العدد 860 - الأربعاء 12 يناير 2005م الموافق 01 ذي الحجة 1425هـ

بريطانيا والإصلاحات... وهيئة الاتحاد الوطني

أحمد حميدان comments [at] alwasatnews.com

باحث بحريني

لا يغيب عن إدراك أي دارس متأمل لتاريخ البحرين الحديث وخصوصا الفترة الممتدة ما بين نهاية القرن التاسع عشر وما بعد منتصف القرن العشرين الذي شهد قيام هيئة الاتحاد الوطني؛ أن هذا التاريخ شكل تداخلا وتوافقا بين النضال من أجل الإصلاح والديمقراطية والتقدم والانعتاق من التخلف وهيمنة الاستعمار البريطاني.

كما لا يمكن تقديم رؤية موضوعية للهيئة بعد مرور خمسين عاما على قيامها و48 عاما على اختفائها من دون الربط الموضوعي بين هذه الأركان وتسليط الأضواء عليها وكشف جميع أوجه الغموض المحيطة بها.

وقد اخترنا إلقاء الضوء على الدور البريطاني في حركة الإصلاح قبل قيام الهيئة والموقف البريطاني من هيئة الاتحاد الوطني ومطالبها الإصلاحية وشكل العلاقة بين هذين القطبين بشكل خاص.

من المعروف أن بريطانيا وعلى رغم وجودها الطويل في المنطقة فإنها اكتفت في علاقاتها بحكامها بالالتزام بتقديم الحماية الخارجية لهم من دون إلزام نفسها بأية التزامات أخرى، وذلك انطلاقا من نظرتها القائمة على اعتبار الخليج "بحيرة بريطانية" مغلقة ومن الحاجة إلى ضمان حركة الملاحة والمواصلات مع الهند، درة التاج البريطاني. وبالتالي فإنها ابتعدت عن الانغماس في الشأن الداخلي إلا بما يخدم هذا الهدف ويضمن إبعاد هذه المشيخات عن أية منازعات داخلية وعن تدخل قوى إقليمية أو استعمارية أخرى.

وقد أتت الاتفاقات الكثيرة التي وقعتها بريطانيا مع حكام البحرين وحكام الخليج الآخرين تعكس هذه الاستراتيجية التي تضمن هيمنتها على المنطقة واستفرادها باستغلال ثرواتها الطبيعية المحتملة من معدنية ونفطية وغيرها.

وأبرز هذه المعاهدات هي معاهدات ،1820 ،1880 ،1886 1892 ومنها الاتفاق المانع Exclusive التي يتعهد فيها الشيخ بعدم إقامة أية علاقات مع أية حكومة أخرى غير الحكومة البريطانية إلا بموافقة هذه الأخيرة وألا يقوم بالتخلي عن أي جزء من أراضيه أو إعطاء أي امتياز يتعلق بصيد اللؤلؤ أو النفط إلا بموافقة الحكومة البريطانية.

ولعل أول إصلاح أثار اهتمام الإنجليز وحماسهم هو ذلك المرتبط بالتجارة، فمنذ العام 1860 اهتموا بإنشاء إدارة منتظمة للجمارك، وفي العام 1888 أوكلت مسئوليتها إلى سنديكالية من التجار الهنود المحليين، الأمر الذي أدى إلى ازدياد التجارة بنسبة 40 في المئة. وبعد عقد من الزمن ابتعثت حكومة الهند في 1899 أحد الخبراء في الجمارك ثم أسندت المسئولية في العام التالي إلى شخص أوروبي إذ حققت التجارة ارتفاعا بنسبة 57 في المئة بين العامين 1905 - .1906 وأدى تزايد الحضور البريطاني في مطلع القرن إلى ابتعاث أول وكيل سياسي هو J.C.Jaskin الذي وصل في 15 فبراير/ شباط 1900 إلى البحرين.

كما فتحت شكويان العام 1905 عن إساءة معاملة رعايا أجانب الباب لانغماس بريطانيا في شئون الإدارة المحلية. وكان أخطر الشكويين تلك المرتبطة بتعرض أحد شركاء "Wonekhaus" الألمانية العاملة في مجال تجارة اللؤلؤ إلى سوء المعاملة على يد أحد أقرباء الحاكم على أرضية تطبيق حق السخرة، إذ جاء رد فعل الوكيل السياسي قاسيا باحتجاز أحد الشيوخ والتهديد بقصف المدينة إذا لم تتم الاستجابة لشروطه المتمثلة في دفع غرامة قيمتها 2000 روبية للرعية الألماني ونفي المتهم بالإساءة خمس سنوات وإلغاء أعمال السخرة عن الأجانب. وقد أسندت السلطات البريطانية إلى الوكيل السياسي كل ما يتصل بحماية الأجانب وتعززت تلك الإجراءات فيما بعد بإصدار ما يعرف بـ The Bahrain order in council في يوليو/ تموز 1913 الذي حسم أمر تبعية الأجانب قضائيا لسلطات الوكيل السياسي، الذي أصبح له الحق كذلك في تعيين نصف أعضاء مجلسي العرفي والسالفة وعدم اعتماد الأحكام الصادرة عن القضاة المعينين من قبل الحاكم إلا بعد الحصول على موافقته.

بعد توقف قصير أملته الحرب العالمية الأولى والحاجة إلى البحرين كنقطة ارتكاز للقوات المرسلة من الهند إلى العراق، عاود الإنجليز الضغط لتمرير باقي إصلاحاتهم وسط استمرار الشكاوى من التجاوزات القائمة في مجال معاملة الفلاحين ونزاعات ملكية الأراضي وحول قيمة ضمان المزارع للفلاحين والمطالب بإصلاح القضاء والضرائب غير العادلة وغيرها، وخصوصا بعد وصول الميجر دايلي العام 1921 الذي استفاد من خبرة سابقيه والآراء التي كانت متداولة بشأن الإصلاحات ورسم لنفسه خطة تبدأ بعزل الشيخ عمن أسماهم بأصدقاء السوء بالاستناد إلى حجة كبر سنه وضعفه، وممارسة الضغط عليه لدفعه إلى التخلي عن جزء من سلطاته لابنه الشيخ حمد.

ومنذ نهاية 1922 حصلت حكومة الهند على موافقة لندن التي أصبحت تشاطر وكلاءها المحليين ضرورة الإسراع في إدخال الإصلاحات لقطع الطريق على تدخلات ابن سعود والإيرانيين منهية بذلك جدلا طويلا حول الإصلاحات. وكتب نائب الملك في حكومة الهند في 17 ابريل/ نيسان إلى وزير الخارجية في لندن يخبره باستقرار العزم على استخدام جميع الوسائل الممكنة لحمل الشيخ عيسى على القبول بالإصلاحات وإدخالها كما لو كانت نابعة عن إرادته وأنه "... يجب علينا أن نجعله يدرك أن حمايتنا له هي وحدها الكفيلة بمنع رعاياه من التمرد عليه وأننا سنساعده على إدخال الإصلاحات. وإذا ما فشلنا فإننا سنقوم بالأمر وحدنا حتى لو اقتضى ذلك عزل الشيخ عيسى وإبعاد الشيخ عبدالله". ولا داعي لاستعراض تداعيات الحوادث وخصوصا بعد حوادث شهر مايو/ أيار 1923 وإسراع Knox الحضور إلى البحرين وسط مظاهرة بحرية وعزل الشيخ عيسى.

وكان الإصلاح الأول والأبرز هو ذلك المتعلق باتخاذ قرار تحويل عائدات الجمارك التي تشكل العائد الأساسي إلى حساب مفتوح باسم حكومة البحرين كما تم تحديد مخصصات تقاعدية للشيخ عيسى وكذلك مخصصات لأعضاء العائلة الحاكمة وضمت القائمة حينها 72 اسما وقد سمح هذا الإصلاح بإعداد أول موازنة حكومية رسمية.

وتم إنشاء دار للحكومة إذ يشرف الشيخ حمد بن عيسى بن علي ال خليفة والميجر دايلي على متابعة الأمور وجرى التخطيط لإنشاء قوة للشرطة، ولإجراء مسح للأملاك والأراضي ودائرة للطابو وللأوقاف، وألغيت الضرائب المفروضة على قسم من السكان والعمل على جعلها أكثر إنصافا ومطبقة على الجميع، كما ألغيت "السخرة" وعمل على إدخال إصلاح على نظام الغوص يلغي توارث الديون، ويقيم نظاما محاسبيا حديثا لعلاقات الغوص. ومع ذلك فإن حكومة الهند مازالت على تشككها من المضي أبعد مما يجب إذ كتبت في نهاية يوليو 1924 تعلم المقيم السياسي اهتمامها بالإصلاحات واعتقادها بأنها قد تجاوزت ما كان متصورا في البداية إذ إنه "... بالرجوع إلى التفاصيل بما هو مقترح حاليا فإنها تشعر بأن كلا من المقيم السياسي والوكيل قد أظهرا ميلا لمعاملة الجزيرة وإلى حد بعيد على القدر نفسه لمعاملة ولاية هندية". إلا أن المقيم السياسي يجيب بأن الشيخ حمد يتفق بشكل كامل مع الإصلاحات الأربعة الرئيسية المتعلقة بالجمارك والبلدية، وتعزيز وإصلاح الدخل وإصلاحات الغوص.

ولابد من الإشارة إلى أن الشيخ عيسى لم يعط موافقته الطوعية، وقد استثمرت العناصر المناوئة لإدخال الإصلاح والمكونة من تحالف غير واضح من الجماعات المؤيدة للشيخ عيسى بن علي ومن بعض العناصر الوطنية السنية المتنورة والتي كانت تعارض منذ البداية إدخال القوانين الإنجليزية وانتزاع حق مقاضاة الأجانب. وتداعت في 26 أكتوبر/ تشرين الأول 1923 إلى مؤتمر تقدمت من خلاله بعدة مطالب للسلطات الإنجليزية منها استمرار الشيخ عيسى في إدارة الأمور، وخضوع جميع القوانين للشريعة الإسلامية، واحترام الإنجليز للمعاهدات التي تربطهم بحكام البحرين وعدم التدخل في الشئون الداخلية للبلاد. كما طالبت بتأسيس مجلس شورى.

وفي السابع من شهر نوفمبر/ تشرين الثاني استدعى المقيم السياسي في الخليج تريفور الذي وصل على عجل قادة الحركة إلى الاجتماع به لمناقشتهم في مطالبهم إذ قام بعزل أبرز قائدين في المجموعة: عبدالوهاب الزياني وأحمد بن لاحج اللذين وجدا نفسيهما محتجزين طوال اليوم وحملا بالقوة في المساء إلى ظهر بارجة حملتهما إلى أبوشهر ومن ثم إلى منفاهما في الهند.

ويمكن القول إن هذه الإصلاحات وإن جاءت بشكل قسري إلا أنها أنقذت النظام من أخطر أزماته البنيوية التي تهدد استقراره وقد اقتصرت على الجانب الإداري والمالي والقضائي وتجاوزت مطلب المشاركة الشعبية أو الديمقراطية. وفي الواقع فإن هذا المطلب الأخير لم يلق حينها الدعم إلا من فئة محدودة، بل إن ارتباطه بخليط من العناصر المناوئة للإصلاح والمحسوبة على التجاوزات والانتهاكات التي جاءت الإصلاحات لتضع حدا لها قد أساء إلى قوة الدفع باتجاهه وجعل الأطراف الأخرى تفضل البقاء على الحياد، والتزام الحذر. كما أنه لم يسجل حتى هذه اللحظة التقاء إرادة العناصر الفاعلة من الطائفتين في سابقة عمل مشترك في مجال الحركة المطلبية.

إلا أن التطورات التي شهدتها البلاد منذ البدء بهذه الإصلاحات وخلال العقدين التاليين قد تجاوزتها. فقد شهد التركيب الاجتماعي والثقافي نموا واسعا انعكس في ازدياد عدد المتعلمين ونشوء طبقة تجارية أوسع، وسمحت الإصلاحات لقطاعات واسعة من الشيعة بالخروج من عزلتهم واستطاعت شريحة منهم الاستقرار في العاصمة والاندماج في طبقة التجار. كما أدى استخراج النفط إلى بروز الطبقة العاملة واطراد حضورها وبروز همومها وقضاياها في مجرى النضال العام وخصوصا في حركة 1938 وإضرابات الأربعينات. لذلك فإنه ومنذ حركة 1938 نشأت قوى جديدة استطاعت أن تخرج بالحركة المطلبية الإصلاحية من أسار المطالب الفئوية وشكلت نقلة مهمة على طريق قيام حركة الخمسينات.

ومن دون الدخول في مجريات حركة الثلاثينات الأمر الذي يخرج عن الهدف من هذه الورقة المختصرة فإننا نود التوقف فقط عند تطور مهم في علاقة الإنجليز بالحركة المطلبية وموقفهم منها، ذلك أنه ومنذ منتصف الثلاثينات ومع تجدد المطالب الإصلاحية انطلق جدل واسع في صفوف المسئولين الإنجليز المحليين ومن ضمنهم بلغريف الذي أمل الإنجليز من الدفع بتعيينه أن يكون مساعدا للوكيل السياسي، وبين المسئولين في حكومة الهند بشأن الموقف من الإصلاحات وقد أعطت هذه الأخيرة رأيها القاطع بأنه يجب ألا توجه أية مطالب ذات صيغة تمثيلية إلى الحاكم كالاقتراح بإدخال هيئات شعبية أو هيئات للمجتمع المدني ذات صفة ديمقراطية.

إلا أن الجدل تجدد بعد حركة 1938 وفي أثنائها بين بلغريف والوكيل السياسي والمقيم السياسي إذ كان الأولان يتوليان الدفاع عن عدم القيام بأية إجراءات إضافية أو ممارسة أي ضغط جديد على الحاكم. ففي نوفمبر 1938 يكتب الوكيل السياسي إلى المقيم بادئا بالاحتجاج على مقارنة البحرين بالكويت التي سبقت في قيام حركة الثلاثينات كما قدم له عريضة أعدها بلغريف مدفوعة من قبل بعض العناصر الموالية لإظهار التأييد للحاكم وليساند دفاعه عن الحاكم ضد ممارسة أي ضغط ضده أو محاولة إقامة أي مجلس إذ إن العائلة الحاكمة حينها كما يقول مازالت تحت الصدمة المخيفة لما حدث في الكويت: "... فلنضع أنفسنا مكانهم فماذا يرون؟ لقد كنا وراء عزل الشيخ عيسى واستبداله بابنه، وفرضنا إصلاحاتنا... إلخ". إن المفاجأة المرعبة ستسود صفوف العائلة الحاكمة إذا ما قارنا البحرين مع الكويت ودبي! وإذا ما تنكرنا للإدارة التي أقمناها بأنفسنا وسيسود بينهم الشعور بالمرارة وقناعة بأننا قمنا بخيانتهم... وسيبدأ الشعب إعطاء الحق للمحرضين والنشطاء. وختم بالاستنتاج أن ما كان حلا في الكويت لن يكون هنا إلا كارثة .

ويرد عليه المقيم السياسي في ديسمبر/ كانون الأول مفندا حججه مع الحرص على التأكيد أنه لا يسعى إلى أي شكل من أشكال ممارسة الضغط أو الـ "Forcing" وإنما لنصح الشيوخ فقط ولفت انتباههم إلى حقيقة أن حكومة اوتوقراطية تشكل هدفا جيدا وينتقد تمركز السلطات في يد بلغريف ومدافعا عن وجهة نظره هو القائلة إن من الأفضل إعطاء تنازل صغير قبل أن يكون الحاكم مجبرا على الموافقة على تقديم تنازل كبير ويقترح تشكيل لجنة رقابة على المالية والتعليم. وقد لقيت هذه الاقتراحات وخصوصا ما يتعلق بمجلس استشاري وباللجان الرفض المطلق من قبل بلغريف والوكيل السياسي وبذلك فإن المقيم السياسي قد اضطر إلى التراجع مسجلا قبوله بتأجيل النصح بإقامة مجلس استشاري لوقت لاحق حينما يهدأ الوضع، وحيث يصبح ممكنا النصح حينها بأنه إذا لم يتم تقديم تراجع باتجاه هذا الهدف فإن المسئولية ستقع وبشكل عام عليهم، حينما يجبرون على تقديم تنازل أكبر يتمثل في مجلس تنفيذي. ومع ذلك فإن ما يوافق عليه الوكيل السياسي والمقيم كحد أدنى هو القيام بخطوات تدريجية باتجاه نوع من الحكم الذي يمثل الناس وفي الواقع فإن حكومة الهند لم تكن تمتلك أي نوع من السياسة الطويلة المدى ودفعت بالحفاظ على ما هو قائم على تطوير بطيء، ولابد من الأخذ في الحسبان هنا الاعتبارات الاستراتيجية العليا بالنسبة إلى بريطانيا التي أصبحت تنطلق من إعطاء أهمية أكبر لوضعها الاستراتيجي في المنطقة الذي تعزز بإنشاء القاعدة البحرية والخط الجوي وكذلك الحاجة إلى النفط الذي دخل في هذه الاعتبارات وخصوصا مع نذر الحرب العالمية.

وبعد أكثر من عقد ونصف العقد من الزمن اختار الوطنيون الذين عاشوا حركة الثلاثينات عن قرب واستوعبوا مصيرها المأسوي وما تلاها من سنوات انسدت فيها آفاق التغيير وتوقفت الإصلاحات على رغم الطفرة التي تحققت في التعليم والوعي والانفتاح على العالم أن يتبعوا طريق النضال الديمقراطي الإصلاحي تاركين قضية الدور الذي يلعبه البريطانيون وعلاقاتهم المستقبلية بالبلاد في إطار المسكوت عنه. ولم تبد حركتهم حين تقدموا بمطالبهم أي اعتراض على شرعية النظام القائم ولا علاقاته مع بريطانيا العظمى. بل وعلى العكس حاولوا أن يستميلوها إلى جانب مطالبهم إن أمكن.

ومن جانبهم، تبنى الإنجليز موقفا متحفظا وحذرا نابع من تشككهم المبالغ فيه من تأثيرات التغيرات في المنطقة وفي البلاد والظواهر التي كانوا يرصدونها منذ الأربعينات من تنام للوعي الوطني والحركة النشطة للأندية والصحافة والوليدة والتجاوب الكبير مع حركة مصدق وصعود حركة التحرر الوطني العربية والمد الناصري والإسقاطات التي عكستها على الواقع البحريني عملية الاستغناء عن خدمات غلوب باشا في الأردن والرغبة الشعبية المتزايدة في إنهاء خدمات بلغريف. وبذلك فإنه وبمجرد انطلاق حركة الهيئة برزا مجددا الأسئلة لدى الممثلين المحليين البريطانيين حول الموقف الواجب اتباعه. فهل يجب عليهم الضغط على الحاكم إما للقبول بالمطالب السياسية للهيئة، وحوادث تحسينات في إدارته أو التقليل من مدى الدعم المقدم إليه.

وكانت الهيئة سعت جاهدة إلى توصيل رأيها إلى الرسميين البريطانيين. وقد بدأت ذلك بتقديم نسخة من المطالب التي تقدمت بها إلى الحاكم في أكتوبر 1954 والتي تتضمن:

1- تأسيس مجلس تشريعي يمثل أهالي البلاد تمثيلا صحيحا عن طريق الانتخابات الحرة.

2- وضع قانون عام للبلاد جنائي ومدني.

3- السماح بتأليف نقابة للعمال ولأصحاب المهن الحرة.

4- تأسيس محكمة عليا للنقض والإبرام مهمتها الفصل في الخلافات التي تطرأ بين السلطتين التشريعية والتنفيذية.

وعلى رغم فشلها في لقاء وزير الخارجية البريطاني "انطوني ايدن" أثناء زيارته البلاد في فبراير 1955 ولقائه مع الحاكم فإنها حرصت على رفع مذكرة بوجهات نظرها إليه عبر المقيم السياسي الذي رد بدوره عليها بأمر من الوزير بتاريخ 17 مارس/ آذار 1955 اعتبرتها الهيئة جافة في أسلوبها وتتجاهل مطالبها الأساسية بل وتذكرها بما ينبغي عليها القيام به من تعاون مع الحكومة التي بدأت في رأيه في تحقيق الإصلاحات التي يعدد بعضها ويشير إلى أن الحكومة البريطانية أوفدت أحد موظفيها الكبار وهو الخبير في شئون العمل والعمال المستر أوزلي ليقوم بدراسة مبدئية، وانه ينتظر الانتهاء من سن قانون جنائي ووجود مستشار قضائي بريطاني في البحرين وينصحها بالمشاركة إلى أبعد حد في اللجان المختلفة والمجالس المنتخبة المتاحة لها كما يحذرها من التفكير في أي عمل من أعمال العنف أو الوسائل غير المشروعة أو احداث أي تخريب أو عدم تعاون.

وعلى رغم تأكد السلطات البريطانية والبحرينية من الصفة التمثيلية للهيئة منذ انطلاق الحركة مرورا بالنجاح المنقطع النظير للإضراب الأول الذي دعت إليه والالتزام بقرار مقاطعة انتخابات بلدية المنامة في فبراير 1955 التي كانت الهيئة ترى فيها مؤسسة غير مستقلة عن الحكومة فإن قضية الاعتراف الرسمي بالهيئة ظلت تراوح مكانها حتى 18 مارس 1956 ومع ذلك ظلت الهيئة تمارس قدرا من المرونة في التعاطي مع الاقتراحات والإصلاحات المطروحة بل وقبلت بدخول انتخابات مجلس الصحة والتعليم وفقا لقاعدة 50/50 أو مبدأ المناصفة بين التعيين والانتخابات وذلك فيما يبدو في محاولة جديدة لإثبات مرونتها، وإثبات تمتعها بقوة تمثيل الشعب إذ حصلت في نوفمبر العام 1955 على 93 في المئة من الأصوات في تلك الانتخابات إلا أن التجربة فشلت أمام مناورة جديدة من السلطات حين قررت ترجيح أصواتها في المجالس من خلال تعيين رئيس لكل منهما والإصرار على تعيين أعداد من خصوم الهيئة الذين خسروا الانتخابات بشكل كاسح.

إلا أن حركة المد والجزر هذه قد طالت وهو ما راكم حال التوتر. وضاعف حادثين مهمين من تلك الحال إذ إنهما عكسا المزاج الشعبي العام تجاه عدم التقدم في إحراز نتائج ملموسة. وتمثل الحادث الأول فيما تعرض له موكب وزير الخارجية البريطاني سلوين لويد أثناء توقفه القصير في البحرين بتاريخ 2 مارس 1956 إذ جوبه بمظاهرة غاضبة وتعرض لحصار لفترة وصل التوتر فيها حدته برمي الموكب بالحجارة والهتافات بضرورة رحيل بلغريف. وتبعه في 11 من الشهر نفسه حادث البلدية الذي تطور من شجار عادي بين مفتش في البلدية الكائنة بالقرب من سوق "الخضار" بالمنامة وبعض الباعة سرعان ما تحول إلى تداع بين الباعة والجمهور وتفجرت حال من الغضب وحصار لمبنى البلدية تبعه قيام الشرطة بإطلاق النار وسقوط عدد من القتلى والجرحى وإضراب استمر عدة أيام.

ومع ذلك فإنه وإن بدا للحظة أن المساعي قد نجحت في التغلب على آثار هذين الحادثين وان الطرفين قد تجاوزا الأزمة القائمة والجمود وعودة المباحثات بين الحكومة والهيئة فإن ذلك لم يكن إلا مظهرا خادعا، وأظهرت التطورات اللاحقة أن الإنجليز والنظام لم يكونا يسعيان إلا لكسب الوقت والإعداد للجولة الآتية. وقد أعادت الإصلاحات المعلنة بتشكيل مجلس إداري والاعتراف بالهيئة، ومجلسين للصحة والتعليم وغيرها الحوار بين الجانبين مجددا، إلا أنها في النهاية وصلت إلى طريق مسدود بإصرار الهيئة على عدم التخلي عن مطالبها الأساسية وتغليب عنصر المنتخبين في المجالس. وشهدت الفترة الأخيرة من عمر الهيئة حركة شد وجذب جديدة دفعتها إلى التصلب في مواقعها، وأظهرت التطورات اللاحقة أن الإنجليز والنظام لم يكونا يسعيان في الحقيقة إلا لكسب الوقت والإعداد للجولة الآتية وأنهما قد أصبحا مصممين علي التخلص من الحركة في حال لم يفلحا في احتوائها. وأول الدلائل على هذا التوجه هو الإصرار على إبعاد الأمين العام للهيئة عبدالرحمن الباكر مع العلم بأنه الشخصية الوطنية الأكثر ديناميكية وتفرغا وتأثيرا على احتواء مختلف التيارات والآراء فيها وعلى ضبط ما ينشأ من تناقضات في صفوفها. كما أنه يمتلك القدرة على الموازنة بين التيار الوطني والقومي والعناصر الإصلاحية الأخرى ومع العلم كذلك بأن وجوده الدائم في البحرين وانتظام عمل الهيئة يعطيها فرصة أكبر لتحقيق المزيد من التجانس الداخلي وتغليب إمكانات تحولها المطرد إلى حركة وطنية تجمع بين الاتجاه القومي العربي والنضال الديمقراطي والإصلاحي المحسوب الخطوات باتجاه تحقيق الأهداف.

وتكشف الوثائق البريطانية أن التفكير الجدي وبدء الإعداد للخطوات العملية لذلك قد بدأت بعد حادث سلوين لويد التي نجم عنها إبقاء قوة بريطانية صغيرة بشكل دائم كما دار الحديث والأسئلة على مستويات عدة عن ضرورة التخلص من الهيئة ولم تكن حال الغضب الشعبي العام وتفجر المظاهرات التي تلت العدوان الثلاثي على مصر في نهاية أكتوبر 1956م، وبعض أعمال التخريب التي انطلقت على رغم محاولات الهيئة لضبط الشارع إلا الفرصة المواتية لتنفيذ هذا القرار.

* باحث بحريني، والورقة قدمت في حلقة نقاش في ذكرى محاكمات هيئة الاتحاد الوطني، التي عقدت يوم من ديمسمبر الماضي

العدد 860 - الأربعاء 12 يناير 2005م الموافق 01 ذي الحجة 1425هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً