العدد 879 - الإثنين 31 يناير 2005م الموافق 20 ذي الحجة 1425هـ

نظرة إلى التطرف والمطاردات الأمنية في الكويت

من فكرة "إحنا... غير" إلى رفض السينما والجامعات

محمد غانم الرميحي comments [at] alwasatnews.com

واحدة من الأفكار التي تحتاج إلى مراجعة في الكويت مقولة "إحنا غير"، أي أننا مختلفون عن الآخرين، لا يجري علينا ما يجري عليهم، وهي قد تكون مقولة مغرية للراحة، وربما فيها بعض الصحة، ولكنها صحة نسبية، وتسمع أيضا من البعض أن التطرف قد لا يصل إلى الكويت، مادام النفط يغذي شرايين الاقتصاد في بلد صغير متعارف أهله.

مثل هذه المقولات تعتمد على الرغبة في تأخير معالجة ما يجب أن يعالج، ومع أزيز الرصاص في بعض شوارع الكويت، والمطاردات الأمنية، وسقوط الضحايا لم نعد مختلفين كثيرا عن الآخرين، ولم نعد في وادي النظر بعيدا عن المرآة لمعرفة الحقائق.

لم يكن كاتب هذه السطور ليؤمن - منذ أن بدأت معالم التطرف تنتقل من القول إلى الفعل في منطقتنا، وتحديدا منذ الحادي عشر من سبتمبر/ أيلول - بأن هناك دولة في المنطقة ستكون بعيدة عن رذاذ هذا التطرف. لم تكن البحبوحة المالية قادرة على تقديم المناعة، كما لم تكن الحاجة المادية دافعة كليا إلى التطرف. كانت هناك مرجعية أكبر من اليسر والعسر، من المشاركة أو الحرمان منها، هي المرجعية الفكرية، فمتى أصبح الشخص مقتنعا بأن كل ما حوله "كفر" والعياذ بالله، أصبح مقتنعا بأن كل الآخرين خارجون عن الملة، وجبت حربهم، وتختلف الحروب من القول المغلظ إلى الفعل المبرمج.

وإذا لم يكن ما حدث في الأسابيع الأخيرة في الكويت بقادر على أن يعد بعضنا لمراجعة نظرية "إحنا غير" فهي قد تكون مثلبة وطنية، إلا أن إعادة النظر هنا لها شروطها، فهي لابد أن تتوازن بين التهويل والتهوين، فكلاهما ضار على البلاد والعباد.

الإرهاب بكل أشكاله وفي كل العصور يبدأ فكريا، أكان هذا الإرهاب يتعاطى الموضوع القومي أو الفئوي أو السياسي أو الديني. إنه إخضاع جمهرة الناس أولا لمقولات يبدو للآخرين صعوبة اختراقها، وما نحن بصدده هو أن يظهر البعض مسلما ومن ليس بمعيته في التفكير كافرا أو علمانيا، لا وهي صيغة مبطنة للصيغة الأولى وأخف منها، والتسليم بمثل هذه الأطروحات مقدمة للتسليم والموافقة على احتكار الفكرة والرأي ومن ثم الدين، وهي هنا الإسلام، دين الناس جميعا في هذا البلد. ومحاولة قصره على فئة هي مقدمة منطقية للتحكم في الشعور الشعبي، ومن ثم استخدامه سياسيا، وهي تكتيكات لم تنج منها الوطنية أو غيرها من الشعارات التي تستخدم لإشاعة جو من الإرهاب الفكري، وصولا لإذعان الآخرين لكل ما يطرح والسير خلفه من دون مناقشة.

كون الكويت بلدا مسلما عرف أهلها بكونهم مسلمين تقاة سلم الكثيرون منهم بطيب خاطر على سرقة الشعار واستخدامه سياسيا، والتسليم بحد ذاته خلق مرجعية خارج المرجعية الوطنية، التي من المفروض أن يكون المواطنون فيها متساوين.

وتبدأ المقولات تأخذ طريقها في الصغائر أولا ثم تنتقل إلى الكبائر، لا للقطات البث التلفزيوني، ثم لا لاستخدام عبارات بعينها في الترحيب والمباركة، وتغييرها إلى عبارات أخرى، ثم لا للتعليم المشترك، ثم لا لانخراط المرأة في الشأن العام، ثم لا للمصارف العامة المعروفة، ثم لا للسينما، ثم لا للدستور ثم لا للقوانين، ثم لا لأشياء أخرى كثيرة تقود في النهاية إلى أن تفرض تلك القوى برنامجها على الناس، في سبيل طلب النصرة السياسية، ثم تتحول بعض فرقها إلى العنف في ظروف معينة، وتحت تأثيرات أخرى مصاحبة، من أجل تحقيق تغيير في المجتمع بالقوة، هو تغيير سياسي في صلبه ملبس بلبوس الدين.

لعل أفضل ما سمعت في هذا الأمر من رأي شجاع، وقد قيل على الملأ في إحدى الندوات التلفزيونية، ما قاله أمير منطقة عسير، الأمير خالد الفيصل، الذي لاحظ بثاقب بصيرة تعليقا على مثل هذا الموضوع من الترضية، "إننا قد تخلصنا من أشخاص حركة جهيمان "التي احتلت جماعته المتعصبة الحرم المكي العام 1979" ولكننا تبنينا أفكارهم". تلك المقولة الثاقبة أيدتها دراسات علمية عدة اطلعت عليها، وهي تجمع على حقيقة تقول كم هي مخادعة للنفس الاستجابة لأفكار خاطئة مؤسسة على مقولات قيلت لزمن مختلف آخر، على أنها من صلب الإسلام، بناء على تصور بالاحتواء والاسترضاء، ولقد أثبتت دراسات من حولنا في هذا الموضوع أن "الاسترضاء" خوفا أو طمعا من قبل الدولة، في مصر والجزائر وغيرهما من البلدان، أدى إلى إغراء المتطرفين بالاستمرار والتوسع. فمن محاولة قتل المرحوم فرج فودة، الذي شهد المرحوم محمد الغزالي في المحكمة بتحليل دمه في الشارع، إلى محاولة قتل الرئيس حسني مبارك في إثيوبيا في يونيو/ حزيران .1995 إنها دورة عنف كاملة أصبحت تؤلف فيها الكتب.

حقيقة الأمر أن دور الدين في الدولة الحديثة يحتاج إلى تعريف، فالرضا بأن الدين ملك لجماعات بعينها في المجتمع، هو بدء المنطق الخطأ، لأنه يقود حكما إلى الافتراض أن من ليس منضما إلى هذه الجماعة هو خارج بالضرورة عن الدين، وإن افترضنا جدلا ذلك، وهو افتراض نظري وخاطئ، فمن هي الجماعة تحديدا، وهم كثر في تجمعات مختلفة، تكاد تكون متناحرة فيما بينها، التي تدعي بالصحيح من الدين الذي يجب أن نتبعها؟

معظم الجماعات المتلبسة بغطاء الدين هو لباس من أجل الدنيا "السياسة". وفي عالمنا العربي لم يتسن لها حتى الآن الوصول إلى السلطة، من وصل إليها تجربة وحيدة هي السودان "إذا استثنينا طالبان وهي ذات ظروف أخرى". ففي السودان اليوم استدارة إلى النقطة الأولى، بالاعتراف بالتعددية، والمشاركة في السلطة والثروة، وبأن الدين لله والوطن للجميع، بعد أن ظنت الخرطوم في وقت ما أنها منطلق للثورة الإسلامية "السنية"، واحتضنت فيما احتضنت أطياف التشدد من كارلوس الإرهابي الأشهر إلى بن لادن الأكثر شهرة اليوم.

العودة إلى القرن الثامن عشر

كل التجربة الواسعة في السنوات الماضية على الأرض أثبتت بما لا يرقى إلى الشك، أنه وإن استطاعت بعض هذه الجماعات الحشد وأتقنت مفاعيل التنظيم خصوصا للشباب، فإن التجربة أثبتت أيضا في أماكن كثيرة أنها منيت بفشل ذريع في تقديم برنامج حياتي واقتصادي متماسك، وبرنامج سياسي مستساغ، فليس هناك كثيرون في عالمنا ممن يودون اليوم أن يعودوا إلى حياة القرن الثامن الميلادي. بعض تلك الجماعات ارتدت إلى تكتيكات السلب والنهب والتكفير والزجر، وها هي تجربة عريضة في كل من مصر والجزائر والسودان، وحتى البوسنة ماثلة للعيان. بل وصلت إلى التقوقع والإجرام، شهدت عليها مقولة الأمير الثالث للجماعة الجزائرية زوابري، فقد قال: "في حربنا لا مكان للحياد، باستثناء الذين معنا، كل الآخرين مرتدون"!

كل هذه التجارب تقول إن العنف كوسيلة للقفز على السلطة وتطويع المجتمع قد فشلت فشلا ذريعا، إلا أن المشكلة تبقى في الدولة الحديثة ذات جانبين، الأول ثقافي، والثانى سياسي وإداري. فالخطأ الذي حذر منه مرارا وهو ألا ينهى عن السلوك العنفي الشاذ ذاك، وتتبنى السلطة المختلفة مقولاته وإرشاداته، فهي غالبا نقلية ومختلف عليها، تضيق المساحة الاجتماعية وتهيئ الأرض لظهور جيل آخر من العنف، وثانيا وربما في مستوى الأهمية نفسه، النظر في فتح مغاليق هيكلية بيروقراطية حرون، منعت الناس أشياءهم. فالتزود في مدارسنا بقيم لا يمكن إيجادها في دولة ومجتمع دنيوي تؤهل الشباب بسهولة لتشرب المقولات المتطرفة فيخرج الشاب حائرا بين ما يراه وما يتخيله.

الإبحار في اليم الغزير للعصرنة يحتاج إلى شجاعة، وتقديم نموذج قابل للاستمرار يريح الناس، ولابد من الاعتراف بأن هناك ممانعة بشكل ما من ولوج التغيير المبرمج، ترددا أو خوفا من النتائج، وهناك في الوقت نفسه شكوى من تراكمات لمشكلات لم تحل لا تخفى على أحد. في هذه المراوحة يكمن الخطر، فالإسلام بخير، كان هكذا لقرون وسيظل لقرون مقبلة. التحدي الحقيقي هو بناء الدولة العصرية التي لا تحتاج إلى الدخول في أبوابها الصحيحة والصحية إلى كثير من التفكير، فالأدوات معروفة، وليست بخافية على اللبيب

إقرأ أيضا لـ "محمد غانم الرميحي"

العدد 879 - الإثنين 31 يناير 2005م الموافق 20 ذي الحجة 1425هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً