتمعات السودانية الصبية عن الصفير على وجه العموم والصفير عند مغيب الشمس على وجه التحديد. ويُعتقد أن حلول الظلام مرتبط بحضور الأرواح الشريرة كالجن والشياطين، ويسهل الصفير أمر استدعائها. فقد ذكر بعض عازفي المزامير في المقابلات التي أجريناها معهم أن آباءهم إما اعترضوا على تعلمهم العزف على المزامير ابتداءً أو منعوهم من ممارسة عزفها بالمساكن بدعوى أنها تستدعي الجن والشياطين. وهناك اعتقاد شائع أن العزف من صوت الجن ويمكن استحضارهم بصوت العزف. ويُصرح بأن الآلات الموسيقية من أكبر الوسائل التي يغوي بها الشيطان الرجال تأثيراً. فالآلة الموسيقية هي مؤذن الشيطان يدعو لعبادته.

ويعتبر كثير من قاطني جنوب النيل الأزرق أن الصفير بالفم رجس من عمل الشيطان ويحضون على تجنبه. كما يُعتقد في مجتمع القّارة بغرب السودان أن قمة الكفر هي: القُجّة عند الكبير والصفير عند الصغير. ففي زمن الجاهلية كانت قريش الكافرة تطوف بالبيت عراة تصفر وتصفق، و(المُكاء) الصفير، والتصدية التصفيق، لقوله تعالى «وَمَا كَانَ صَلاَتُهُمْ عِندَ الْبَيْتِ إِلاَّ مُكَاء وَتَصْدِيَةً فَذُوقُواْ الْعَذَابَ بِمَا كُنتُمْ تَكْفُرُونَ» (الأنفال: الآية 35). وذلك هو سبب اعتبار العرب الصفير إغواءً من الشيطان حتى اليوم.


أثر الموسيقى والزمر على الدماغ وأعضاء الجسم الأخرى

أبان وليد الشوبكي أن الباحثين قد توصلوا إلى أن تعلم الموسيقى، ولو كان لفترة محددة، يؤثر على وظائف المخ عبر إعادة ضبط استجاباتها للترددات الموسيقية. وبناءً على هذه النتائج أدرك الباحثون أنه صار ممكناً الآن تحديد النغمات أو الترددات المهمة لكل كائن حي (أي المؤثرة على أمنه وغذائه وما إلى ذلك) من خلال رسم الخريطة الترددية للقشرة السمعية، عن طريق رصد النغمة الموسيقية التي تحدث أقصى استجابة من معظم خلايا القشرة السمعية. فمخ الإنسان، كما أبانت تلك الأبحاث، يتعامل مع كل من الموسيقى والكلام بصورة مستقلة. أي أن الموسيقى تُوجد بالمخ في مكان غير الذي يوجد به الكلام. فإن حدث اضطراب للإنسان، فقد تختل لديه ذاكرة الكلام وتبقى ذاكرة الموسيقى متقدةً، بحيث يمكنه العزف على آلته الموسيقية أو أداء ما يحفظ من أغانٍ.

ويرى البعض أن هناك ثمة علاقة واضحة بين التأليف الموسيقي والجنون، حيث يعمل هذا التجريد في الموسيقى على إخراج منتجيها من عالم الواقع إلى عوالم يخلقونها هم لأنفسهم ويعيشون فيها. فقد ذكر أحمد عكاشة أن الدراسات التي قام بها الأطباء النفسيون تبين مدى انتشار المرض العقلي بين المؤلفين الموسيقيين، وخاصة الدراسة التي أجراها «ترثون» في كتابه المعنون: المرض العقلي والموسيقى. ويرى أخوان الصفا: «أن كل جنس من أجناس الحيوان إنما يأنس ويُسر بما كان من نغمات جنسه ويجتمع به ويألفه بحسب ما جرت عادته وألِفت طباعه، وينفر من صوت آخر يكون من جنس غيره ولم تجر عادته بسماعه ولا ألِفته. وكذلك جميع الأمم من أصناف الناس».


كيف اضطرب عازفو المزامير بالسودان؟

يمثل إرث الثقافة العربية الإسلامية والذي صادف بواكير محترفي الموسيقى في السودان، ولكنه ظل حاضراً حتى يومنا هذا، عملاً مؤرقاً للبعض ويأخذ مساحةً من تفكيرهم. فيؤدي أحياناً، ومعه عوامل أخرى، إما إلى الهروب بترك النشاط الموسيقي والانغماس في عالم التصوف، أو الهروب إلى عالم المسكرات والمخدرات، كأنما هذا السلوك صار يرتبط شرطياً بالنشاط الموسيقي. فتعكس التوبة التي قال بها بعض محترفي الموسيقى بالسودان التاركين لهذا النشاط حالة التنازع والصراع الداخلي التي ظلت تلازم هؤلاء النفر حتى لحظة اتخاذ القرار والهروب للتصوف بالتوبة. ويكون النوع الآخر من الهروب، والمتمثل في الانغماس في المسائل المادية المذهبة للعقل، أحد العناصر السالبة التي تتجمع في نهاية المطاف لدى بعض الفئة المعنية بهذه الدراسة لتسهم مع غيرها من العناصر العضوية والعقدية - الاجتماعية في اضطرابهم نفسياً.

وتصل ضغوط المجتمع على محترفي النشاط الموسيقي قمتها حين الحديث عن عازفي المزامير. وذلك فيما يُعتقد من ارتباط هذه المزامير والصفير الذي تصدره تحديداً بالشياطين. ويذهب البعض إلى أن المزامير ممنوعة أو محرمة على حد اعتقاد بعض المسلمين. وحتى وإن لم يأخذ كثيرٌ من هؤلاء العازفين هذا الاعتقاد حينها مأخذ الجد وظلوا على ممارستهم تلك، إلا أن الأمر يكون مختزناً في اللاوعي ويتم استدعاؤه لا شعورياً حال حدوث اضطرابات. وإن كان مرد تلك الاضطرابات أسباب عضوية ناتجة عن الإفراط في التمارين، أو أخطاء الممارسة، أو الأصوات الحادة الصادرة من المزمار نفسه والمؤثرة على الجهاز السمعي.

يجهل هذه المسائل جل محترفي العزف على المزامير في السودان لقصور أو انعدام منهجية التدرب على هذه الآلات. وهذا يعني أن جلهم يفرطون على الدوام في النفخ عند محاولتهم العزف على الأصوات العليا لآلة موسيقية يمتد مداها لواحدٍ وعشرين صوتاً. ويقود هذا الأمر بدوره إلى إرهاق الجهاز التنفسي، حيث تعمل الرئتان كمنفاخ يمول الفم بالعمود الهوائي، بينما تُوظف الشفة العليا كريشة مفردة بحيث تتذبذب في ارتباط مع حافة الفتحة الموجودة على رأس المزمار بغرض إصدار الصوت الموسيقي.

ولا تواجه هذه الإشكالية لدى عازفي المزامير التقليدية للأسباب التالية: أولاً لمحدودية المدى الصوتي والذي لا يتعدى في بعضها أو جلها خمسة أصوات. ثانياً لاستخدام أسلوب «التباعض» في حال المزامير التي يتجاوز مداها ذلك، حيث يقوم كل عازف لهذه المزامير بإصدار صوت واحد فقط لتتمكن المجموعة المكونة من عشرة عازفين من بناء خطين لحنيين متوازيين. فلا يكون العازف مضطراً في مثل هذه الحالة للإتيان بالصوت وقراره أو جوابه من ذات المزمار أو البوق. ثالثاً للتدرب على تقنيات النفس الإرادي مع وضع المزامير المصنوعة من القرع في الماء حتى يعمل تمدد القرع على إغلاق الفجوات التي يمكن أن يتسرب منها الهواء ما يفضي إلى إرهاق الجهاز التنفسي للعازف.

العدد 2869 - الأربعاء 14 يوليو 2010م الموافق 01 شعبان 1431هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً