العدد 874 - الأربعاء 26 يناير 2005م الموافق 15 ذي الحجة 1425هـ

تأثيث المكان بمزيد من الضوء

جعفر الجمري jaffar.aljamri [at] alwasatnews.com

-

"لماذا نموت قبل أن نتقن عادات الحياة؟" الشاعر الألماني ريلكه ليس ترفا ذلك الذي مارسه الأولون بالرحيل والسفر الدائم الذي يقطعون خلاله آلاف الأميال لتأمل وجوه وحرف وأسواق وحمامات ومكتبات وقلاع. هو رياضة للروح قبل أن يكون رياضة معرفية، ومواجهة مع إدمان الروح والجسد على الإقامة في المكان الواحد والفضاء الواحد، ونبش في الأمكنة التي تزدحم بالأضواء، مثلما هو تجرؤ على الزوايا الأقل إضاءة، أو تلك المعتمة.

والسفر جزء من عادات الحياة الواعية التي متى ما أتقنها الإنسان، شعر في لحظة ما انه تزود من الحياة بأهم وأفخر زادها، وذلك هو عين ما تساءل عنه الشاعر الألماني ريلكه.

وهنالك بشر يلوثهم السفر فيعودون أدراجهم وهم ملأى بالأدران، ذلك انهم اصطفوا اللذة من الأمكنة، أو ربما مارسوا غيابا، فيما الحضور هو عقل الشاهد على المتغير فيها، والمتحول من بشرها، والمتحرك من وعيهم، وسفر كذاك هو مشروع نكوص وتلويث للروح وإظلام لها، فيما السفر عذاب جميل يمارس مرانه عليك عن رضا منك وقناعة وبل وتوسل أحيانا. ذلك انك ستعود أدراجك محملا بالنفيس مما كان محجوبا وموارى ومغيبا.

والكتابة لا شك ضرب من السفر، ولكنها أقل غواية من سفر المعاينة والمشاهدة والالتحام ببشر هم على الضفة الأخرى من الأرض والحركة والحياة، ولكأن مثل تلك المعاينة والمشاهدة اختبار حي لصدق ما تحياه، ورؤية أخرى لصورة وحقيقة ما تكتنز به روحك من عجز أو قوة... رحمة أو بطش... معرفة أو قلة حيلة في الدراية.

ولم يتأت للإنسان أن يقفز من محيطه الموحش الخالي من الاجتماع "الغابة" الا عن طريق تلك القفزة النوعية التي وضعته على الطريق الصحيحة لاكتشاف وتطوير امكاناته، الا عن طريق السفر. ولم يقفز قفزته المذهلة الأخرى الا حين تجاوز محيطه الصغير وراح مترجلا بحثا عن مزيد من الاكتشاف لتطوير اجتماعه والذي يعني في المحصلة النهائية تطويرا لروحه وتعرية لها كما أشار البير كامو.

ولأن السفر في ظل اختزال المسافات يحرم المرء من معاينة الطريق التي سلكها، فلا يقبض من سفره الا على الوصول، عادت مساحة التصحر في الروح الى سابق عهدها، وباتت المشاهدات مختزلة، والاكتساب هو الآخر مختزل، والمحصلة النهائية... امتداد وتوسع حالات "التوحش" التي هرب منها الانسان في بيئته الأولى سعيا وراء اجتماع أرقى يراكم التجربة.

السفر: محاولة لتأثيث المكان الأول بمزيد من الضوء، فيما الإقامة إصرار على ممارسة فعل الارتطام بالأشياء في ظل عتمة مقيمة.

يحيلك الى معناك المؤجل، ورياضة إتقان عادات الحياة... والتحليق بأجنحة لا يراها إلا الراسخون في السفر الى الأمكنة المليئة بذهب التجربة.

الذين لم يسافروا، يظلون سجناء غرفة البيت المحكم إغلاقه من الخارج، فيما المفاتيح على بعد مليون ميل. والذين أتيح لهم السفر يتسكعون في المياه كما يتسكعون في يابسة العالم، غرفهم المدن الكبرى، وصالاتهم القارات، وحدائقهم هذا الكوكب من أقصاه الى أقصاه

إقرأ أيضا لـ "جعفر الجمري"

العدد 874 - الأربعاء 26 يناير 2005م الموافق 15 ذي الحجة 1425هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً